"أزمنة من غبار" سلسلة روايات "الهلال" - القاهرة للكاتب المصري ناصر عراق، رواية تسعى الى نفض الغبار عن مسيرة جيل عاش في كنف الأمل مُتسلحاً بقوته، جيل فتَّش عن الحرية في مناخات سياسية سرية حافلة بالتفاصيل الصعبة والقاسية. وقد حدد الكاتب اطاراً لعمله الروائي من خلال حياة أسرة عامل بسيط على مدى أكثر من ربع قرن، كانت بدايتها بُعيد هزيمة 1967، هزيمة العرب أمام إسرائيل، تلك التي ما زالت تحفر مراراتها في الوجدان العربي الى اليوم. "أزمنة من غبار"تسعى الى رصد خيوط الأمل في أحلام جيل الثمانينات من القرن الماضي، وينطلق هذا السعي من تفاصيل كثيرة تبدأ من التعبير الحيوي، مروراً بسلاسة اللغة وصولاً الى التفسير الواضح.يضعنا ناصر عراق في روايته أمام اليأس الملطخ بالجراح والقلق الدائم الممتد على مساحة الوطن الكبير. فثمة جروح تصعد من حروف الرواية، جروح جيل من الشباب تمسَّك بخشبة أحلام كانت بمثابة الضفة الأخرى التي يمكن العيش في ثناياها بكل ثقة واستعداد دائم لابتكار اللغة القادرة على امتلاك الحياة بكل ابداعاتها وجمالها وناسها، ضفة الحياة الجديدة التي ينشدها كل متعطش للحب والحرية... وفي مقابل هذا الشعور كانت هناك أيضاً خيبة وانكسارات لازمت كل فرد من هؤلاء، فبدت الرواية صورة كبيرة ترسم السؤال الكبير: كيف ومتى وأين يستطيع الانسان تحقيق غايته في الحياة؟ هذا السؤال حاولت"أزمنة من غبار"الإجابة عنه من خلال ثلاثة محاور، الأب عبدالعزيز الذي مات والده العامل والفلاح وهو في عمر مبكر ورفضت امه أن يبقى أجيراً في ظل حياة اقطاعية ترفضها، فقررت نقله الى عمل آخر، فأرسلته الى مصانع الغزل والنسيج في المحلة، وسرعان ما قررت نقله الى مصانع"شبرا الخيمة". كل هذه الأمور كانت في أربعينات القرن السابق حيث شهد وعرف وشارك في النضال العمالي ضد الاستعمار، علماً انه لم يكن على صلة بأحزاب يسارية ماركسية كانت منتشرة في ذلك الزمن، بل كان على علاقة وثيقة بالروح الاشتراكية، وكأنه رضع منها فتأصلت في داخله. ثم جاءت ثورة يوليو فتطور عمله في هذه الاثناء وانتقل من القطاع الخاص الى القطاع العام وتالياً، تطورت حياته وانتقل من حياة فقيرة جداً في"شبرا البلد"الى بيت أنيق شقة من ثلاث غرف وصالة وفيها صنبور ماء. تحسنت أحواله لكنه على رغم هذا التحسن لم يغب عن باله ان ما يحدث"ليس هو الدرب الصحيح الذي يوصله الى الحرية"... أيضاً ثمة انعطافة كبيرة حدثت وتمثلت في تلك الهزيمة المدوية، هزيمة 1967. ثم توالت الأحداث بعدها فتنحى جمال عبدالناصر عن السلطة ثم توفي... وحلّ أنور السادات في الرئاسة وسرعان ما دخل في حرب اكتوبر التي راح فيها ابنه الأكبر. لكن هذه الحرب لم تكن إلا كابوساً على مصر وعلى الأمة العربية وتالياً لم تكن إلا مأساة اضافية لفقراء البلاد. ولكن في المقابل، مهَّدت هذه الحرب لبروز طبقة سياسية جديدة استولت على الوطن ومقدراته وباتت السلطة التالية التي اصطدم بها جيل بأكمله. في المحور الثاني انتقل ناصر عراق مع غبار أزمنته الى الجيل الثاني ومن هذا الجيل الذي سُلِّط عليه الضوء الابن"خالد"ومعه البقية الوافية والوفية من أبناء جيله، يتقاطعون في دائرة الأحلام الصاخبة والفقر. لقد اقتنعوا بفكرة تقول ان الحرية والعدالة والمساواة لا يمكن ان تتحقق إلا عبر نشاط صارم، ويتلخص هذا النشاط في الانخراط ضمن حزب ماركسي. لقد وجدوا انفسهم، هم أبناء هذا الجيل، جيل الثمانينات، في مساحة يستطيعون من خلالها الاهتداء أو التعرف جلياً الى أحلام الحرية... إلا أن ذلك جعلهم يدفعون ثمناً كبيراً. خسر خالد سهى نصار، حبه الوحيد، وتزامنت هذه الخسارة مع عجز كبير يتلخص بالقول: العجز عن تحقيق أي رغبة أو شيء أو أي حلم. هكذا تحول المشهد وانقلب: لم يستطع تحقيق أبسط أحلامه، لا الحلم بالحرية والعدالة تحقق، ولا حلمه في أن يكون ممثلاً معروفاً أو فناناً تشكيلياً معروفاً، انه مجرد مدرِّس عادي بائس ويائس والتعاسة ترسم صورته الغاضبة والمقهورة. كذلك اكتشف معه الرفاق ان"هذا الطريق هو الطريق الخطأ"، فانفرط عقد الرفاق، وصاروا في مساحات مختلفة. هاجرت كل مجموعة في اتجاه نحو أوروبا والخليج ولم تعد تجمعهم الأمكنة ولا الأزمنة، ووصل"خالد"بعد هزائم وخيبات وعذابات لا يمكن وصفها الى قناعة تقول ان هذا الزمن ليس زمن الأحلام الممكنة إنما زمن الأحلام المستحيلة. جيل الثمانينات الذي ترسمه"أزمنة من غبار"وتلونه لم يكن يتمتع بقدرة تخوله تحقيق الحلم، على رغم ان الرواية تحرص على القول انه جيل لم يعش مثلاً حلم الرئيس عبدالناصر، كما لم يستطع الاستفادة منه في شكل وآخر أو مباشر... انه جيل ذاق طعم الخيبة حين آمن بالاشتراكية في الوقت الذي تبدد سيدها الاتحاد السوفياتي وتلته الكتلة - كتلة الدول الاشتراكية في أوروبا التي انهارت بسرعة وكأنها مبنية على أساس من رماد، وهكذا اكتمل المشهد مشهد الخيبة والانكسار في مساحة الجيل وعلى رؤوس هذا الجيل. اما المحور الثالث فلم ترسم معالمه الرواية، بل حافظت على اشارات ودلالات ناطقة بالمعنى المفتوح على تنوعات التفسير. لكن الكاتب ناصر عراق حاول ان يضع نفسه في مكانة الناظِر الى المستقبل من دون ان يتوسع في الشرح، مكتفياً بالإشارات والتفاصيل السريعة. يبقى القول، ان ناصر عراق حين كتب روايته تأثّر بذاته أكثر مما تأثر بأزمنة الماضي، فهو فنان وناقد تشكيلي. ومشاهِد الوصف والتعبير في"أزمنة من غبار"تبدو مرسومة أو مكتوبة بالريشة ومراقبة بعين الناقد. لذلك من يقرأ هذه الرواية يكاد يرى ما يقرأ وأحياناً يجد نفسه متأملاً ألوان الأحلام والخيبات...