غادر الرئيس الأميركي بيل كلينتون بلاده متأثراً بوفاة والدته، فهل عاد اليها سعيداً بنتائج جولته الأوروبية الأولى؟ لقد أمضى كلينتون سنة في البيت الأبيض يولي اهتماماً للقضايا الداخلية ويتخبط في مجال السياسة الخارجية باحثاً، عبثاً، عن عنوان عريض لها: توسيع الديموقراطية، مواجهة انتشار أسلحة الدمار الشامل، اعطاء الأولوية الحاسمة للعلاقات الاقتصادية. وبدا في خلال ذلك، ان أوروبا، الحليف التاريخي الأهم للولايات المتحدة، تغيب عن دائرة الضوء والاهتمام. ثم جاءت الزيارة التي كان كلينتون يود ان يقول بعدها، مردداً كلام "قيصر" آخر، "وصلت فعاينت فانتصرت"! حقق الرئيس الأميركي في أيام قليلة انجازات لا يمكن نكرانها. انها النصف الملآن من الكأس. لقد نجح في تمرير فكرة "الشراكة من أجل السلام" كحل وسط يؤدي الى توسيع حلف شمال الأطلسي من غير توسيعه فعلاً. واتخذ قراراً بفتح الحلف أمام شركاء جدد يحضرون الاجتماعات ويشاركون في مناورات ويقولون رأيهم في الخطط العامة ولكنهم غير مشمولين بالمظلة النووية التي يؤمنها الحلف للأعضاء الكاملي العضوية. صحيح ان هذه البلدان غير محددة بعدد لكن أحداً لا يجهل ان بولونيا وهنغاريا وتشيخيا وسلوفاكيا تملك الأولوية في هذا المجال. لقد قادت واشنطن حلفاءها الغربيين من أجل تبني الهواجس الأمنية لدول الوسط الأوروبي التي كانت، في السابق، المسرح الأول للحروب الكبرى. وحصل ذلك من غير تقديم الخطوط العسكرية للحلف نحو التماس مع الحدود الروسية بحيث يغلب حس الحصار عند الروس ويزداد ميلهم الى التيار القومي المتطرف الذي بات يملك ممثلاً قوياً في "الدوما": فلاديمير جيرينوفسكي. والقمة الأطلسية الثالثة عشرة، والثانية من نوعها منذ انهيار جدار برلين، حاولت ان ترسم استراتيجية متجددة للحلف الغربي على ضوء التحولات في أوروبا الشرقية والوسطى والتطورات الأخيرة في روسيا. كانت كذلك، أول امتحان أوروبي للرئيس كلينتون، الذي أبدى في الآونة الأخيرة اهتماماً خاصاً بالعلاقات مع بلدان المحيط الهادي وقيل ان ذلك على حساب العلاقات المتمايزة بين جانبي الأطلسي. عقدة البوسنة ثلاث مسائل رئيسية سيطرت على أعمال القمة، وإذا كانت سجلت نتائج ايجابية بالنسبة الى إقرار هوية دفاعية وأمنية أوروبية داخل المجال الأطلسي، وتوصلت الى صيغة "الشراكة من أجل السلام" لدعم الاستقرار في أوروبا الشرقية والوسطى، إلا أنها اصطدمت بحاجز التوصل الى موقف فعَّال وموحد لوضع حد للنزاع في البوسنة والهرسك. والاعلان السياسي الختامي، الذي دعا مختلف فرقاء النزاع الى احترام التزاماتهم بوقف النار، أشار مجدداً الى استعداد الحلف للقيام بعمليات جوية من أجل فك الحصار الصربي عن ساراييفو غير أنه ربط ذلك بضوء أخضر من مجلس الأمن الدولي. بمعنى آخر، لا جديد أطلسياً حول البوسنة والهرسك، بالنسبة الى اعلان آب اغسطس العام الماضي، باستثناء التفهم الذي أبداه الرئيس الأميركي، حيال المبادرة الفرنسية - البريطانية المشتركة المتعلقة بتدخل جوي محدود النطاق، لاعادة فتح مطار توزلا من جهة، ثم إفساح المجال أمام قوة دولية للتمركز مكان قوة أخرى في مدينة سيبرينيتشا المحاصرة من جهة ثانية. إن هذا الاحتمال، حسب رأي المراقبين، لا يعني بالضرورة التدخل الفوري، ويمكن اعتباره بمثابة تهديد لحمل الجانب الصربي على تقديم تنازلات اضافية. ثم ان كل المداخلات الرئيسية، وفي مقدمتها ما جاء على لسان كلينتون اعتبرت ان الفشل في ايجاد حل للنزاع يشكل نيلاً من صدقية الحلف، مع كل النتائج التي يمكن أن تترتب على تصور من هذا النوع، بالتزامن مع وضع يهدد الاستقرار الاقليمي، على الأقل في البلقان. ومن هنا تبقى الاحتمالات مفتوحة، بالتنسيق مع الأممالمتحدة واتحاد أوروبا الغربية، لاتخاذ مبادرات جذرية وعملية في وقت لاحق، اذا استمر الوضع متفجراً، أمنياً وسياسياً، كما هو عليه الآن. والواضح كذلك، ان هناك حالة تخبط رافقت المحادثات الأطلسية المتعلقة بالنزاع في البوسنة ويوغوسلافيا سابقاً، وهذه النقطة التي لم تكن مدرجة أصلاً على جدول الأعمال، نالت النصيب الأوفر من الاهتمام، كما شكلت محور اللقاءات الجانبية، خصوصاً بين ميتران وكلينتون. فالرئيس الأميركي الذي حاول وضع جميع الفرقاء أمام مسؤولياتهم، في حال اتخاذ قرار بالتدخل، لم يتعهد بحضور بري أميركي. ومرة أخرى، تبين أن المسؤولية هي في المقام الأول، أمنياً وسياسياً، مسؤولية أوروبية. الشراكة والحساسيات الروسية في المقابل، فإن مبادرة "الشراكة من أجل السلام" التي هي في الأساس مبادرة أميركية، وإن لم تنسجم مع التمنيات التي عبرت عنها دول أوروبا الشرقية، حددت إطاراً لتطوير متدرج للعلاقات بين الحلف الأطلسي وأوروبا الشرقية والوسطى، وفتحت المجال أمام انخراط محتمل فيما بعد لهذه الدول في الحلف لكن دون التقيّد بأي جدول زمني. ويبدو انه لم يكن بالامكان التقدم بعروض أفضل من ذلك حتى لا يفسَّر أي انضمام لأي بلد أوروبي شرقي وكأنه محاولة من نوع جديد لتطويق روسيا، خصوصاً أن مشروع الاصلاحات هناك ما يزال في طور التفتيش عن الذات، والانتخابات النيابية الأخيرة أفرزت ظاهرة فلاديمير جيرينوفسكي. ان مبادرة الشراكة هذه، تشمل أيضاً روسيا واوكرانيا، وتهدف من خلال التعاون والتنسيق الأمني والعملياتي أيضاً، الى التدليل على الاهتمام الأطلسي بمستقبل الأمن في شرق أوروبا ووسطها، والتقدم بمحاولة محدودة لملء الفراغ الاستراتيجي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وزوال حلف فرصوفيا. أخيراً، يمكن اعتبار أن القمة الأطلسية، ساهمت في اعطاء مزيد من الصدقية للهوية الأوروبية المتميزة الدفاعية والأمنية، خصوصاً من خلال اتحاد أوروبا الغربية. وفي هذا الاطار أبدى الحلف الأطلسي، بشروط معينة، استعداداً لوضع قوات ووسائل لوجيستية تحت تصرف الاتحاد من أجل مهمات لحفظ السلام، خارج المدى الجغرافي للحلف، أي عملياً، في مواقع النزاعات القائمة أو المحتملة، التي لا تهدد مباشرة الأمن القومي الأميركي والمصالح العليا في واشنطن. بالطبع لم تحسم قمة بروكسيل كل المشكلات الأمنية العالقة، ودورها في الأصل كان محدوداً في هذا الاطار، إلا أنها دلت على اتجاه لا يخلو من التماسك، خصوصاً على ان هناك دوراً متجدداً للحلف الأطلسي بعد نهاية الحرب الباردة. الى ذلك نجح الرئيس كلينتون في اعطاء دفعة قوية لموضوع حساس يتعلق بالأسلحة النووية الأوكرانية. وهذا موضوع ناجم عن تفكك الاتحاد السوفياتي وبروز دول نووية تريد أن تساوم على ما ورثته من أجل الحصول على مكاسب اقتصادية واستراتيجية. والملفت للنظر ان هذه النجاحات تحققت تحت عنوان طمأنة الروس ودعم بوريس يلتسن. غير أن هذين الهدفين يبقيان من الصعوبة بمكان ما لم يجر التقدم لامتصاص الأزمة الاجتماعية الخانقة الناتجة عن سرعة وتيرة "الاصلاحات" الاقتصادية، وقد تأكد الميل لدى الادارة الأميركية الى تقديم نصيحة الى يلتسن لضبط "غلواء" الليبرالية الجامحة لايغور غايدار على أن تسعى واشنطن، من جهتها، الى الضغط على البنك الدولي كي لا يصر على تطبيق "وصفته الجاهزة" على روسيا. وقد اختتم بيل كلينتون جولته الأوروبية باجتماع شرق أوسطي عقده مع الرئيس السوري حافظ الأسد في جنيف. وجاء اللقاء المهم في اطار مساعي التسوية السياسية ولوضع الاطار العريض لاستمرار المفاوضات على المسارين السوري واللبناني إن لم يكن لايصالها، في الجولة المقبلة في واشنطن، الى حيث يمكن الحديث عن تقدم جدي وملموس. النجاح والفشل لا يعني ما تقدم ان هذه الجولة كانت عبارة عن نجاحات متوالية. ثمة أسئلة كثيرة لا تزال معلقة: الدول المرشحة ل "الشراكة من أجل السلام"، مستقبل العلاقات بين روسيا واوكرانيا، هشاشة موقع بوريس يلتسن واحتمال حصول مفاجآت روسية، الخ... بالاضافة الى هذه الاسئلة ثمة فشل مؤكد: استمرار الحرب في البوسنة والهرسك. تحدث البعض عن شبحين خيما على جولة كلينتون. "شبح يالطا" الذي قاد الى "احترام" الحساسية الروسية في مداها الأمني وشبح "البوسنة" الذي أظهر كم ان البون شاسع بين خطط أمنية، ومشاريع تحالفات جديدة، من جهة وبين واقع الأمر من جهة ثانية. لقد شكلت الأزمة في "المسرح اليوغسلافي" عنصراً كشف أولاً، استمرار الخلافات الأوروبية - الأميركية، وثانياً، اشتراك الجميع في نوع من الشلل الذي يكرر التهديدات ولا ينفذها: الأوروبيون يلقون المسؤولية على "القائد" الأميركي الذي يرفض التورط براً، والأميركيون يلومون الأوروبيين العاجزين عن معالجة مشكلة خاصة بهم، والطرفان يحيلان القضية برمتها الى الأمين العام للأمم المتحدة بطرس غالي الذي يسارع الى رمي كرة النار من يديه محيلاً المسؤولية الى القادة الميدانيين. يصعب على نقطة الفشل هذه ان تلغي النجاحات الأخرى. وان كان من معنى لهذه النجاحات فإنه استمرار احتلال الولاياتالمتحدة الموقع القيادي في التحالف الغربي واستمرار احتلال العلاقات الأميركية - الأوروبية الموقع الأول على صعيد التحالفات الكبرى في العالم.