أثار اعتقال رئيس الوزراء السوداني السابق ورئيس حزب الأمة السيد الصادق المهدي الجدل مجدداً في طبيعة علاقته مع الدكتور حسن عبد الله الترابي، وهو صهره في الوقت نفسه. بل يثير الحديث عن الرجلين دوماً تساؤلاً عن مصير السودان وقدره بين هاتين الزعامتين. يجمع بينهما كثير. وما يفرق بينهما أكثر. وكلما حسب المرء أن الخطوط بينهما ستتلاقى، يكتشف أنها خطوط متوازية، ولا سبيل الى التقائها مطلقاً. كلاهما يعتبران مفكرين، ورجلي دولة، وحزبيين من طراز رفيع. ولكل منهما أتباعه الذين يؤمنون بما يقول الى درجة إضفاء هالات من القداسة أحياناً على شخصيته، والتعصب لما يقول، والافتتان بما يبدر عنه. كلاهما من جيل واحد، وإن كان الترابي يكبر صهره بنحو ثلاث سنوات. ولكل منهما اعتقاد خاص في أن العناية الإلهية اختارته ليجدد الدين والتراث والسياسة في البلاد والعالم بأسره ليحكي مسيرة أحد عظماء التاريخ السياسي او الديني. بالنسبة الى الصادق الصديق عبد الرحمن هناك حقيقتان مهمتان في حياته ألقت كل منهما بظلها على طبيعة تفكيره في دوره في حياة أمته. فهو أولاً حفيد الامام محمد أحمد بن عبد الله المهدي الذي هزم جيوش الامبراطورية التي لم تكن الشمس تغيب عنها، وقتل انصاره أعظم قادتها الجنرال تشارلز غوردون. واستطاع بناء اول دولة مسلمة مستقلة في افريقيا نهاية القرن الماضي. وهو - وهذه هي الحقيقة المهمة الثانية - ولد في 25 كانون الاول ديسمبر 1935. وكان لتوافق مولده مع يوم ميلاد السيد المسيح عليه السلام انعكاس مهم على حياته، إذ ملأه شعور بأنه ما ولد في مثل هذا اليوم إلا ليكون منقذاً ومخلصاً . اما بالنسبة الى الترابي، فالجد الأكبر لأسرته هو الشيخ حمد النحلان بن محمد البديري المشهور بابن الترابي ودّ الترابي كما يعرف في السودان. وكان الشيخ حمد اشد إثارة للجدل من حفيده. قيل إنه اختلى بنفسه 32 شهراً، ورفض ان يقطع خلوته حتى بعدما أتى له ذووه بولديه نعمان والهميم وبنته رقيّة. وقيل انه لما خرج من خلوته "خرج يابساً من اللحم والدم، وجلده ملتصق بعظامه وسموه الناس حينئذ النحلان". ويبدو ان حفيده الشيخ حسن أخذ دقة الحجم والنحول عنه. أما الجدل الأكبر الذي أثاره الشيخ النحلان فكان ادعاوه "أنا المهدي" غداة وصوله الى الحج. ويذكر محمد بن النور ود ضيف الله ود عند السودانيين تعني ولد في سفره القيم "الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين" ان النحلان احتجز مع مريديه الذين رافقوه - عددهم 70 - وضرب قبل ان يطلق سراحه. غير انه لم يلبث ان ارسل احد مريديه الى سِنّار - عاصمة الدولة السودانية التي قضى عليها الأتراك - وقال له "أمشي في سنّار قول المهدي نزل". وكانت النتيجة عكسية، إذ إن سلطان سنار دق عنق موفد النحلان. وبعد فترة ابلغ الشيخ مريديه أن الله كشف له عن الغيب، وأمره بالعودة الى وطنه، وقال لهم إنه خلص الى أن "المُضَوّي يضوّي في بلده"، يريد ان على من وهب ضوء المعرفة انارة الطريق لأهل بلاده. وتوفي الشيخ حمد نحو العام 1705 1116 ه. هل كان الصادق المهدي يحلم منذ طفولته بأنه يريد أن يحقق شيئاً يداني بطولات المهدي او معجزات المسيح؟ وهل يحلم الترابي بأن يكون المهدي الذي لم يتسن لجده أن يكون؟ في بيت الإمام ولد الصادق في بيت جده الامام عبد الرحمن الذي أسس حزب الأمة العام 1945، وعيّن إبنه السيد الصديق رئيساً له، محتفظاً لنفسه بالزعامة الدينية، والرعاية السياسية العامة. واختص الجد حفيده برعاية خاصة منذ يفاعته. وأٌُلحق صادق في البداية بمدارس المبشر الايطالي الأب كمبوني. ولما فرغ منها ألحق بكلية فيكتوريا في الاسكندرية، غير أنه لم يكمل دراسته هناك، وعاد الى السودان ليحاول الإلتحاق بجامعة الخرطوم، لكن محاولاته تعثرت أيضاً لأن مستواه كان أرفع من مستوى طلبة السنة الاولى فيها، ولم تشأ إدارتها أن تختط سابقة بقبوله في السنة الثانية مباشرة. وعلى الأثر قررت الأسرة ان يذهب ولدها الى بريطانيا ليكمل تعليمه في كلية سانت جون في جامعة أكسفورد. من أين إذن اكتسب الصادق إلمامه الواسع بالعلوم الشرعية، والفقه، وعلوم العربية ما دام غالب تعليمه علمانياً؟ الواقع أنه درس في مستهل طفولته في كتاتيب القرآن في مدينة الجزيرة أبا التي تعد معقل نفوذ بيت المهدي. وعندما عاد من الاسكندرية تلقى على يد الشيخ الطيب السراج الذي كان احد فحول الشعراء وأدباء العربية في السودان. وروّض رئيس الوزراء السابق نفسه على القراءة منذ صباه حتى تشرب بالعلوم التي اطلع عليها. ولا يختلف الترابي عن صهره كثيراً في هذا الجانب، فقد تلقى الفقه وعلوم العربية على يد والده الذي كان قاضياً شرعياً مشهوداً له بالكفاءة والعلم. ثم التحق بالمدارس الحكومية السودانية حتى قبل في ثانوية حنتوب قرب مدينة واد مدني عاصمة ولاية الجزيرة. هناك التقى الشلة التي قدر لها ان تكون صاحبة أكبر تأثير في مسيرة السودان بعد استقلاله: الرئيس السابق جعفر نميري، محمد ابراهيم نقد الامين العام للحزب الشيوعي السوداني، عبدالله زكريا منسق اللجان الشعبية الليبية في السودان وأحد بناة تجربة العقيد معمر القذافي في الحكم، والمحامي شوقي حسب الله ملاسي أحد مؤسسي حزب البعث فرع القطر السوداني، وغيرهم. ومن هناك التحق الترابي بجامعة الخرطوم التي اوفدته، إثر تخرجه العام 1955، الى بريطانيا حيث نال درجة الماجستير في القانون من جامعة لندن العام 1957. ثم ابتعثته بعد ذلك الى باريس حيث حصل على درجة دكتوراه الدولة في القانون العام المقارن من جامعة السوربون العام 1964. ومن المفارقات ان أطروحة الترابي لنيل الدكتوراه كانت عن أحكام الطوارئ! كان اللقاء الأول بين المهدي وصهره "المقبل" إبان سنوات الدراسة في جامعة الخرطوم. وتعززت العلاقات الشخصية بينهما إبان مكوثهما في بريطانيا. غير أن قدر كل منهما مع الزعامة كان وشيكاً. فما إن عاد الصادق الى السودان العام 1957، حتى دبر له جده وظيفة مساعد مفتش في وزارة المال. وكان - في ما يبدو - سيسلك طريقاً متأنية طويلة لتدريبه على مهمات الادارة وتحمل أعباء الحزب. غير أن المنية عاجلت الامام عبد الرحمن العام 1959. واضطر الصادق الى التفرغ لمساعدة والده السيد الصديق الذي بويع إثر وفاة أبيه إماماً على الأنصار وزعيماً للحزب. ولم يدم ذلك سوى عامين. ففي 1961 توفي الإمام الصديق، ووجد صادق نفسه، ولما يكن عمره تجاوز 25 عاماً، رئيساً للحزب وإماماً للطائفة، وإن كان عمه الامام الراحل الهادي المهدي نازعه على الإمامة حتى انشق الحزب خلال الستينات الى "جناح الصادق" و"جناح الهادي". وعاد الدكتور الترابي الى السودان ليشارك في ندوات جامعة الخرطوم الشهيرة التي أشعلت شرارة ثورة تشرين الاول اكتوبر التي أسفرت عن القضاء على حكم الفريق الراحل ابراهيم عبود الذي استمر 6 سنوات. وقاد بمهارة بالغة تحركات شديدة ومناورات في شأن هيكل قيادة الحركة الاسلامية فاختير - ولم يكن تجاوز عامه الپ33 - مراقباً عاماً للاخوان المسلمين، وأميناً عاماً لجبهة الميثاق الاسلامي التي اختاروها واجهة سياسية لهم. وكانت أواصر العلاقة بين الصادق والترابي توطدت، حتى بلغت ذروتها بموافقة آل المهدي على أن يتزوج الترابي ابنتهم وصال الصديق عبدالرحمن التي لا يزال الصادق يتمسك بأنها شقيقته الأثيرة والقريبة جداً من نفسه. وكان الصادق معجباً بنشاط صهره الشاب في بناء هياكل عمل اسلامي حديث بخلفية تمزج بين العلمانية والنشأة الدينية. وكان الترابي يدرس عن كثب دقائق العلاقة بين الامام وأنصاره، وبين رئيس الحزب ومساعديه. وبقيت العلاقة تزيد قرباً وتفاهماً حتى أن أصفياء الصادق لا ينفكون يصفون تنظيم الترابي بأنه إنما ولد في بيت المهدي. وكان رئيس الوزراء السابق آنئذ في عنفوان شبابه، وتمرده على القديم، حتى كان كثيرون يصفونه باليسارية، خصوصاً عندما كان يهاجم رئيس الوزراء الراحل محمد أحمد محجوب ويصفه بأنه رجعي. اعجاب انكليزي - فرنسي أليس ذلك كله كافياً ليؤكد أن تنافساً خفياً نشأ بينهما على أيهما أجدر بأن يحكم السودان؟ منتقدو رئيس الوزراء السابق الذي لا يعرف مكانه منذ اعتقلته قوات الأمن السودانية في 16 أيار مايو الماضي يقولون إنه ارتكب خطأ لا يزال يعاني من مضاعفاته بعدما تولى رئاسة الحزب، إذ لم يطق صبراً حتى بلوغه عامه الثلاثين، وهي السن القانونية التي تتيح له عضوية البرلمان، وشغل مقعداً وزاري. إذ سرعان ما ارسل الرسل الى رئيس الوزراء الراحل محجوب يطلب منه الاستقالة حتى يخلي له مقعده في الجهاز التنفيذي . واندلع نزاع انتهى باستفحال الخلاف بين الصادق وعمه الامام الهادي. غير انه نجح في تولي الحكم العام 1969، لكن رئاسته لم تدم اكثر من 7 أشهر. وبقي في المعارضة حتى وضع نميري حداً للديموقراطية الثانية في البلاد. لم يكن الترابي قادراً على منافسة الصادق بذلك المستوى. فمن الناحية التنظيمية، لم يكن لدى "الاخوان المسلمين" و"جبهة الميثاق" عمق شعبي يذكر، وكانا يستمدان تأييدهما أساساً من صفوف طلبة الجامعات والمعاهد العليا. غير أن مهارات الترابي إبان المناورات في شأن الدستور الاسلامي، وإثر ثورة 1964، وخلال انشقاق الحركة الاسلامية الذي تولى بعده قيادة أهم أجنحتها، هيأت له مجتمعة أن يتبوّأ مكاناً مهماً بين صدارة قيادات أحزاب البلاد. وكان طبيعياً أن يلتقيا ويتحالفا. كان حلفهما الأول اتفاقاً على ضم الصفوف لمعارضة نظام الفريق عبود 1958- 1964. وتحالفا ثانية إبان معركة الدستور الاسلامي العام 1968. وكان ذلك بعدما أيد الترابي الصادق في صوت الثقة الذي طرح في حكومته في ايار مايو 1967. وتوطدت عرى التحالف بينهما عقب انقلاب نميري، إذ إنضم "الاخوان المسلمون" الى الامام الهادي المهدي في الجزيرة أبا ليحاربوا النظام. وهو تحالف استمر حتى العملية العسكرية التي نفذتها المعارضة السودانية في الخرطوم في تموز يوليو 1976. وكان ابرز المشاركين فيها من قادة "الاخوان" غازي صلاح الدين عتباني وزير الدولة الحالي في وزارة الخارجية، ومهدي ابراهيم وزير الدولة للشؤون السياسية في رئاسة الجمهورية. المصالحة مع الشيطان! انضم الترابي الى الصادق بعدما أعلن ان نميري اجتمع مع الصادق في بورتسودان العام 1977، وانهما توصلا الى اتفاق مصالحة وطنية. وفيما عاد الصادق ليعارض من الداخل، ويحاول تضميد جروح عملية الغزو الفاشلة التي قادها مؤيدوه، لم تغب عن فطنة صهره اللحاق بركب المصالحة للتفرغ لبناء التنظيم، وتهيئة العقول والاذهان ليوم تطالب فيه الحركة الاسلامية تطبيق الشريعة، وإلغاء الديمقراطية لإقامة ما يسمى "نهج الشورى". ومرة أخرى، كأنّ الليلة البارحة، كان الصادق متكئاً دوماً على قاعدته الانصارية العريضة، وزعامة موروثة، ومكتسبة بالعلم والمعرفة. وكان حسن يدرك ان نقطة ضعفه الكبيرة تتمثل في افتقاره الى عمق شعبي، وسند يركن إليه لتعزيز نفوذ محتمل على السلطة. ويمتلك الزعيمان دهاء ومكراً لا يخفيان، وإن كان الصادق يضيف الى ذلك أنه مؤمن بأن تكون السياسة "شيئاً رحمانياً"، أي أن تخلو من عناصر الضرر والخبث. وعندما اقترب الصادق من نظام نميري، وعرف كيف تساس أمور البلاد، قرر أن يستقيل من عضوية المكتب السياسي للحزب الحاكم، على رغم اعلانه غداة انضمامه الى النظام أنه يقر بأن الديموقراطية التعددية لا تصلح للبلاد، وأنه لا بد من حزب واحد جامع. واعلن طلاقاً بائناً مع النظام بعدما أعلن نميري تطبيق التشريعات الجنائية الاسلامية التي عرفت في ادبيات السياسة السودانية ب "قوانين سبتمبر 1983". غير أن الترابي استغل كل فرصة أتيحت له في مؤسسات نميري ليعمل على إحكام بناء تنظيمه، وتعزيز جماعته. واستغل الفرصة واسعة لادخال التنظيم في المجال الاقتصادي. وفي تلك الفترة وُضع الاساس الاقتصادي الذي أتاح للتنظيم التحول من مجرد حزب الى دولة. وفيما اقتيد الصادق الى المعتقل بعدما عارض قوانين نميري، كان حسن يدعو المؤيدين والمتفرجين ليبايعوا نميري إماماً، واستمر في مساندة حكمه من دون شروط أو مطالب. بل تولى مناصب وزارية رفيعة مرات عدة قبل سقوط نميري العام 1985. هل كانت تلك نهاية علاقة لم يبق فيها غير المصاهرة التي اسفرت عن إنجاب شقيقة رئيس الوزراء السابق عدداً من الأولاد والبنات ممزقين تماماً بين أب يحكم، وخال يقتاد الى السجون؟ القفز من النافذة أفاد الترابي من السكينة التي أتيحت له إبان حكم نميري، واستطاع ان يعبر بتنظيمه النخبوي الحاجز ليصبح تياراً شعبياً شبه عريض، حظي بسند شبه شعبي عندما أجريت أول انتخابات حرة في البلاد بعد 16 عاماً من الحكم العسكري. وهكذا حصل حسن هو شخصياً سقط في دائرة الصحافة في الخرطوم على 52 مقعداً نيابياً أهّلت جبهته لتكون القوة الثالثة في البرلمان المنتخب. على رغم الخلافات التي سبقت سقوط نميري، تعاون الصادق وحسن حتى توّجا ذلك العام 1988، بتشكيل حكومة ائتلافية انسحب منها الحزب الاتحادي الديموقراطي الذي يتزعمه السيد محمد عثمان الميرغني. وبالطبع تدخل الجيش بتقديم مذكرته الشهيرة في شباط فبراير 1989 طالباً من رئيس الوزراء تكوين حكومة وطنية ذات قاعدة موسعة سميت آنذاك "حكومة القصر"، أرغمت الجبهة الاسلامية القومية على عدم المشاركة فيها. ولهذا يقول كبار مساعدي المهدي إن الترابي خرج من الباب ليدخل من النافذة، ممتطياً ظهر الدبابات التي أتت بالفريق عمر حسن البشير الى الحكم في حزيران يونيو 1989. ومنذ ذلك الوقت وعامة السودانيين يتساءلون: من نصدق الترابي أم الصادق؟ أيهما الذي ضيّع السودان؟ وهل يجوز ان يُنتقد الصادق في هذه الظروف؟ وهل يعتبر اي نقد يوجه الى حسن في هذا الوقت كيداً وحسداً له؟ يتميز الترابي على رئيس الوزراء السابق بحسن التنظيم، وامتلاك ناصية الاعلام. وهما جانبان يقر الصادق ومساعدوه بضعف الحزب فيهما إبان الديموقراطية. ففيما لم تكن للحزب سوى صحيفة واحدة صوت الأمة التي توقفت قبل الانقلاب العسكري، كانت الجبهة تملك صحيفة "الراية" الناطقة باسمها، وتسيطر على صحف عدة منها: "الأسبوع"، و"ألوان"، و"صوت الجماهير"، و"الملتقى". أما على الصعيد التنظيمي، فقد استطاع الترابي أن يبني تنظيماً سرياً، يتسلسل في شكل حلقات، الانضباط فيه أشبه بانضباط الخلايا العسكرية. ولهذا توافرت له على الدوام امكانات الحشد المسيرة المليونية، صلاة الشكر .. ألخ، بينما يحتاج الحشد في حزب الامة الى بضعة أيام. وهو من الإخفاقات التي جرتها الى الحزب طبيعته الكيانية، خصوصاً ان الدور التاريخي لبيت آل المهدي ألقى ظلالاً كثيفة على قيادة الحزب، الى حد أنها تنحاز كثيراً الى أهل البيت، متخلية عن مثقفي حزبها في العراء. وهذا الجانب بقي يطرح باستمرار أسئلة عن مدى الديموقراطية داخل الحزب. وهي قطعاً أسئلة سيجد الصادق نفسه مضطراً الى تقديم إجابة عنها فور انقشاع الظروف الحالية. ومن الانتقادات الكبيرة التي وجهت الى رئيس الحكومة السابق أنه ركن الى التنظير، وكثرة الحديث، من دون ان يكون هناك مقابل من الاعمال والمنجزات. فمنذ توليه الحكم في 6 ايارمايو 1986 حتى إطاحته العام 1989 ألقى 140 خطاباً جمعت في نحو 1091 صفحة. واشتهر عندئذ بعبارتي "هلمّ جرّا" و"ينبغي". غير أنه كان يرد على منتقديه بأن حكمه أتى بعد كبت دام 16 عاماً، وأن مهمته أن يرفع معنويات الشعب، كما أن الديموقراطية أساساً حوار، ولكي تقنع الناس لا بد من أن تحاورهم. ويرد بأنه مع ذلك يرى أن نظام الجبهة الاسلامية القومية تحدث أكثر منه. ويتهمه خصومه بأنه كان متردداً في اتخاذ قراراته، وأنه لم يبل بلاء حسناً على الصعيد الإداري. غير أنه يرد بالقول إن المكتب السياسي لحزب الامة اتخذ إبان حكمه 10 قرارات، لم يأبه في ستة منها لرأي رئيس الحزب. ومن الاتهامات الاخرى التي راجت ضد الصادق وصمه بأنه ديكتاتور مدني، غير أن قرائن الواقع تقول انه برز بتلك الصورة لأن المحيطين به لم يكونوا على مستوى قادة حزب الترابي الذي يضم عدداً من المجتهدين والمفكرين الذين انتجوا فكراً صب في جملة مساعي بناء المدرسة السياسية التي ارسى دعائمها الترابي نفسه. وهي جريرة لا ينبغي ان تحسب على الصادق. ويشار أيضاً الى ما لقيه من عنت مطالب النقابات، وتحامل الصحافة المتعطشة الى الحرية التي لا تعرف قيداً ولا حداً. وحين يشار الى القضايا الكبيرة التي أخذت على ادارة المهدي - كقضية تعويضات آل المهدي والقصاص لعمه الامام الهادي المهدي - فقد يشفع له أنه تعرض لضغوط أسرية وكيانية شديدة. وربما كانت محنته ناجمة عن "غيبة الرجال الذين كان السودان يترجى منهم الإمساك بالرسن كلما جمحت الخيول. في عهد اليموقراطية الثالثة أضحوا جزءاً لا يتجزأ من الصراع. ومشكلته الأساسية الأخرى أنه كان أكثر استجابة دوماً للاعتبارات الضاغطة في حزبه وفي الحزب الحليف" على حد تعبير وزير الخارجية السوداني السابق الدكتور منصور خالد. ويلخص خالد - وهو من جيل الترابي - رأيه في زعيم الجبهة الاسلامية القومية بالاشارة الى دهائه السياسي، ليقول ان لديه "براعة أعرفها عنه منذ صباه. يغرس رمحه في قلب خصمه غير راحم وهو يبتسم". وبالطبع كثيراً ما تساق الاتهامات الى الترابي، فتارة يوسم بالميكافيلية، وتارة بالبراغماتية. غير أن اهم الانتقادات التي يقر المقربون إليه بخطورتها أنه يدخل - ويلزم التنظيم بالطبع - في تحالفات لا تقوم على هدي من مبادئ الجماعة، ويشيرون الى تحالفه مع الصادق ضد عمه الامام الهادي في الستينات. كذلك يعاب على الدكتور الترابي أنه لا يكتم سراً، فما ان تنقل إليه معلومات عما وصل إليه مساعدوه، حتى يفاجئهم بتسريبها غير عابئ بما قد تثيره من ردود فعل سلبية. ويشيرون الى إفشائه خطة حل مجلس قيادة "ثورة الإنقاذ الوطني"، وتصريحه الى هيئة الإذاعة البريطانية العام 1992 بأن معلوماته تفيد أن القوات السودانية التي حررت مدينة فشلا في جنوب السودان عبرت الاراضي الاثيوبية لتنفذ مهمتها. وأثار ذلك أزمة حادة بين الخرطوم وأديس أبابا، الى أن تدخل الفريق البشير لينفي صحة معلومات الترابي، بدعوى أنه لا يشغل أي منصب في الجهاز التنفيذي السوداني. نبيل أم ميكافيللي؟ أفراد الرعيل الأول من قادة الحركة الاسلامية السودانية يصفون الترابي بأنه براغماتي، مفرط احياناً في براغماتيته. ويتهمه بعضهم كالدكتور الحبر يوسف نور الدائم أحد قادة التنظيم الأصلي للأخوان بأنه يفرط الى درجة يتقول فيها على المبادئ الأساسية للدين، ويشير خصوصاً الى اجتهادات الترابي في موضوع المرأة، ودعوته الى إباحة الاختلاط، وقبوله مبدأ "تبعيض" الدين بحيث تكون شريعته حاكمة في الشمال، ومعطلة في الجنوب. ولا يبدي الترابي اهتماماً او حرصاً كبيراً بمتابعة دقائق الشأن اليومي لحزبه او شراكته مع العسكريين الموالين له. إنه متفرغ للعموميات، والأفكار الاستراتيجية التي قد تتخطى الحدود. ولا يواجه بين جماعته أي انتقادات تطاوله شخصياً. غير أن الانتقادات توجه بلا انقطاع الى المجموعة التي يحيط بها نفسه، بدعوى أنها ينبغي أن تكون أكثر شورى. ويتحدث آخرون عن افتقار المجموعة المشار إليها إلى أي رغبة في احداث أي قدر من التحول الايجابي في علاقة "ثورة الانقاذ الوطني" بالأحزاب السياسية المعارضة. ويقول محيطون بالترابي إن تلك المجموعة ترفد السلطات العليا - بما فيها حسن نفسه - بمعلومات مضللة، وعندما يتفق على تعيينات وانشاء مناصب او مؤسسات جديدة تسارع المجموعة الى تزكية الأسماء التي تريد لها من الكسب حظاً كبيراً. لمن يكتب البقاء؟ بعد هذا يبقى سؤال مهم: اذا كان هناك ذلك القدر كله من التعاون السابق بين الطرفين، هل يلتقيان ثانية؟ هل يفاجئ الصادق مؤيديه ببيان يعلن فيه أنه قرر القبول بمصالحة وطنية؟ وما هي حظوظ الترابي نفسه؟ قد يبدو لكثيرين أن ثمة نقاط التقاء كثيرة تجمع الرجلين. غير أن ما يفرق بينهما فكرياً أكبر بكثير. فلكل منهما رؤيته الخاصة للدولة الحديثة والحكم الاسلامي. ولكل آراؤه في شأن الاقتصاد الحديث وتأرجح آراء الفقهاء فيه. والخلاف بينهما أكبر وأوضح شأناً في رؤية كل منهما لمعنى الصحوة الاسلامية، والحرية، وحقوق الإنسان وتعامل النظام سياسياً معها. وفوق ذلك كله خلافهما بيّن في شأن مستقبل جنوب السودان. وقد تبدو مواقف الصادق في هذا الشأن أشد جاذبية للجنوبيين من سياسة العصا والجزرة التي يشجعها الترابي. والأهم أن المهدي يرى أن غلبة الإسلام تأتي ديموقراطياً وسلمياً. غير أن نده اختار سياسة التمكين، و"توكل على الله" في تنفيذها. يلتقيان؟ يبدو اللقاء صعباً جداً. فمن ناحية، انقطعت اسباب عدة كانت جمعتهما تقليدياً، وقربت كل منهما الى الآخر. فقد انتهت مثلاً الحرب ضد الشيوعية. ولم تبق مبررات للاستمرار في الدعوة الى وحدة بين جموع المسلمين ما دام الترابي فضّل سوق المجتمع بوسيلة حزبية. والأكثر أهمية أن الجبهة بلغت طور الدولة، وهي تجربة تختلف تماماً عن مفهوم الدولة في فكر الصادق. وصدور الأنصار قاطبة مراجل تمور غضباً. ويشعرون أن الترابي وجماعته عاملا الأنصار بطريقة أسوأ مما عوملوا به على أيدي نميري. سؤال إجابته في علم الغيب. كل الاحتمالات واردة. غالبية المعارضين في الخارج من قيادات حزب الأمة تحذر من المساس برئيس الوزراء السابق، غير أن ردود فعل الأنصار في معاقلهم داخل السودان تنبئ بأن مؤيديه يستبعدون أن يلحق الحكم أذى به. غير أن الفئتين لا تثقان بالترابي ومعاونيه. أما بالنسبة الى زعيم الجبهة الاسلامية فيقول الصحافي السوداني حيدر طه ان "... اختفاء الترابي، فوراً او تدريجاً، سوف يؤدي الى افتقاد القوة الوحيدة، الروحية والسياسية والتنظيمية، القادرة على السيطرة على تناقضات كثيرة وحادة داخل الجبهة الاسلامية والمؤسسات المتعددة التابعة لها ... وهي تناقضات متركزة في التوجهات والمصالح والتكوين ... وقد استطاع الترابي بعقليته الميكافيلية، واسلوبه البراغماتي، وقدراته الفكرية، أن يؤجل تأجج هذه التناقضات الى حين، ولكن ليس هناك مفر من ان تنفجر عاجلاً أم آجلاً، في وجود الترابي أو في غيابه". بالمناسبة، هما وحدهما اللذان ينادي كل منهما الآخر باسمه الأول مجرداً: حسن.. الصادق. الأول يناديه مريدوه "الشيخ" والثاني لدى أنصاره "السيد". مراجع ومصادر - منصور خالد: النخبة السودانية وإدمان الفشل في جزئين، مطابع سجل العرب، القاهرة 1993. - عبد الرحمن محمد حامد: من ضيع السودان؟ مطبعة جامعة الخرطوم، 1991. - حيدر طه: الأخوان والعسكر .. قصة الجبهة الإسلامية والسلطة في السودان، مركز الحضارة العربية للإعلام والنشر، القاهرة، 1993. - فتحي الضو محمد: محنة النخبة السودانية، مطابع سجل العرب، القاهرة، 1993. - الدكتور عبدالله محمد قسم السيد: الصادق المهدي وأزمة الديموقراطية في السودان، القاهرة 1992. مؤلفات الصادق المهدي بالعربية - إصلاح وتجديد - مسألة جنوب السودان - جهاد في سبيل الاستقلال - أحاديث الغربة - يسألونك عن المهدية - العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الاجتماعي - المنظور الاسلامي للتنمية الاقتصادية - المرأة وحقوقها في الاسلام - الديموقراطية في السودان عائدة وراجحة - تحديات التسعينات - الصحوة الاسلامية سلسلة محاضرات في 13 كتيباً بالانلكيزية: - الاسلام والثورة في الشرق الاوسط وشمال افريقيا - التنمية والسياسة في السودان - المهدية في الاسلام - الاسلام والتغيير الاجتماعي - النظام الاقتصادي في الاسلام - مفهوم الدولة في الاسلام تحت الإعداد: - السيرة النبوية - تفسير القرآن الكريم مؤلفات حسن الترابي بالعربية - أضواء على القضية الدستورية - الصلاة عماد الدين - الايمان - أثره في حياة الانسان - المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع - تجديد أصول الفقه - تجديد الفكر الاسلامي - مشكلات تطبيق الشريعة - حوار الدين والفن - الحركة الإسلامية في السودان بالانكليزية الدين والتجديد المسلم بين الوجدان والسلطان