"الصمت والمنفى والحيلة"، الحكمة الجويسية الشهيرة، سيتخذها عبدالفتاح خليل زوادة له قبل الانطلاق في رحلة طويلة ستبعده عن بلده لمدة عشر سنوات، ثم يعود إليها أخيراً متسللاً بخطى اللص، فاذا هي قد شاخت وترهّلت وأحنتْ ظهرها لأوبئة الزمن وطغيان ديكتاتور عجوز ينفث خوفه الهستيري من الموت سُماً في شرايينها. إنها ترشيش، يغادرها عبدالفتاح وهي في ذروة الانتشاء بهيجان جيل جديد يتطلع نحو مستقبل عامر بالاحلام. بحثاً عن فرديته هاجر عبدالفتاح مؤكداً لصديقه الشاعر ياسين، ليلة الوداع، "أن الشرق لا يصنع الافراد بل القبائل، وأنه قرر أن يتغرب كي يحس بفرديته كما يجب". وها هو يعود، بعد عشر سنوات من الترحال في أقاصي الأرض، فتبدأ رحلة البحث عن ترشيش. رحلة في الماضي، في أغوار الذات وفي تاريخ جيل: جيل السبعينات الذي بدا لفرط اندفاعه وحماسته وكأنه مقبل على تحريك ركود التاريخ، واعداً بعهد جديد، عهد الشعر والحرية والعدالة. لكن ماذا يجد عبدالفتاح عند عودته؟ "خوف على الوجوه، على الجدران، على الاشجار، على البنايات، على شاطئ البحر، خوف في ذبذبات الهواء...". وستكون عينه بحكم المسافة التي انشأها الغياب، قادرة على التقاط جزئيات الحاضر المليء بالغموض، وجزئيات الماضي الموغل في الهروب. هنا تشرع الاحداث في التواتر والأزمنة في التقاطع. ويتجلّى ماض شفاف نسبياً، صاخب بالوعود لكنه لا يخلو من توترات. شخصيات الماضي تأخذ الكلمة مباشرة لتخبر عن ذاتها، وينسحب الراوي لأنه لا يريد أن ينوب عن أحد، حتى لكأنه أحياناً يتخلى عن عبدالفتاح ليصغي إلى الآخرين. رحلة شاقة وشيقة من بار الميناء إلى حانة الكانيجو فبار الزنوج ثم مكتبة العيون الصافية وصولاً إلى أزقة المدينة العتيقة بمقاهيها القديمة وأسواقها. بهارات وعطورات وسهرات معربدة هازجة. وتصعد على المسرح وجوه مغمورة: علي الدوعاجي الكاتب العصامي الساخر الذي "عاش يتمنى عنبة"، حبيبة مسيكة الممثلة والمغنية الشهيرة التي أحرقها زوجها، محمد العريبي ذلك المثقف الغامض الذي مات في ليلة شتاء قاسية في شوارع باريس، سي البشير خريّف رائد الرواية التونسية الذي ظل متمسكاً ببيته القديم داخل المدينة العتيقة "يراقب خراب نفسه"، بعد أن ارتحل الكل من حوله باتجاه الضواحي الجديدة. عبر سنوات الحلم والجنون، يبحث عبدالفتاح عن الاصدقاء وعن وعود الماضي، يظل يلهث متعثراً في الخيبة تلو الخيبة: عمار شاخ قبل الأوان وذبل وتراعى، ياسين الشاعر المتقد انتحر، جمعة الثوري الصاخب صار موظفاً في ادارة البوليس وزينب التي هام بها ابناء ذلك الجيل وتهيجوا بزغاريدها وسط هراوات الميليشيات والقنابل المسيلة للدموع، تزوجت وأولت ظهرها لفردوس الاحلام والجنون: "كل شيء غدا الآن حطاماً". وإذا عبدالفتاح سندباد مهزوم يعود ليطل على خرائب الفجيعة ثم يرتحل من جديد، لكن باتجاه الصحراء. "هلوسات ترشيش" "دار توبقال" تغريبة جيل ولد داخل جلبة الوعود وفتح عينيه على غابة من الاحلام، ثم عايش تداعيها، وهو يقف الآن مندهشاً مرتعباً أمام الصدى الهائل والكريه لذلك الانهيار. بهذه الرواية يؤكد حسونة المصباحي جرأته على اقتحام مناطق الظلّ والتصاقه بحميمية الاحداث النابضة بالحياة. يشدّ القارئ ويمتعه بلغته الحية المتينة والبسيطة والمرحة في الآن ذاته. لغة تنفر من الغوغاء والتجرد والتصنع، تحتفي بعري الواقع وتنتشي بتعريته، بسخرية لذيذة، قاسية حيناً، ورقيقة أحياناً إلى حد الانكسار.