يشكل الفيتو الذي وضعته الولاياتالمتحدة على تعيين رئيس الوزراء الهولندي السابق رود لوبيز أميناً عاماً للحلف الأطلسي إحدى العلامات لأزمة متعددة الاتجاهات داخل الحلف. فالرفض الأميركي لم يكن متوقعاً، خصوصاً ان لوبيز ينتمي إلى بلد يمثل تاريخياً توجهات أطلسية مؤكدة، وتكفي العودة عشر سنوات إلى الوراء لمعرفة الدور الحاسم الذي لعبه لوبيز في هولندا ضد قطاعات واسعة من الرأي العام وقوى برلمانية منظمة، في اعطاء الضوء الاخضر يومذاك لنشر الصواريخ الأميركية المتوسطة المدى من طراز بيرشينغ تطبيقاً لقرار اطلسي في معادلة الصواريخ السوفياتية من طراز اس - اس - 20. والأهم من ذلك خرقت واشنطن جزئياً قاعدة غير مكتوبة منذ تأسيس الحلف الأطلسي، حين رفضت للمرة الأولى الموافقة على تعيين شخصية سياسية أجمعت عليها الدول الأطلسية الأوروبية الكبرى، كأنما الدخول الفعلي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، والاستعدادات الجارية لتدخل أطلسي واسع النطاق في البوسنة، دفعت الادارة الأميركية الحالية إلى تنبيه الحلفاء الأوروبيين إلى أن السيطرة الأميركية على توجهات الحلف ليست عسكرية فحسب، بل سياسية أيضاً. بالطبع، عملت الأوساط الأطلسية الأوروبية على تجنب أزمة مفتوحة مع واشنطن، وعاد العد العكسي الآن إلى نقطة الصفر وإلى الديبلوماسية السرية حتى لا يتم مستقبلاً احراج أي طرف، غير أن الآثار السلبية للموقف الأميركي تتجاوز شخصية لوبيز والتسرع الأوروبي في دعم ترشيحه قبل اجراء المشاورات الكافية مع البيت الأبيض والبنتاغون. وخلافاً لتصورات كثيرة لم تكن العلاقة الأوروبية - الأميركية داخل الحلف الأطلسي خالية من النزاعات، غير أن ظروف الحرب الباردة والثقل العسكري والأمني الأميركي نجحت في طمس نقاط الخلاف، خصوصاً ان الجانب الأمني داخل الحلف كان طاغياً على الجانب السياسي. ويبدو الآن ان هذه المعادلة تغيرت، أو هي في طور التغيير، ومن هنا أهمية علامة الرفض الأميركي التي رافقت الخطوات السياسية الأوروبية لتعيين لوبيز. يضاف إلى ذلك ان إرادة الهيمنة الأميركية على المستوى السياسي تجلت قبل الأزمة الأخيرة في دفع الأوروبيين إلى مواقع وخيارات لم تتم فيها أي استشارات مسبقة، وينطبق ذلك على الدراسة غير المكتملة التي نشرها الحلف الأطلسي أخيراً عن عملية توسيعه مستقبلاً في اتجاه دول أوروبا الشرقية والوسطى، وكذلك على اتخاذ مبادرة في استقبال وفد عسكري روسي رفيع المستوى في مقر القيادة العسكرية الموحدة للحلف، للتفاوض في شأن مشاركة موسكو في القوة الأمنية التي يعد لها الأطلسي للتدخل في البوسنة. ثم إذا كانت هذه الأمثلة لا تكفي، فإن الطريقة التي تعاملت فيها الولاياتالمتحدة أخيراً مع الملف اليوغوسلافي من فرض الاتحاد الكرواتي - البوسني إلى المحادثات الثلاثية في دايتون اوهايو، أكدت نهج الإدارة الأميركية الحالية في فرض وجهات النظر على الحلفاء ووضعهم أمام الأمر الواقع... الأمني والسياسي. لكن في مواجهة هذا الضغط الأميركي المتواصل، لا يتجاوز الرد الأوروبي حالياً طرح تصورات بعيدة الأمد عن دفاع أوروبي مستقل داخل المنظمومة الأطلسية، وعن تعزيز مفترض لدور اتحاد أوروبا الغربية، ولعل في هذا الاتجاه يمكن ادراج التقارب الفرنسي - البريطاني إلى جانب تكثيف التعاون الفرنسي - الألماني. صحيح تماماً أن الأسابيع الماضية شهدت سلسلة لقاءات هي الأولى من نوعها بين مجلس سفراء الحلف الأطلسي والسفير الروسي تشوركين، ولعل في ذلك ما يوضح، على رغم الخلافات، ان تغييراً ايجابياً حدث في سياق العلاقات بين بروكسيلوموسكو، لكن حين تناولت المسألة التوصل إلى اتفاق على المشاركة الروسية في قوة السلام في البوسنة وبعد أسابيع من محاولات ديبلوماسية فاشلة، فإن الفصل الأخير تم في مقر الحلف في بروكسيل بين وزير الدفاع الروسي الجنرال غراتشيف ونظيره الأميركي ويليام بيري. ويبدو في أي حال ان الحجة الرئيسية التي قدمتها واشنطن في رفض ترشيح لوبيز ان "الامتحان الشفوي" الذي أجراه هذا الأخير أمام وزير الخارجية الأميركي وران كريستوفر ومستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي انتوني لايك، أثبتت قصور رؤيا بالنسبة إلى الدور الأطلسي في البوسنة وعدم سيطرة تامة في التحكم بمختلف تشابكات هذا الملف المعقد، وقيل ان على الأمين العام الجديد للحلف أن "يقنع" الكونغرس الأميركي بتدخل سلمي وفعال على حدود الجمهوريات المفككة للاتحاد اليوغوسلافي السابق. لكن يبدو، من جهة أخرى، أن هذا الطرح لم "يقنع" الأطراف الأطلسية الأوروبية، وهو ما عبر عنه بلغة ديبلوماسية وزير الخارجية الهولندي فان مييرلو حين أعلن انسحاب لوبيز من السباق على خلافة ويلي كلاس. أقل ما يمكن أن يقال إن الرفض الأميركي الآن جاء في الوقت غير المناسب، والاجماع على تعيين أمين عام جديد للحلف ليس متوافراً بالسرعة التي تتمناها الأوساط الأطلسية، فيما يبدو من جهة أخرى، ان تعبير "أزمة" اختفى تماماً من قاموس العلاقات بين جانبي الأطلسي. يقال أيضاً إن التجربة السياسية التي كان يتمتع بها كلاس كانت كافية لازالة ترددات الكونغرس حول جدوى التدخل السلمي في البوسنة، وان هذا العامل لعب دوراً في تمسك واشنطن بالأمين العام السابق حتى اللحظة الأخيرة. ملف الخلافة لا يزال مفتوحاً، وكما في بروكسيل، كذلك في واشنطن وبقية العواصم الأطلسية، تتعدد المراهنات فتتراجع الأسماء أو تتقدم لكن مركز القرار يبقى في النهاية بعيداً عن أوروبا.