شهدت حكومة الرئيس رفيق الحريري التي تشكلت قبل نحو سنتين وسبعة اشهر خضات اساسية عدة، بدأت باعتكاف رئيسها ثم باعلانه استقالة الحكومة شفهياً وارفاقه ذلك بعرض "عضلات" شعبي اتخذ شكل تظاهرات سيّارة وزيارات حاشدة لمنزله في بيروت. وكادت هذه الخضات ان تؤدي الى استقالة الحكومة فعلياً، اولاً عندما تبنى تغييرها بعد اشهر من تأليفها الرئيس الياس الهراوي وطلب من سورية مساعدته على تحقيق ذلك. وثانياً عندما اشتدت حملات المعارضة على الحريري لاسقاطه، علماً ان أركانها حلفاء لسورية موثوق فيهم جداً، وعندما راح كل منهم، بعد كل زيارة لدمشق، يبشر بأن الحريري انتهى وبأن ايام حكومته معدودة. وثالثاً عندما تخلى الحريري عن نهجه الاساسي حيال معارضيه باعتماده الهجوم بدلاً من الدفاع، وراح يسعى لإجراء تعديل وزاري يخرج بواسطته من الحكومة الوزراء "المشاكسين" مستعيناً بعودة حلفه مع الرئيس الهراوي الى سابق عهده من المتانة. لكن الحكومة استمرت على رغم ذلك عصية على الاستقالة، لأسباب عدة أبرزها عدم موافقة سورية التي تتحمل مسؤولية لبنان بموافقة اقليمية وبرعاية أميركية - دولية، اضافة الى عدم موافقة محلية رسمية على تغييرها. وكانت حجة الرفض ان استقالة الحكومة لن تقدم أو تؤخر في الوضع اللبناني، لأن الحكومة التي ستخلفها، أو اي حكومة اخرى ستضم التيارات السياسية والحزبية التي تمثلت في الاولى، وربما بالرموز التي تمثلت بها، وهذا امر تفرضه ظروف لبنان والمنطقة، وتحديداً العملية السلمية التي تقتضي وضعاً حكومياً وسياسياً مستقراً في لبنان ومضموناً لسورية. في ظل هذه الحال وفي ظل استبعاد تمثيل التيارات السياسية والحزبية المعارضة للاعتبارات المذكورة كان لا جدوى من التغيير ومن المخاطرة على هذا الصعيد في رأي سورية. لكن ما الذي تغير حتى صارت الاستقالة المرفوضة ممكنة؟ لم يتغير شيء لم يتغيّر شيء جوهري، تجيب مصادر سياسية واسعة الاطلاع. فظروف المنطقة والعملية السلمية فضلاً عن ظروف الوضع الداخلي اللبناني بقيت على حالها، ما يعني ان استقالة الحكومة لن تفسح المجال امام حكومة جديدة اكثر تمثيلاً للبنانيين واكثر قدرة على الانتاج. لكن الظروف نفسها التي حالت في الماضي دون استقالة حكومة الحريري هي التي جعلت استقالتها قبل زهاء اسبوعين ضرورية وهي التي جعلت تأليف حكومة اخرى برئاسة رئيسها المستقيل امراً حتمياً، فهذه الظروف تفرض استقراراً سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً، وهو استقرار تهدد أكثر من مرة على النحو الآتي: 1 - تفاقم الصعوبات الاجتماعية الأمر الذي ادى الى حركة مطلبية اجتماعية قادها المعلمون في القطاعين الرسمي والخاص فأعلنوا اضراباً مفتوحاً استمر اسبوعاً، ولم يكن وقفه ممكناً لولا استقالة الحكومة. وقاد الحركة ايضاً الاتحاد العمالي العام الذي كان يتأهب لاعلان خطوات تصعيدية أخّرها الاضراب المفتوح، وبرر المضربون تحركاتهم بالأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة وبتدهور القيمة الشرائية للعملة الوطنية. وعاش اللبنانيون هاجس انفجار اجتماعي قد يتحول سياسياً اذا استفادت منه التيارات السياسية المعارضة اصلاً لكل التركيبة السياسية في لبنان ما بعد الحرب. وخشيت دمشق دخول اكثر من عامل على هذا الخط الامر الذي يزعزع الوضع الامني، فوافقت على تغيير الحكومة. 2 - توتر الوضع السياسي عموماً بسبب الصراعات بين المؤسسات الدستورية والرسمية التي تفاقمت داخل مجلس الوزراء، ومحورها استحقاق الانتخابات الرئاسية وانقسام البلد الى ثلاثة تيارات: الاول يدعو الى تمديد ولاية الرئيس الهراوي، ومن اركانه رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزراء بارزون. والثاني يرفض التمديد ويدعو الى انتخاب قائد الجيش العماد اميل لحود رئيساً للجمهورية. والثالث يدعو الى اجراء انتخاب دستوري وطبيعي لرئيس. ووسط هذه المعمعة وقف رئيس مجلس النواب نبيه بري معارضاً التمديد، انما غير متحمس لانتخاب لحود. وسبب ذلك اشكالات عدة نظراً الى ان دوره مهم على هذا الصعيد، خصوصاً ان التيارين الاول والثاني يحتاجان الى تعديل دستوري لكي يصبحا قابلين للترجمة. وبنتيجة ذلك كله "تجمد" كل شيء في الدولة. ثم جاء ارجاء التعديل الدستوري او البحث فيه الى تشرين الاول اكتوبر المقبل لرفع الحرارة السياسية، فكان لا بد من امتصاص التوتر واعادة تحريك الدولة التي لا تستطيع البقاء مشلولة حتى انتهاء ولاية الرئيس الحالي بعد حوالي ستة اشهر. واذا كان التغيير الحكومي مطلوباً لتحقيق هذا الهدف، فهل كان هناك مبرر لتأليف الحكومة الجديدة على النحو الذي حصل؟ تعويض خسائر نعم، تجيب المصادر السياسية نفسها. فعودة الحريري على رأس الحكومة الجديدة كان ضرورياً لأنه لا يزال حاجة لبنانية وسورية، ولأنه لا يزال الوحيد القادر على معالجة الوضع النقدي والاقتصادي، وان بالحد الادنى. ولأن هذه المعالجة ضرورية للبنان ولسورية في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ المنطقة، واخراج عدد من الوزراء "المشاكسين"، للحريري اولاً وللهراوي ثانياً، من الحكومة كان ضرورياً لسبب اساسي هو التعويض على رئيسي الجمهورية والحكومة بعد خسارتهما معركة التعديل الدستوري. ومن باب التعويض هذا جاءت الموافقة على دعم مواقعهما في الحكومة الجديدة، علماً ان من شأن ذلك تحقيق انسجام في الحكومة يمكّنها من الانتاج او على الاقل يحول دون تفجيرها من الداخل، مثلما حصل للحكومة السابقة. بماذا تتميز الحكومة الجديدة؟ 1 - صلابة الحلف القائم منذ مدة طويلة بين الرئيس رفيق الحريري والزعيم الدرزي الابرز وليد جنبلاط، ومن شأن ذلك تقوية مواقعهما في الاستحقاقات السياسية المقبلة، وفي مقدمها انتخابات الرئاسة في الخريف المقبل والانتخابات النيابية في العام المقبل. 2 - ترسخ الحلف بين الحريري والهراوي الذي اهتز كثيراً وتعرض للسقوط قبل حوالي سنتين. 3 - عودة حد ادنى من الانسجام الى الترويكا الرئاسية الذي كان مطلباً سورياً، ونيل كل رئيس حصة مهمة في الحكومة الجديدة، الأمر الذي يسهل امور الاستحقاقات السياسية المقبلة. 4 - امكان نجاح الحكومة في مجال الخدمات كون حقائب الخدمات في يد "جماعة" رئيس الحكومة وعدد من حلفائه. 5 - احتمال ان يكون هدف الحكومة الجديدة تمديد ولاية الرئيس الهراوي، اذا كانت الظروف الخارجية ملائمة لا سيما السورية منها، ويعزز هذا الاحتمال خروج المشاكسين منها الذين كانوا ضد التمديد. 6 - التحضير للانتخابات النيابية المقبلة، لا سيما في محافظة بيروت. وجاء اشتراك "كتلة الانقاذ والتغيير" التي يرئسها الدكتور سليم الحص في الحكومة بوزيرين كمؤشر مهم الى ذلك. الا أن وفاة الوزير جوزيف مغيزل، عضو كتلة الانقاذ، قد تطرح مشكلة تعيين بديل. وتتردد معلومات بأن الانتخابات النيابية ستكون صعبة في بيروت بسبب تناقض متوقع لتيارين قويين، يقود الحص الاول ويقود الحريري الثاني. جباية الرسوم والضرائب هل ستكون الحكومة منتجة؟ مبدئياً يفترض ان تكون كذلك. لكن المصادر السياسية لا تبدو شديدة التفاؤل على هذا الصعيد بسبب ضيق الوقت امام الحكومة وكذلك بسبب الاحتقان السياسي والخلافات التي لا يمكن تسويتها بسهولة وسرعة. وقد يكون من الافضل للحكومة، حسب المصادر، الاهتمام بثلاث قضايا ملحة: أولها التخفيف من اعباء الناس لا سيما ذوي الدخل المحدود بواسطة اعادة النظر في الرسوم والضرائب وفرض جبايتها على الجميع بحيث لا يدفع البعض من اللبنانيين ثمن امتناع البعض الآخر عن تسديد هذه الرسوم والضرائب بغض نظر رسمي. واذا كانت سياسة الحكومة ورئيسها جعلت لبنان "جنة ضرائبية" بتخفيف الضرائب لجذب الاستثمارات الاجنبية فإن تحويله جحيماً ضرائبياً للاكثرية الساحقة من ابنائه، كما هي الحال اليوم، يهدد الجنة المذكورة بشكل جدي. وثانيها المحافظة على سعر صرف الليرة اللبنانية تجاه الدولار الاميركي، والحرص على ان ينعكس ذلك انخفاضاً لأسعار السلع وليس زيادة. وفي هذا المجال تدعو المصادر نفسها الى عدم جعل الدولار اداة في السياسة المحلية لأن ذلك يؤدي الى الخراب. وثالثها تأمين الخدمات للمواطنين وفي مقدمها المياه والكهرباء. كيف سيكون وضع المعارضة في الاشهر الستة المقبلة؟ لا شك في ان محاولات ستجري لتجميع صفوف المعارضة علماً ان المقصود هو المعارضة من داخل اتفاق الطائف. لكن النجاح في ذلك ليس سهلاً، اولاً لتباين اطرافها ولتناقضهم، وثانياً لأنه لا مصلحة للخارج المعني بلبنان في ذلك كونه راعي المعارضة والموالاة في آن واحد وكونه قادراً عندما يشاء على تكبير الاولى وتصغير الثانية والعكس صحيح. وقد ظهر ذلك من الخروقات التي نجح الحريري في تحقيقها في صفوف المعارضين، فالمعارضة "الموضوعية والبناءة" التي يمثلها الحص وكتلته النيابية صارت في الحكم. والرئيس عمر كرامي قال انه سينتظر الاشهر الستة ولن يكون متراساً لاحد. والآخرون يتصرفون على اساس انهم خسروا معركة ولكنهم لم يخسروا الحرب. وإذا كان على المعارضين الديموقراطيين والمؤمنين بالنظام البرلماني ان يتكتلوا ويراقبوا الحكومة ويحاسبوها ويدفعوها الى الاستقالة اذا امعنت في ارتكاب الأخطاء، إلا أن عليهم في الوقت نفسه ان يكونوا جديين وبعيدين عن الانفعال والشخصانية والمصالح الصغيرة خصوصاً عن الكلام الكبير الذي ظن اللبنانيون انه انتهى بنهاية حروب أكثر من 16 سنة، وأخفه على الاطلاق تخوين الآخرين.