عصر يوم الثلثاء في الخامس والعشرين من شهر تموز يوليو شيعت دمشق، في مأتم رسمي وحزبي وشعبي كبير، آخر الاحياء من اعضاء اللجنة التنفيذية للاممية الشيوعية المعروفة باسم الكومنترن الذي تم حله رسمياً وصفيت مؤسساته في اثناء الحرب العالمية الثانية عام 1943. مات خالد بكداش القائد الشيوعي الشهير عن عمر مديد مخلفاً سيرة سياسية طويلة وغنية امتدت على اكثر من ستة عقود، وهي من اكثر السير السياسية المتنازع على تقويمها ان لم يكن اكثرها على الاطلاق. ففي حين يعتبره كثيرون، في سورية وفي الاقطار العربية الاخرى، وفي اوساط الحركة التقدمية في العالم، ابرز الشخصيات الشيوعية العربية، يعتبره كثيرون ايضاً، من الشيوعيين والتقدميين في البلدان العربية وخارج هذه البلدان، مشكلة الشيوعيين العرب الكبرى، والعامل الاساس في اضعافهم، والمصدر الرئيس للنزاعات والصراعات والانقسامات التي عرفتها حركتهم وقامت بينهم وبين الاحزاب والحركات والقوى الاخرى في أزمنة عديدة ومناطق مختلفة من الوطن العربي الكبير. وثمة تقويمات اخرى تتفاوت بين من يثمن عالياً ومن يدين، الا ان الجميع يعترفون بأن اسم خالد بكداش ودوره كانا حاضرين، بصورة بارزة، منذ مطلع الثلاثينات وحتى ايامنا، في كل الاحداث التي عرفتها سورية، وفي ابرز الاحداث السياسية في الوطن العربي الكبير. وازعم ان هذا التناقض الكبير في تقويم شخصية خالد بكداش ودوره وسيرته السياسية انما يعكس، في آن، غنى هذه الشخصية وتناقضاتها الذاتية، الى انعكاس التحولات الحادة التي شهدها تاريخ منطقتنا وتاريخ العالم، على امتداد هذا القرن المشرف على نهايته، في تقويم دور بكداش واسهاماته الحزبية والسياسية. فسيرة الرجل عرفت عدداً من الارقام القياسية، ان جاز استخدام هذا التعبير. فهو كان الاصغر سناً بين اعضاء اللجنة التنفيذية للكومنترن التي ضمت، الى زعماء شاركوا في قيادة ثورة اكتوبر في روسيا، قادة كباراً لعبوا ادواراً بارزة في بلدانهم وفي العالم، من اشهرهم ديمتروف وفوتولد وتوريز وتولياتي. وهو شغل طوال اكثر من ستين عاماً، منصب الامين العام لحزب شيوعي، لحزب الشيوعيين في سورية ولبنان حتى عام 1964 اولاً، وللحزب الشيوعي السوري بعد هذا التاريخ، ولواحد من حزبين شيوعيين في سورية في سنواته الاخيرة، وهو ايضاً اول نائب شيوعي ينتخب في انتخابات نيابية حرة وديموقراطية في بلد عربي. فقد انتخب نائباً في دمشق صيف عام 1954 بعد الاطاحة بديكتاتورية الشيشكلي العسكرية، وكان هو وخالد العظم المرشحين الوحيدين اللذين فازا منذ الدورة الاولى وبعدد كبير من الاصوات. وهو ايضاً القائد الشيوعي العربي الوحيد الذي لعب قبل الحرب العالمية الثانية دوراً في دعم الجبهة الشعبية في اسبانيا وانتدب من قبل الكومنترن للذهاب الى شمال افريقيا في محاولة لثني الجنود المغاربة عن تنفيذ اوامر الجنرال فرنكو الذي زحف، في اواسط الثلاثينات بقواته من الصحراء الغربية والمناطق المغربية الاخرى التي كانت تستعمرها اسبانيا لضرب الجمهورية الاسبانية واقامة ديكتاتوريته ونظامه الفاشي في مجزرة من اكبر المجازر التي عرفتها البشرية. كل ذلك، مضافاً الى ثقافة واسعة، ومعرفة بلغات عديدة، واسلوب شيق في الكتابة، وبلاغة خطابية، وظرف وحضور مميز، وكاريزما طبيعية، قد كون لشخصيته هالة خاصة عززها وظهرها قمع سلطات الانتداب الفرنسي والديكتاتوريات العسكرية المتتالية. وعاظم في تعزيز بروز شخصية بكداش وتظهرها ما تطور في عصر ستالين من "تأليه" لزعماء الاحزاب الشيوعية واضفاء صفات استثنائية عليهم. اعتنى خالد، والذين كانوا يدينون له شخصياً بمناصبهم الحزبية ومواقعهم في الحياة العامة، بقوننتها ودفعها الى حدودها القصوى وتكوين آليتها الخاصة. وادى ذلك، بطبيعة الحال، الى مبالغات كبيرة في النظرة اليه، والى قدراته وكفاءاته وصفاته الشخصية، والى دوره في قيادة الحزب وفي كل انتصار ونجاح حصل. اما النكسات والهزائم والاخطاء فاعتبرت، بفعل الآلية نفسها، من صنع الآخرين ومن قصورهم وضحالة فكرهم وقلة وعيهم، ومن عجزهم عن مواكبة القائد وفهم توجيهاته والارتقاء الى مستواه. وكان ابرز مثال على سيادة هذا الجو في العلاقات الحزبية مداولات اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في سورية ولبنان في اعقاب المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي الذي ادان ستالين ونهجه وتأليه شخصيته. فقد خلص هذا الاجتماع، الشهير بسوئه، الى قرار غريب يوافق على ادانة السوفيات نهج ستالين، الا انه يؤكد ان العدوى لم تطل الحزب في سورية ولبنان وان ما يشكو منه هذا الحزب هو كسل الرفاق في القيادة وعجزهم، وضحالة ثقافتهم، والفقر في فكرهم بحيث يضطر الامين العام، اي خالد بكداش، الى تعويض هذا النقص والعجز والضحالة في الثقافة والفقر في الفكر، الى الحلول محل القيادة وبذل الجهود المضاعفة ليحول دون الاخطاء والنكسات والهزائم. ومن طبيعة الامور ان يؤدي هذا المناخ الذي ساد طويلاً في قيادة الحزب الى ابتعاد مثقفين كبار عنه، في فترات متلاحقة، وان يعاني مناضلون كفوءون عديدون حزبيون ونقابيون من تدابير ادارية قمعية ومن حالات عزل، ومن تشويه لتاريخهم ولسمعتهم، وان يبعدوا عن مواقع القرار والمسؤولية، وان يعاني الحزب بسبب ذلك ونتيجة مباشرة له، من اكثر من حركة انقسامية كان اهمها انفصال منظمة الحزب في لبنان وتحولها الى حزب مستقل تماماً بقيادته وفكره ونهجه وتنظيمه، وان تكر سلسلة الانقسامات في سورية، على امتداد حوالي العقدين، لتستقر رسمياً على حزبين شيوعيين مستقل واحدهما عن الآخر ويشترك كلاهما في الجبهة الوطنية التقدمية ويمثلان في مجلس الشعب ويشاركان في الحكومة بوزير لكل منهما. وقد ادت الانقسامات الكثيرة والاضطراب الذي ساد صفوف الشيوعيين السوريين في العقدين المنصرمين، بفعل التناقض الحاد في الموقف من بكداش ونهجه واسلوبه في العمل القيادي، وبفعل تمحور الصراع بين الشيوعيين السوريين حول هذا التناقض بالذات وطغيانه على كل التناقضات الاخرى، القائمة فعلاً، وعلى المشكلات التي تواجه المجتمع والحياة السياسية في سورية، وقد ادى كل ذلك الى ابتعاد ألوف من ملاكات الحزب واعضائه السابقين، والى رفضهم للحزبين القائمين حالياً، والى بقائهم على هامش تلك الحياة وخارجها. الا انه من الظلم تحميل خالد بكداش وحده المسؤولية. ومن الظلم ايضاً تحميل المسؤولية له ولرفاقه فقط. فالحزب الشيوعي السوري، شأنه شأن العديد من الاحزاب الشيوعية الاخرى، حمل منذ ولادته امراضاً نشأت في بيئتها الطبيعية في الكومنترن الذي ولّد هذه الاحزاب وساس شؤونها كلها. استمرت هذه الامراض التكوينية البنيوية بعد حل هذا الاخير، بفعل الموقع المؤثر الذي كان يحتله الحزب الشيوعي السوفياتي في الحركة الشيوعية العالمية وما كان يعطي لنفسه من حقوق في الوصاية على الاحزاب الشيوعية وتوجيهها وفي التدخل بشؤونها الداخلية السياسية والتنظيمية. وشهيرة بالنسبة للحزب الشيوعي السوري "توجيهات" الخبراء السوفيات بقيادة يفغيني بريماكوف - عينه غورباتشوف عضواً في المكتب السياسي، وقفز في بطانة بوريس يلتسن الى رئاسة قسم الاستخبارات الخارجية وعضوية مجلس الامن القومي في الاتحاد الروسي - فقد افتى فريق الخبراء هذا بقضايا نزاعية في الحزب الشيوعي السوري تتعلق بقضايا الفكر والسياسة والتنظيم وصولاً الى تقرير ان كان ثمة امة عربية ام لا. فخالد بكداش رغم نشوئه منذ حداثته في قلب الحركة الوطنية الاستقلالية الدمشقية ونشاطه البارز المعروف فيها، فإن انتسابه المبكر للحركة الشيوعية التي لم تكن قد استكملت تكونها ونضجها في اواخر العشرينات ومطلع الثلاثينات، واحتلاله في تلك المرحلة بالذات، وفي عمر صغير فعلاً، مواقع مسؤولة فيها بدفع من الكومنترن وبرعايته وحضانته، واغترابه الباكر لسنوات عدة امضاها يعمل في الكومنترن وفي مؤسساته المختلفة، فإن هذا الانتساب وسنوات عمله الاولى هي التي كونت شخصيته وتركت تأثيرها الشديد على كل مجرى عمله القيادي الطويل. انه في آن، نتاج وضع ساد طويلاً في الحركة الشيوعية وأحد المسؤولين عن هذا الوضع، وينعكس ذلك على التناقض في شخصيته وكل سيرته واسلوب عمله القيادي، فهو كان صديقاً صدوقاً للسوفيات لكنه لم يكن يسلّم بكل ما يفتون به، بل كان يختار ما يناسبه ويعزز موقعه وينسجم، في رأيه، مع قناعاته ومصالح بلاده وحزبه. وهو في هذا السياق اختلف مع السوفيات كثيراً، وتنازع معهم حول قضايا عديدة، وفي منعطفات هامة. ولم تكن المواقف التي اختلف فيها مع السوفيات دوماً صائبة، ولا تلك التي انسجم فيها معهم ايضاً. ويصعب رسم خط بياني للمواقف التي اتخذها الحزب في ظل قيادته المديدة، ففيها من الاعوجاج والتلوي والشيء ونقيضه الكثير. فهو مثلاً قام بانقلاب كامل بالقفز السريع من الدعوة الى استقلال فلسطين واقامة دولة ديموقراطية موحدة فيها الى القبول بقرار التقسيم والدفاع عنه باعتباره حلاً واقعياً - ربما كان هكذا - الا ان هذا الانقلاب المفاجئ حصل بعد تغيير الموقف السوفياتي وموافقة الحكومة السوفياتية على قرار مجلس الامن بتقسيم فلسطين فدفع الحزب غالياً ثمن هذا الانقلاب. غير انه عارض بشدة التخريجات النظرية السوفياتية حول التطور اللارأسمالي الذي طغى في السياسة السوفياتية في مرحلة نهوض حركة التحرر وقيام نظم سميت وطنية وتقدمية في حينه. وتعارض مع السوفيات قبيل الوحدة بين مصر وسورية وفي خلالها وبعدها. ورغم انه بادر في المؤتمر العالمي للاحزاب الشيوعية عام 1960 الى مهاجمة الصينيين بحدة والرد على نظريات ماوتسي تونغ، الا انه ظل طوال عهد خروشوف وخاصة بعد ادانة ستالين ونهجه في موقف حذر من السياسة السوفياتية. واذ هادن السوفيات في عهد بريجينيف ولجأ اليهم لدعمه في وجه الشيوعيين اللبنانيين وفي وجه منتقديه في قيادة الحزب الشيوعي السوري وفي صفوفه، فإنه اتخذ موقفاً معادياً لنظريات غورباتشوف المعروفة بالبيروسترويكا وانتقدها بشدة واعتبر ما حصل في الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي مجرد مؤامرة معادية للاشتراكية نجحت بفعل خيانة قادة الاحزاب. ومات على هذه القناعة. حياة بكداش الطويلة زخرت بالعديد العديد من المواقف التي يستحق كل منها تقويماً خاصاً، الا انه، في العام، كان وطنيا سوريا مقداما ما هادن ولا ساوم في القضايا الوطنية، فكان شجاعاً في الدفاع عما يؤمن به ويعتبره في مصلحة بلاده وشعبه وحزبه، وكان الى شجاعته الادبية كبير الاعتداد برأيه وشديد الافتخار بثقافته وقدراته. ولا بد، لفهم دوره وشخصيته وما رافقهما من تناقض، الاشارة الى انتسابه في آن، الى قوميتين لم تكونا دائماً على وفاق. فهو نشأ وترعرع في قلب الحركة الوطنية الاستقلالية العربية، الا انه من اصل كردي، وعاش سنوات طويلة، عند وجوده في دمشق، في قلب حارة الاكراد وتأثر بنبض شارعها. فكانت مواقفه من القضايا القومية، تحمل على الدوام اثر هذا التناقض والازدواجية في الانتساب القومي، رغم كل ذلك وقبله وبعده، فان سيرة خالد بكداش النضالية المديدة فيها من الغنى والتنوع والتناقض ما تعجز مقالة واحدة عن الاحاطة بها او بأجزاء هامة فيها. انها جزء لا يتجزأ من تاريخ حقبة طويلة تخللتها انتصارات وهزائم، وتعقيدات كثيرة، وانعطافات وتغيرات كبرى، وسيظل التنازع حول تقويم دوره وموقعه طويلا بعد وفاته. الا انني آمل ان ينصفه التاريخ عندما تبتعد الاحداث وتنتفي الحساسيات وتصبح الصراعات في ماض سحيق، وينتصب الميزان محايداً. فالايجابي في حياته ونضاله وما خلف من تراث يفوق كثيراً ما تخلل مسيرته المديدة من سلبيات واخطاء، فالرجل كان ابن عصره وبيئته الا انه لم يكن ابنا عاديا، فبموته تختتم، او تكاد، سلسلة الرواد الكبار الذين قادوا النضال القاسي من اجل الاستقلال وضد الديكتاتوريات العسكرية وعانوا من الاضطهاد وشظف العيش ولم تلن لهم قناة. قد تكون مأساة خالد بكداش انه عاش طويلاً، وظل طوال حياته في موقع المسؤولية، وادرك، وهو يتقدم نحو الشيخوخة والعجز، متغيرات كبيرة وانعطافات حادة اصابت في الصميم افكاراً وقيما اعطاها كل حياته ونضاله وحكمت فكره بالكامل. ورغم رفضه، بعناد، التسليم بمفاعيل هذه التغيرات والانعطافات، ويقينه بآنيتها وسرعة زوالها، فانه ايقن ايضاً، وبالضرورة، انه عاجز، بوضعه الصحي وسنه، ان يؤثر في تغيير اتجاه هذه التغيرات والانعطافات. وربما يكمن في هذه الحالة بالذات انفراده، تقريبا، بين معظم الشيوعيين، في التمسك بكل افكار الماضي وتقاليده وطقوسه ورفض استخلاص اية دروس من الازمة الراهنة والمتغيرات وظروف العصر. * عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني.