يبدو ضرورياً الالتفات الى ظاهرة التيارات القومية في الأحزاب الشيوعية العربية في فترة ما بعد انفصال الجمهورية العربية المتحدة 28 أيلول/ سبتمبر 1961، وما بعد الهزيمة 5 حزيران/ يونيو 1967. والواقع أن الحزب الشيوعي اللبناني والحزب الشيوعي السوري هما الحزبان البارزان في هذه التجربة بغض النظر عما أسفرت عنه في ما بعد. لقد تأثرت التجربة الحزبية في سورية بوقائع وحدة 1958 وانفصال 1961. وكانت من أقوى التجارب العربية قبل قيام الوحدة، إلا أن قرار جمال عبدالناصر حل الأحزاب في دولة الوحدة، تسبب في اضعاف الأحزاب التي تشتتت بفعل الحل أو بفعل الملاحقة لرفضها قرار الحل! والحزب الشيوعي السوري تأثر بتلك العوامل مرتين: الأولى، نتيجة للملاحقة بعد رفضه قرار حل الأحزاب لم يحل نفسه. والثانية نتيجة لتأثر بنيته الفكرية والسياسية بالمد القومي الذي كان في أوجه ابان الوحدة. وعندما انعقد المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري عام 1969 كان قد مضى ربع قرن من دون أي حوار فكري أو سياسي أو تنظيمي على مستوى المؤتمر العام. لهذا نجد أن المؤتمر الثالث كان ظاهرة حوار عالية المستوى تركت آثارها الى فترتنا هذه، وأسفرت عن تبلور تيار جديد ومجدد، لم يكن بامكانه التعبير عن نفسه من قبل، هو التيار القومي الذي أثار ما كان خامداً من قبل في قضايا هامة منها: - الموقف الرافض للتبعية للاتحاد السوفياتي في برامج الحزب وسياسته. - الموقف السلبي من وحدة 1958 والمسألة القومية. - الموقف المتردد من القضية الفلسطينية وموضوع الموافقة على قرار تقسيم فلسطين. - الموقف من التحالف مع النظام الحاكم في سورية، بالاضافة الى قضايا التنظيم الحزبي وممارسة المركزية الديموقراطية في العلاقات التنظيمية. هذه القضايا كانت مهمة وملحة في ذلك الوقت، لكن آلية طرحها وتباين المواقف حولها والمد العارم الذي يتطلع الى التجديد أربك حركة الحزب ووحدته ووضعه على حافة الانشقاق. ولأن المؤتمر الثالث لم يحسم كل هذه الخلافات انعقد المجلس الوطني للحزب الشيوعي لحسم الخلافات في عام 1971 وكان مشروع البرنامج الجديد محور نقاشاته. وإذا كان يمكن التعبير عن هذه الخلافات بأسماء رموز محددة، فإن رياض الترك لم يكن الشخصية الأبرز في الخط المناوئ لخالد بكداش. فرياض الترك لم يكن الوحيد، بل لم يكن حتى في قمة هذا التحرك النشط، لذلك نجد أن عبارة "المكتب السياسي" ارتبطت باسم جناحه حتى الآن، لأن الأزمة كانت على مستوى الحزب، ولم تكن حركة انقلابية يقودها فرد واحد! كانت الشخصيات البارزة التي تقود التيار الجديد عديدة، من بينها: دانيال نعمة - ظهير عبدالصمد - ابراهيم بكري - رياض الترك - يوسف نمر - بدر الطويل - عمر قشاش - أحمد فايز الفواز... الخ، وكانت طروحات هؤلاء متقاربة تميل الى ضرورة التغيير نحو الاتجاه القومي وتوجيه النقد الذاتي لمواقف الحزب تجاه القضايا المصيرية كقضية فلسطين. والتقت أفكار هؤلاء في مشروع البرنامج الذي ثار الخلاف حوله. والواقع أن ثمة مساراً واضحاً للأزمة ابتدأ في غضون المؤتمر الثالث، ودفع الى الانشقاق النهائي الكبير في الحزب الشيوعي السوري. ويرصد هذا المسار جوانب الظاهرة المعنية بالدراسة من دون أن تنحصر هذه الظاهرة بشخصية رياض الترك فقط. وكما تمت الاشارة، فإن التعبير الفعلي عن الظاهرة جاء في مشروع البرنامج الذي أثار الخلاف. ومشروع البرنامج هذا لم يضعه رياض الترك، بل شكلت، في المؤتمر الثالث، لجنة لصياغته تتألف من: خالد بكداش - دانيال نعمة - مراد يوسف - بدر الطويل - موريس صليبي. هذا يعني أن الترك كان واحداً من كثيرين يتبنون مشروع البرنامج. بل ان الوثائق التي نشرت حول قضايا الخلاف حول هذا المشروع لم تأت على مضمون المداخلة التي ألقاها رياض الترك في المجلس الوطني التداولي، كما أن الاتهامات المتبادلة كانت عامة. ففي مداخلة قرئت في هذا المجلس نلاحظ أن خالد بكداش ويوسف الفيصل كانا موضع الاتهام بعرقلة صياغة واقرار هذا المشروع، وقد تحفظ بكداش على الكثير من المعطيات المتعلقة بالأفكار القومية ومن بينها: فكرة الحزب الشيوعي العربي الموحد!! ويقول أنصار مشروع البرنامج: "قبل إنزال المشروع الى القواعد الحزبية قام خالد بكداش ويوسف الفيصل وأنصارهما بشن حملة واسعة النطاق ضده وضد أفكاره"، خصوصاً في المسائل القومية. واتهم بكداش أصحاب هذا البرنامج بأنهم متعصبون قومياً. ومع تطور مراحل الأزمة، نلاحظ ان اجتماعات المكتب السياسي للحزب الشيوعي وهو أعلى هيئة قيادية انحصرت بخمسة أعضاء هم: دانيال - الترك - ظهير - عمر قشاش وابراهيم بكري. في حين يتغيب بكداش والفيصل عن هذه الاجتماعات. وبدا أن المكتب السياسي تحول الى قوة الى جانب مشروع البرنامج ذي الطابع القومي. ومنها برزت عبارة المكتب السياسي الملاصق لانشقاق رياض الترك في ما بعد. كان الحزب الشيوعي السوري كتلتين أو حزبين داخل حزب واحد. ولم يكن في امكان محاولات كثيرة قام بها السوفيات والبلغاريون والشيوعيون العرب، حل جوانب الخلاف بين هاتين الكتلتين. بل على العكس صدر بيان 3 نيسان ابريل عن خالد بكداش، ثم رسالة 27 أيلول سبتمبر 1973 عن رياض الترك، بمعنى أن توقيت الانشقاق بدا حتمياً مع هاتين الخطوتين. والذي حصل وقتها أن ما سمي بالثلاثي، وهم: دانيال نعمة، ظهير عبدالصمد، ابراهيم بكري هاجموا رياض الترك بسبب رسالته، ووجدوا أنفسهم في موقع أجبرهم على العودة الى جناح خالد بكداش. فيما صار رياض الترك رمزاً للانشقاق منذ تلك اللحظة. ان مسار الأزمة الكبرى، أزمة المؤتمر الثالث، هو الذي أعطى حزباً جديداً على الساحة السورية هو الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي، أو جناح رياض الترك كما أطلق عليه الشارع السياسي. في ذلك الوقت، ومع الشعارات القومية التي رفعها الترك، لاقى هذا الحزب ارتياحاً لدى فئات وقوى قومية وجدت في هذه الشعارات عامل صحة في الحزب الشيوعي السوري. ولم يمض وقت طويل حتى بدأت الازمة تلوح في صفوف جناح رياض الترك. فالكادرات التي أيّدته وأيّدت مشروع البرنامج الذي تبناه المؤتمر الرابع، وجدت نفسها بعد سنوات امام طروحات جديدة افرزها المؤتمر الخامس وعرفت بالموضوعات. بل ان مجموعة من هذه الكادرات لم تجد فائدة في الاستمرار في هذا الحزب الذي اخذ يفكّر بنهج جديد قد يؤدي الى خلافات مع القوى الاخرى والحلفاء. أثارت هذه الموضوعات خلافات كثيرة في صفوف الكادرات التي صقلها المؤتمر الثالث وازمته قبل الانشقاق. لذلك سارعت مباشرة الى الانسحاب من الحزب في وقت كانت فيه الاحداث الداخلية في سورية تتسارع مع تصاعد الصراع الدامي مع الاخوان المسلمين وارتباك القوى السياسية الموجودة خارج الجبهة الوطنية التقدمية في تفسير هذا الصراع. ففي الوقت الذي رأت فيه الجبهة الوطنية ان تحركات الاخوان المسلمين هي وسيلة ضغط على سورية لاجبارها على الاستسلام امام واقع تسوية كامب ديفيد، رأت فيه تلك القوى صراعاً من نوع آخر، بل ان بعض هذه القوى لم يقم بإدانة الاخوان المسلمين. اما رياض الترك، ففي الوقت الذي دعا جناحه في المؤتمر الرابع، سائر القوى داخل الجبهة الوطنية وخارجها الى "ان تتحلى بأعلى درجات اليقظة في وجه المؤامرات والمناورات الرجعية وان تتلافى كل الاخطاء والنواقص التي تسيء للجماهير بروح انتقادية جريئة" البرنامج ص 53، فإنه، وعندما احتدم الصراع مع الاخوان المسلمين، وصف ما يحدث بأنه "ازمة" وقال "ان هذه التحركات والانفجارات الشعبية ظهرت بأشكال ومستويات مختلفة، وان دوائرها تتسع باستمرار في اوساط الجماهير الشعبية…" وثيقة عن اللجنة المركزية لجناحه - اوائل تموز/ يوليو 1979 ونفى ان يكون الاخوان المسلمين قد نفّذوا مجزرة المدفعية بحلب، وعزاها الى سلوك شخصي من مرتكبها!! كان هذا يعني ان رياض الترك وضع نفسه في أتون الصراع الذي لا يرحم، ومن هنا بدأ المسار الآخر للتعامل معه. وفي ذلك الوقت اقدم احمد محفل، وهو من قادته الى حضور "مؤتمر الشعب العربي" المؤيد لبغداد وهذا ما عمّق الهوّة اكثر. وفي ما بعد وجد نفسه تلقائياً في موقع المعارضة بل وفي صلب تجمع من قوى صغيرة تحمل المواقف نفسها! وعلى هامش هذه الاحداث، تشكّلت حركة اتحاد الشيوعيين في سورية في عدد جيد من الكادرات التي خرجت من جناح رياض الترك. وحددت مواقف بعيدة عن مواقفه. وكان من رموزها: بدر الطويل ويوسف نمر وحنين نمر وميشيل عيسى. وبقي رياض الترك وحيداً وقد أنهى الازمة الكبرى في الحزب الشيوعي السوري بهذه الطريقة، والى اليوم لا ندري ما إذا كان أخذ يقوّم تجربته على ارضية الفكر الذي كان يحمله في الخمسينات والستينات، ام انه تراجع نهائياً عن الماركسية اللينينية بعد ان حفظ، كما قيل، القرآن الكريم عن ظهر قلب؟! * كاتب وصحافي سوري.