توقع اللبنانيون ان يكون شهر أيار مايو شهر التعديل الدستوري لتمديد ولاية الرئيس الياس الهراوي او لتمكين قائد الجيش العماد اميل لحود من ترشيح نفسه لانتخابات رئاسة الجمهورية، او لابقاء هذين الخيارين مفتوحين حتى الخريف موعد انتخاب خلف للهراوي. وغرقت الطبقة السياسية مع اللبنانيين في حديث التعديل المزدوج او الوحيد الجانب وتصاعدت حملة الاشاعات والتسريبات من المطابخ الاعلامية، خصوصاً بعدما وصلت بعض المواقف الى حدود اللاعودة. لكن توقعات اللبنانيين والسياسيين بدت، كما حالها في معظم الاحيان، غير دقيقة، وهكذا تحول شهر أيار من شهر حاسم في الاستحقاق الرئاسي الى شهر التمديد لرئيس الوزراء رفيق الحريري مع بقاء سباق الرئاسة مفتوحاً حتى تشرين من دون اغلاق الباب امام احتمالات التعديل والتمديد. هكذا تم دفع ملف انتخابات رئاسة الجمهورية الى موعده الطبيعي في الخريف المقبل فتزايد الاعتقاد بأن سورية لا تستعجل بته وانها تفضل انتظار جلاء الصورة في المفاوضات الصعبة التي تخوضها مع الولاياتالمتحدة في سياق عملية السلام الجارية في المنطقة. وهكذا تحتم على الطامحين الى الرئاسة ان يقلبوا احلامهم على حرارة الصيف المقترب وامتحاناته الساخنة مع اعادة ترتيب الاوراق والحسابات في ضوء تركيبة الحكومة الحريرية الجديدة ومسار حروب المواقع على مسرح "الجمهورية الثانية". ولم يعد سراً ان هذه الحروب محكومة بضوابط وخيوط تمنع وصولها الى الحد الذي يهدد الاستقرار وتوفر الاخراج اللازم للاجماع الاضطراري في اللحظة المناسبة. منذ تولي الرئيس الحريري رئاسة مجلس الوزراء قبل 30 شهراً بدا واضحاً انه يترأس حكومة غير تلك التي كان يتمناها. وعززت الممارسة الحكومية هذا الانطباع وشاع تعبير الوزراء المشاكسين الى درجة سجلت معها حكومة الحريري رقماً قياسياً في عدم الانسجام بين اعضائها. وأدت الحروب داخل الحكومة وما رافقها من تجاذب بين الرئاسات الى استنزاف رصيدها وقسم غير قليل من رصيد رئيسها الذي حاول اكثر من مرة، عبر الاعتكاف او الاستقالة، التخلص من التركيبة التي تفتقر الى الانسجام. ومنذ اللحظة التي كُلف فيها تشكيل حكومته الأولى ظهر جلياً ان الحريري لم يحصل على تفويض كامل او على "اطلاق يد" وانما منح ما فرضته الظروف، اي الهامش الضروري لوقف التدهور الاقتصادي الذي كان ينذر بنسف ركائز الاستقرار الوافد من اتفاق الطائف ومن الادارة السورية للسلام اللبناني. بعد الانتخابات النيابية في صيف 1992 التي قاطعها فريق من اللبنانيين، وفي ضوء الازمة الاقتصادية المستفحلة كان على الحكم اللبناني ان يعثر على تغطية داخلية ودولية. ولم تكن شروط "التغطية الذهبية" موجودة الا لدى رفيق الحريري بسبب قدرته المالية الضاربة وشبكة علاقاته العربية والدولية. ورحب اللبنانيون ب "المنقذ" وقبل بعض السياسيين به اضطراراً واعتبروه دواء مراً لا بد من تجرعه لبعض الوقت وعلى امل بطلان الحاجة اليه لاحقاً. وفي أيار وبعد تكليفه تشكيل حكومة جديدة تنبه قسم من السياسيين ومن اللبنانيين الى الخطأ الذي ارتكبوه حين اعتبروا الحريري مجرد رجل أعمال ناجح يمكن الافادة من عبوره في الحكم لتحسين صحة الليرة والاقتصاد من دون دفع مقابل سياسي لهذه المهمة. والحقيقة التي غابت عن هؤلاء هي ان وصول الحريري الى رئاسة الوزراء في عام 1992 كان ثمرة عقد كامل من التعاطي السياسي الفاعل مع كل المحطات الرئيسية في الثمانينات، وأبرزها اتفاق الطائف. وفي هذا العقد سجل الحريري نجاحات وبنى علاقات كما ارتكب اخطاء ومني بانتكاسات. وعندما جاء الحريري الى الحكم ظهر سريعاً انه يحمل مشروعاً سياسياً يشكل ترميم الاقتصاد بعض بنوده وانه لا يفتقر مطلقاً الى شهية التحول الى قطب سياسي بارز وربما الابرز. يتعذر فهم التجاذبات الحالية في لبنان من دون الالتفات الى موقف الحريري. تأييده التمديد للهراوي اعطى لخيار التمديد ثقلاً ما كان ليتوافر له. ومعارضته اميل لحود وضعت عقبات رئيسية على طريق الجنرال الى القصر. ومواقف رئيس المجلس النيابي نبيه بري لا يمكن تفسير بعضها الا في ضوء اعتراضه على محاولة الحريري تصحيح التوازنات داخل مثلث الرئاسات الثلاث، والوصول بالتصحيح الى حد تخفيف ارجحية "الرئيس الدائم" لمجلس النواب عن طريق، التحالف مع رئيس الجمهورية. لكن كل هذه الحروب يجب الا تنسي المراقب ان سورية هي اللاعب الكبير والحاسم وان قوة هذا الطرف او ذاك تتحدد في النهاية بمقدار تطابقها مع حسابات دمشق او مدى اقترابها من هذه الحسابات. كان من الصعب على الحريري ان يتحول الى ناخب محلي بارز في انتخابات الرئاسة من دون التحالف مع الهراوي، خصوصاً انه لا يملك كتلة حريرية في مجلس النواب. وهو انطلق في معركة التمديد مستنداً الى تأييد السيد عبدالحليم خدام نائب الرئيس السوري لهذا الخيار، وهو تأييد تخطى التلميح الى التصريح. في المقابل كان بري يطمح الى ان يكون الناخب المحلي الاول و"مرشد" العهد الجديد. ويملك بري في هذا المجال اوراقاً مهمة، فهو رئيس المجلس النيابي الذي لا بد وان تمر عبره عملية الافراج، حتى وان كان واضحاً ان الرئيس سيصنع في مكان آخر. ويرأس بري في المجلس اكبر الكتل النيابية. وهو قبل هذا وذاك الحليف الأول والموثوق لسورية في لبنان بسبب تمثيله للتيار الاكبر في اكبر الطوائف اللبنانية، ولقدرته على المساهمة بفاعلية في حماية خيار السلام حين يحين موعد اعتماده وبالتطابق مع خيار سورية في هذا المجال. يضاف الى ذلك ان رئيس حركة "امل" بات يمتلك ايضاً حضوراً قوياً في مختلف مؤسسات الدولة والادارة اللبنانية. عندما عاد بري من دمشق بعد اجراء محادثات مع الرئيس حافظ الأسد وكبار المسؤولين السوريين واطلق عبارته "ان تشرين لناظره قريب" بدا واضحاً ان الاستحقاق الرئاسي دفع الى الخريف. صحيح ان الخطوة تقلل من فرص وصول لحود الى الرئاسة لكنها تبدو في الوقت نفسه وكأنها شبه انتكاسة لمحاولة الهراوي - الحريري حسم المعركة لمصلحة التمديد. وكان الحريري رفع شعار الحسم معتبراً ان استمرار البلبلة السياسية يشل الدولة اللبنانية ويهدد بعودة التدهور الاقتصادي. وامام الصورة الجديدة للوضع توجه رئيس الحكومة الى دمشق والتقى الرئيس الأسد وابلغه انه بات غير قادر على الاستمرار في الحكم بحكومته غير المنسجمة، وكانت النتيجة تفويض الحريري تشكيل حكومة جديدة. وظهر كأن دمشق التي لا ترغب في كسر التوازنات بين المحاور الحليفة لها أرادت تعويض الهراوي والحريري بعض ما خسراه نتيجة تعذر الحسم لمصلحة التمديد. هكذا اجرى الرئيس الهراوي الاستشارات النيابية، وهي ملزمة بموجب اتفاق الطائف، وأىد اعادة تكليف الحريري بعض الذين كانوا يحلمون بازاحته. وانطلق الحريري في عملية التشكيل آملاً بتقليص عدد الوزراء المشاكسين بعدما تبين ان استبعادهم تماماً غير ممكن، خصوصاً ان بعضهم، كالوزير سليمان فرنجية، لا يعتبر ابرز حليف لسورية في الساحة المسيحية، ولعله الحليف الوحيد في تلك الساحة الذي يستطيع الحديث عن زعامة وموقع. وواجهت عملية التشكيل صعوبات كانت متوقعه. فالرئيس بري طالب باربعة مقاعد لكتلته اثنين منها للشيعة وواحد للموارنة وآخر للكاثوليك. وفرنجية طالب بتوزير النائب طلال ارسلان فرد الوزير وليد جنبلاط بالرفض ولم يظهر بري حماسة للتفكير في اشراك "حزب الله" وتداخلت حسابات الطوائف والمناطق، فدخلت سورية على خط المعالجة. احد النواب الذين ابدوا "من دون حماسة" اعادة تكليف الحريري قال: "لم يكن هناك غير الحريري واخشى ان يكون تحول رئيساً دائماً للوزراء، فقد استقال بعد اقفال السوق المالية واعيد تكليفه قبل افتتاحها، وهكذا بات وضع الليرة أسير وجود شخص معين في الحكم". وأضاف: "ما فعله الحريري في الشهور الثلاثين الماضية جعل من المتعذر على اي اسم آخر، سواء كان الدكتور سليم الحص ام عمر كرامي القبول بتولي المسؤولية، خصوصاً خلال الشهور التي تفصلنا عن انتخابات الرئاسة". واعتبر ان الحريري "اختار توقيتاً ملائماً ليمدد لنفسه في الحكم، وان نجاحه في تشكيل حكومة منسجمة سيزيد من حدة مطالبته بالتمديد في الخريف المقبل". وقال: "لا أحد في الداخل يستطيع تحمل عودة التدهور الاقتصادي، ولا مصلحة لسورية في اي تدهور يهدد الاستقرار والخوف هو ان يجد رئيس الجمهورية المقبل نفسه امام اسم وحيد لرئاسة الوزراء هو رفيق الحريري". ولم يخف احد الحالمين بالرئاسة اغتباطه "بمرور ايار من دون مرور التعديل". واعتبر ان غياب اسماء بعض المرشحين للرئاسة عن الحكومة الجديدة لن يعني غياب حظوظهم. ولفت الى ان التفويض الذي منح للحريري هو "جائزة ترضية وليس تفويضاً مطلقا". بشار والملف اللبناني حدث بارز رافق بدء الاستشارات وهو زيارة الدكتور بشار الأسد للقصر الرئاسي اللبناني ناقلاً الى الرئيس الهراوي تحيات الرئيس الأسد ومؤكداً وقوف سورية الى جانبه. واعتبرت الزيارة اول اطلالة رسمية لنجل الرئيس السوري في لبنان ومن خلال الشرعية وعززت الاعتقاد بأن الملف اللبناني صار يشكل جزءاً من اهتماماته، خصوصاً ان دائرة علاقاته واتصالاته باتت تشمل الرؤساء الثلاثة وعدداً كبيراً من السياسيين والشخصيات ومن بينهم المجموعة التي يتهمها الحريري بالمشاكسة. الهراوي أو شبيهه يبقى الخريف والرئيس الوافد من الخريف. فما هي المواصفات المطلوب توافرها في الرئيس المقبل؟ - مصدر نيابي رافق هبوب الرياح الرئاسية الأخيرة يقول ان الناخب الأكبر، أي سورية، ينظر الى المسألة على النحو الآتي: - تعطي سورية الاولوية حالياً لمعركة التفاوض مع اسرائيل وتعتقد بأن هذه المعركة لن تكون سهلة، وان المرحلة المقبلة ربما حملت ضغوطات متزايدة من جانب اسرائيل والولاياتالمتحدة معاً. فحكومة اسحق رابين مهتمة بتحقيق انجاز حاسم على المسار السوري - الاسرائيلي قبل ان تغرق اسرائيل في اجواء انتخابات العام المقبل. وفي هذا السياق حذر اكثر من مسؤول اسرائيلي من ان الفرصة المتاحة لتحقيق تقدم حاسم لا تتعدى بضعة شهور. ويمكن قول الشيء نفسه عن الادارة الاميركية التي قد تجد نفسها في حاجة الى نجاح خارجي كبير قبل الانتخابات الاميركية. وفي مواجهة احتمال تصاعد الضغوط ترى سورية ان مسألة التلازم بين المسارين السوري واللبناني أساسية، وان على اي رئيس لبناني مقبل ان يظهر التزامه القاطع هذا النهج. - وترى سورية ان اداء الهراوي في هذا المجال كان نموذجياً، فهو لم يسقط ابداً في اغراءات الفصل بين المسارين او في الدعوات الى فتح قنوات موازية بمعزل عن سورية. ولهذا تعتبر دمشق ان المطلوب من الرئيس اللبناني الجديد ان يتابع نهج الهراوي في موضوع التفاوض مع اسرائيل. وأكثر من ذلك فان دمشق تطالب اي رئيس جديد بأن تكون سياسته الخارجية مجرد امتداد لسياسة الهراوي التي اعطت الاولوية المطلقة للتفاهم مع دمشق وعلى قاعدة التطابق مع خياراتها العربية والاقليمية وحتى الدولية. وقد كان نائب الرئيس السوري السيد عبدالحليم خدام صريحاً في تأكيده هذه الناحية حين قال ان سورية تريد رئيساً يشبه الهراوي، من دون اخفاء تفضيله بقاء الهراي نفسه. - تعتبر سورية ان على الرئيس اللبناني الجديد التمسك بالثوابت التي قام عليها حكم الهراوي وعدم السماح للتجاذب حول القرار بالتحول الى ازمات مستعصية تنال من صورة السلام الذي ترعاه دمشق، اي ان سورية التي تتفهم حاجة الرئيس الى بعض المواقف التي تعزز موقعه في الفريق الذي ينتمي اليه اصلاً تشدد على ألا تصل هذه الحاجة الى حد الدعوة الى اعادة النظر في طبيعة السلام اللبناني الحالي والتوازنات التي يقوم عليها. وهكذا سيكون السقف الذي سيتحتم على الرئيس الجديد التزامه هو السقف نفسه الذي التزمه الرئيس الهراوي. تضحيات كبيرة - يرى المصدر النيابي ان الهراوي قد يكون اقوى رؤساء الجمهورية في "الجمهورية الثانية" لأسباب عدة، اولها شعور دمشق بأنه قدم "تضحيات كبيرة" حين اتخذ قرارات صعبة او وفر لها التغطية الشرعية اللازمة بدءاً من قرار ازاحة العماد ميشال عون في عملية عسكرية مشتركة وصولاً الى قرارات اخرى اصطدم خلالها بمشاعر غالبية ابناء الطائفة التي ينتمي اليها. وانطلاقاً من ذلك تفهمت دمشق بعض مواقف الهراوي التي رمت الى الايحاء ان تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية لم يصل الى حد تهميش دور الرئيس او جعله شكلياً وبروتوكولياً. ويقول المصدر ان اي رئيس جديد سيجد نفسه امام مهمة وحيدة هي الاستمرار في نهج الهراوي خارجياً وداخلياً، وبالتالي فان الاختلاف سيكون في اللمسة الشخصية في الصياغة والاخراج وليس في الجوهر. ويضيف ان هذا الواقع هو الذي اطلق، عملياً فكرة التمديد للرئيس الهراوي خصوصاً ان دمشق خبرته في موقعه في حين انها ستحتاج الى بعض الوقت لاختبار اسلوب الرئيس الجديد. وتعتقد مصادر نيابية بأن جزءاً من الاحتفال السياسي الذي بلغ ذروته في أيار مايو يرجع الى التنافس الحاد على دور "العراب المحلي" بين الحريري وبري. وتقول المصادر ان الحريري يتحرك في الواقع في ضوء استحقاقين، هما انتخابات رئاسة الجمهورية والانتخابات النيابية التي يفترض ان تجرى العام المقبل. وتضيف ان الحريري يعتقد بأن اضطلاعه بالدور الأبرز في وصول رئيس الجمهورية سيسهل له ليس فقط البقاء في رئاسة الحكومة بل ايضاً خوض الانتخابات النيابية المقبلة وتزعم كتلة كبيرة في المجلس النيابي، خصوصاً اذا جاء تقسيم الدوائر الانتخابية مؤاتياً لحساباته. فالحريري يعتبر ان بعض التعثر في تجربة حكومته الأولى يرجع الى افتقاده كتلة نيابية كبيرة قادرة على اقامة شبه توازن مع الحضور الكبير لبري في مجلس النواب كرئيس للمجلس وكصاحب اكبر كتلة فيه. انتظروا ايار التعديل الدستوري فجاءهم ايار التمديد للحريري، وبقيت معركة الرئاسة مفتوحة، بانتظار الرئيس الذي سيصنع في الخريف.