تنحدر الأحزاب الشيوعية السورية الراهنة، سواء كانت في "الجبهة" ام خارجها، باستثناء "حزب العمل الشيوعي" مع انه نشأ بهدف "تثوير" تلك الاحزاب، من انشقاقات الحزب الشيوعي السوري الأم، الذي تشكلت نواته التأسيسية في 28 تشرين الأول اكتوبر 1942 تحت اسم "حزب الشعب"، الا ان الكومنترن الأممية الشيوعية الثالثة لم يعترف بعضويته الكاملة والمستقلة عن الحزب الشيوعي الفلسطيني اليهودي التركيب والتطلعات الا في ايلول سبتمبر عام 1928 تحت اسم الحزب الشيوعي السوري - فرع الانترناسيونال. ولم يعلن الحزب الفتي عن اسمه الجديد الا في تموز يوليو 1930 وتطبيقاً لسياسة "الكومنترن" في تعريب الاحزاب الشيوعية العربية، خاض الحزب الذي كانت اغلبية قياداته ارمنية وتجهل اللغة العربية، عملية تعريب شاقة، انتهت بانتصار خط التعريب في الحزب في اواسط عام 1933 على اساس سياسة الكومنترن في وضع الشيوعيين في اطار "الحركة القومية العربية الثورية"، والتي انعقد على اساسها مؤتمر المثقفين في زحلة عام 1934 ما بين القوميين والشيوعيين، ونتج عنه اصدار دورية من اهم الدوريات في الثقافة السورية في القرن العشرين هي مجلة "الطليعة". انقلب الكومنترن في مؤتمره الأممي السابع تموز - آب/ أغسطس 1953 على هذه السياسة، واستبدل مفهوم النضال القومي ضد الامبريالية بالوحدة الأممية ما بين الشيوعيين والأمم الديموقراطية في مواجهة النازية والفاشية. وكان وضع عضو هيئة مؤتمره السابع خالد بكداش - الذي انتسب الى الحزب عام 1930، ولعب دوراً في عملية التعريب وفي تقريب وجهات النظر بين وفد الكتلة الوطنية وحكومة الجبهة الشعبية في فرنسا حول اتفاقية 1936، وأول مترجم لپ"البيان الشيوعي" الى العربية - على رأس الحزب في اوائل 1937، ثمرة من ثمرات ذلك الانقلاب، حيث بدأ بكداش عمله بتطهير الحزب من الشيوعيين الذين دعوا الى استمرار العمل بوثائق 1931 حول التحالف مع القوميين العرب. وترجم فهمه لسياسة "الكومنترن" الجديدة، قبل توقيع اتفاق روبتروب - مولوتوف عام 1939 الألماني - السوفياتي بتحالف الحزب مع "الديموقراطية الفرنسية" التي كانت تستعمر سورية، قبل ان يضطهد الفيشيون الحزب. يكاد يكون مستحيلاً منذ ذلك الوقت فهم سياسة الحزب ومواقفه بمعزل عن شخصية امينه العام خالد بكداش. اذ احكم بكداش سيطرته البيروقراطية المطلقة على الحزب منذ عام 1937 الى عام 1964 - حين تمرد الحزب الشيوعي اللبناني واستقل فعلياً من طرف واحد عن الحزب الشيوعي السوري على خلفية انتقادات حادة لبكداش لم تجد ادنى رد حتى اليوم -. وكان المسؤول الفعلي الأول عن خطه السياسي. وإذا كان حجم الحزب قد اخذ يتصاعد نسبياً بعيد معركة ستالينغراد وتحطيم النازية، فان سياسة بكداش ادت الى وضعه في مجابهة المسائل القومية العربية الأساسية وضدها. وبرز ذلك في مواقف مصيرية من اخطرها مواقفه من قرار التقسيم والوحدة والانفصال، وهي المواقف التي حاولت اغلبية حزبه عام 1969 ان ترغمه دون جدوى على تقديم نقد لها. وكانت الفترة القصيرة التي التقى فيها بكداش مع الحركة القومية في الخمسينات محكومة باستراتيجية المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي عام 1956 في اطار الحرب الباردة. وحاول بكداش ان يعرقل قيام الجمهورية العربية المتحدة ما بين سورية ومصر في 22 شباط فبراير 1958، فتغيب عن حضور جلسة البرلمان الخاصة بذلك، الا ان اللجان المناطقية للحزب دعت خلافاً لرغبة بكداش واستناداً الى توجيه اللجنة المركزية، الحزب والأعضاء للتصويت بنعم على الاستفتاء، وبعيد قيام ثورة 14 تموز 1958 في العراق عاد بكداش الى دمشق سراً، ليرغم معارضي بنوده "الانفصالية" الثلاثة عشر الشهيرة الموجهة لتفكيك الجمهورية العربية المتحدة على قبولها والالتزام بها، وفتح باعلانه لها في كانون الأول ديسمبر 1958 النار على عبدالناصر، الذي قام بدوره بحملة تنكيل وتعذيب وحشية ضد المعتقلين الشيوعيين، في حين لم يتعرض الشيوعيون قبل ذلك الى اي اضطهاد. وظهر بكداش في بنوده "الانفصالية" وكأنه مفترق مع السوفيات اذ لم يستجب لرغبة خروتشوف بعدم المواجهة مع عبدالناصر، الا ان بكداش استمد دعم بنوده من الجناح المعارض لخروتشوف في المكتب السياسي وجهاز ك. ج. ب الذي رحّل خروتشوف في اواخر عام 1964. وفور وقوع الانفصال في 28 ايلول 1961 ابرق بكداش يهنئ "الانتفاضة الشعبية ضد الاستعمار والتحكم الفرعوني"، الا ان قائد الجيش منعه من النزول في المطار، الا انه تم حتى اواخر العام الافراج عن الشيوعيين. وعاد بكداش الى دمشق سراً في ايلول 1962 ابان حكومة خالد العظم "الانفصالية" في مرحلة وصلت فيها عزلة حزبه السياسية والشعبية الى نفق مظلم. وإثر سقوط الانفصال في 8 آذار مارس 1963 وتعرض الشيوعيين لحملة اعتقالات جزئية غادر بكداش دمشق للتو، الا انه ايد قرارات "التأميم" البعثية التي ادانها قبل اقل من اربع سنوات حين اتخذها عبدالناصر، وقد حاول الحزب الذي قادته فعلياً هيئة رباعية سرية على رأسها دينامو الحزب يوسف فيصل ان يبحث عن موقع له في الحياة السياسية، إبان احتدام ازمة البعث عام 1965 بين ما سمي بپ"يمين" البعث و"يساره" فاتصل عن طريق دانيال نعمة سرياً بكل من الطرفين على حدة، واختار سياسة الانتظار او اللاموقف. وإثر حسم الازمة في 23 شباط 1966 عاد بكداش الى سورية، وتعاون مع البعث بوزير تم تمثيله بصفته الشخصية وليس السياسية، مع ان تعاونه لم يمنع الشباطيين من اعتقال حوالى 150 شيوعياً في العام نفسه. لم تتخذ معارضة بكداش شكل المجابهة الا بعد نكسة 5 حزيران، وساهمت قرارات المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي اللبناني عام 1968 الذي نقد بكداش جذرياً بتغذيتها. الا ان بكداش اضطر ازاء قوة معارضيه ونفوذهم وسيطرتهم الفعلية على الجهاز الى عقد المؤتمر الثالث للحزب في حزيران 1969 بعد حوالى ربع قرن على انعقاد المؤتمر الثاني عام 1943 - 1944. وعلى رغم ان يوسف فيصل الرجل القوي خرج عن المعارضين وانضم اليه، فانه وجد نفسه معزولاً بشكل شبه تام في المؤتمر، الذي كان آخر مؤتمر موحد للحزب الشيوعي السوري. الا ان معارضيه لم يتمكنوا ان ينتزعوا من هذا الرجل "الصلب" اكثر من نقد ذاتي في المسائل التنظيمية، في حين دافع بقوة عن سلامة موقف الحزب من قرار التقسيم والوحدة والانفصال. ولم تجدد اللجنة المركزية انتخابه اميناً عاماً الا بعد تعهده الالتزام بالنظام الداخلي الجديد وبتغيير اسلوب قيادته البيروقراطية والفردية للحزب. كان من ابرز الذين قفزوا الى عضوية المكتب السياسي من سكرتارية منطقية حمص مباشرة رياض الترك، الذي ترأس مكتب العمل الفدائي، ووظف موقعه القيادي كي يجذّر المعارضة ضد بكداش على اساس يساري جديد يتقاطع مع ما قرره المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي اللبناني قبل اقل من عام. وقد فرض معارضوه الراديكاليون عليه تمرير "مشروع البرنامج السياسي" أوائل حزيران 1970 الذي تمركزت موضوعات خلافه لاحقاً مع بكداش على تاريخ الحزب وموقفه من القضايا القومية والفلسطينية والعمل الفدائي والاستقلالية عن الاتحاد السوفياتي والدمقرطة التنظيمية. وقد تلقى معارضوه دعم كتلة صلاح جديد البعثية اليسارية إبان انفجار ما يعرف في الحوليات البعثية بأزمة الحزب 1969 - 1970، وطرح بعضهم حل منظمتي اتحاد الشباب الديموقراطي ورابطة النساء السوريات والانتساب الى اتحاد شبيبة الثورة والاتحاد النسائي. ولم يرحب السوفيات الذين سبق لهم ان "عاقبوا" الحزب الشيوعي اللبناني بعدم دعوته الى مؤتمر الاحزاب الشيوعية والعمالية في موسكو عام 1969 بهذا البرنامج، ورأوا فيه كما توضح فيما بعد انه برنامج يصلح لحزب قومي وليس لحزب شيوعي، اذ كان يحرج الاستراتيجية السوفياتية في المنطقة وعلاقاتها الاقليمية، ويتخطى الخطوط الحمر التي رسمتها قمة غلاسبورو بين كوسيغين والرئيس الاميركي جونسون. لقد بدأت ازمة الحزب بالانفجار مع صياغة هذا "المشروع" وارغام بكداش على "بلعه"، الا ان الاستقطاب الواضح والحاسم ما بين كتلتين متمايزتين في اللجنة المركزية لم يظهر الا بعد قيام الحركة التصحيحية في 16 تشرين الثاني نوفمبر 1970، اذ حاولت الكتلة الراديكالية المسيطرة على المكتب السياسي ان تضع الحزب في مواجهة مسلحة دفاعاً عن الشباطيين. وحين ناقشت اللجنة المركزية موضوع المشاركة في الحكومة عام 1970، وميثاق الجبهة الوطنية التقدمية التي اعلنت في 7 آذار 1972، فان عشرة اعضاء صوتوا على القرارين مقابل خمسة. وبذلك وضع معارضو بكداش انفسهم منذ اللحظة الأولى امام الافتراق عن الرئيس حافظ الأسد. لم يعان بكداش طيلة حياته السياسية التي استمرت خمسة وستين عاماً دون انقطاع من عزلة حزبية كما عاناها في عامي 1969 - 1970. ولم يخرجه من هذه العزلة سوى تدخل السوفيات المتمرسين بادارة الانشقاقات في الأحزاب الشيوعية والسيطرة عليها، بكل ثقلهم في خلاف الحزب، فوضعوا "الملاحظات السوفياتية" وقبلها "البلغارية" في مواجهة "المشروع". الا انه حين اوضحت الانتخابات الى المؤتمر الاستثنائي الرابع سيطرة الراديكاليين على المؤتمر، وإقرارهم بالتالي "المشروع" في وجه "الملاحظات" بادر خالد بكداش ويوسف فيصل بتنسيق تام مع "الخبراء" السوفيات الى اصدار "بيان 3 نيسان ابريل" 1972 الشهير، الذي يصف لأول مرة علناً المعارضين بپ"الكتلة التحريفية الانتهازية المغامرة التي يقودها رياض الترك"، ولم يتورع عن استعداء السلطة ضدهم. وقع على البيان 7 من اصل 15 من أعضاء اللجنة المركزية واثنان من اصل 7 من اعضاء المكت السياسي و2 من اصل 6 من المرشحين لعضوية المركزية، و2 من اصل 4 من اعضاء لجنة المراقبة الحزبية. وأدى الى انشقاق عمودي، اخذ فيه الطرفان يتسابقان للسيطرة على التنظيم، وفقد الحزب وحدته نهائياً. كان اعضاء الحزب ما عدا المرشحين صبيحة 3 نيسان حوالى 12 الف عضواً. وقد استقطبت كتلة الترك ثلثيهم في حين استقطب بكداش الثلث الآخر، الا ان تخلي الثلاثي القوي المعارض لبكداش يوم 30 تشرين الثاني 1973 عن كتلة الترك وانضمامهم الى اعضاء اللجنة المركزية المؤيدين لبكداش، والذين بات بكداش يملك بهم الأغلبية لأول مرة في اللجنة المركزية المنبثقة عن المؤتمر الثالث، ادى الى خسارة الترك ما نسبته 15 في المئة من اعضائها، الا انها لم تغير من واقع استقطابه للأكثرية. واكتسب الاستقطاب، فضلاً عن الابعاد الايديولوجية والسياسية، سمات جهوية وقومية ومذهبية وجيلية مركبة. اذ كانت سيطرة بكداش في الجزيرة والسويداء كاسحة وذات اغلبية راجحة في مدن الطبقة وإدلب وحلب عدا جامعتها، في حين كانت سيطرة الترك كاسحة في حمص ودير الزور وذات اغلبية كبيرة في اللاذقية، وأرجحية في دمشق وحماة ودرعا وطرطوس. وفي حين وقف الشيوعيون المنحدرون من الاقليات القومية الكردية والشركسية والارمنية مع بكداش فإن السريان وقفوا مع الترك. وكان وزن الاكراد راجحاً في كتلة بكداش، اذ كانت نسبة الشيوعيين الاكراد في حلب وحدها في ذلك اليوم 43 في المئة من الاعضاء. اما وفق المحور الجيلي فقد وقف معظم الاعضاء القدامى مع بكداش في حين وقف معظم الاعضاء الشباب مع الترك. تمخض بيان 3 نيسان، وفشل كل التسويات والمساومات تحت الطاولة وفوقها، عن انشقاق الحزب في اواخر عام 1973 الى حزبين مستقلين، اذ عقدت كتلة الترك في اوائل كانون الأول ديسمبر 1973 المؤتمر الرابع، الذي انتخب الترك اميناً أول للجنة المركزية. وبذلك بات في اواخر عام 1973 لأول مرة في تاريخ الحركة الشيوعية السورية حزبان شيوعيان يحملان الاسم نفسه، هما الحزب الشيوعي السوري بقيادة رياض الترك، والذي عرف باسم المكتب السياسي، والحزب الشيوعي السوري بقيادة خالد بكداش، وستسير علاقاتهما نحو مزيد من التمايز والاستقطاب في العقدين اللاحقين. * كاتب سوري.