لم تكن باريس تحتاج الى عملية خطف طائرة "اير فرانس" الاخيرة التي قامت بها "الجماعة الاسلامية المسلحة" حتى ترفع صوتها محتجة على "السياسات المعتدلة" التي تعتمدها اكثر من عاصمة اوروبية ازاء قيادات اسلامية مقيمة فيها وتقوم بنشاطات تدعم الجبهة الاسلامية للانقاذ بوجهيها: جيش الانقاذ والجماعة الاسلامية المسلحة. ففي العام الماضي انتقدت فرنسا هذه السياسات التي تتبعها كل من بريطانيا والمانيا، وحتى الادارة الاميركية الحالية. ومع تسلم فرنسا رئاسة الاتحاد الاوروبي منذ مطلع الشهر الجاري وحتى نهاية حزيران يونيو المقبل توقعت جهات مهتمة بالملف الجزائري ان تسعى باريس الى حث لندن على اعادة النظر في قوانينها المتعلقة باللجوء السياسي والهجرة والاقامة في اراضيها. وغالباً ما كانت فرنسا توجه انتقادات ضمنية الى بريطنيا من دون ان يصل الأمر الى حد الاحتجاج الرسمي، وكانت الدوائر الفرنسية تكتفي بالقول انها تحرص على "عدم التدخل في الشؤون الداخلية لبريطانيا". غير ان تأكيد "الجماعة الاسلامية المسلحة" رغبتها، حسب احدى نشراتها، بنقل الحرب الدائرة في الجزائر الى فرنسا، دفع باريس الى اعلان مخاوفها، بعد ان تحولت لندن، كما تقول وسائل الاعلام الفرنسية، الى اهم نقطة تمركز لنشاطات العناصر المؤيدة للجماعات المتطرفة في الجزائر. جمع الأموال والواقع ان القضايا التي تثير حفيظة السلطة الفرنسية هي نفسها التي كانت موضع احتجاج السفير الجزائري في لندن لدى وزارة الخارجية البريطانية في اواخر العام الماضي. ولم تستغرب مصادر ديبلوماسية بريطانية هذا الاحتجاج، فالسفير الجزائري السابق "احتج ايضاً اكثر من مرة". الا ان المصادر نفسها لم تستبعد ان تكون "جهات رسمية جزائرية في لندن" وراء المعلومات التي نشرتها صحف بريطانية في اواخر العام الماضي، معتبرة ان الاحتجاجات سببها "سوء فهم للطريقة التي تطبق فيها القوانين البريطانية المتعلقة باللجوء السياسي والاقامة والحريات العامة التي تتيح للمقيم في بريطانيا حق التعبير والتفكير وفق كيفية تحترم قوانين البلاد المرعية ولا تتجاوزها". وترى مصادر رسمية بريطانية ان جمع أموال الزكاة في المساجد داخل بريطانيا لا يعتبر جريمة يحاسب عليها القانون. فهذه الاموال تجمعها جمعيات خيرية مسجلة رسمياً في بريطانيا تهدف الى نصرة قضايا في مناطق اخرى من العالم، سواء في كشمير أو البوسنة. "المسلمون ليسوا وحدهم من يجمع اموال الزكاة في المساجد. فهناك المسيحيون واليهود. ومن الصعوبة العثور على ادلة تثبت ان المجموعات الجزائرية التي تجمع اموال الزكاة والتبرعات في بريطانيا تحوّل هذه الاموال الى "الجبهة الاسلامية للانقاذ" كي تشتري ما تحتاجه من سلاح واعتدة". وتعتقد هذه المصادر بأن "غالبية الاسلحة التي يستخدمها المتطرفون الجزائريون استولوا عليها من قوات الأمن، لا سيما خلال عملية السطو على أحد السجون الجزائرية الكبرى في العام الماضي، عندما فر حوالى ألف سجين". وفي هذا الاطار استبعدت المصادر نفسها ان توضع المساجد البريطانية تحت مراقبة أجهزة الامن الداخلي. اما توجيه الانتقاد الى السلطات الجزائرية من قبل مواطنين جزائريين مقيمين في بريطانيا فهو الآخر نشاط غير خارج عن حدود ما تسمح به القوانين البريطانية التي تتيح لمواطنيها انتقاد الحكومة، وحتى انتقاد تصرفات الاسرة المالكة. و"من العبث السياسي اصدار تشريعات تمنع اقتناء أجهزة الفاكس أو تحظر استخدامها للتعبير عن وجهة نظر تنتقد الاسلوب الامني الذي يتبعه الحكم الجزائري مع الظاهرة الاسلامية في البلاد". الحكم محرقة وتعتقد جهات اكاديمية بريطانية مقربة من وزارة الخارجية بأن "ظاهرة التطرف الاسلامي في العالم العربي لن تدوم". ويقول الدكتور جورج جوفي ان هذه الظاهرة شبيهة بظواهر اخرى عرفتها مرحلة الخمسينات والستينات عندما شاعت فكرة الماركسية وتحولت الى "تقليعة" في اواسط المثقفين. ويعتبر جوفي ان اصحاب المشروع الاسلامي في غير منطقة عربية غير قادرين على تقديم حلول جذرية للمشاكل التي تعاني منها بلدان العالم النامي، وهم منها. ويعتقد الاكاديمي البريطاني بان اهم علاج لهذه الظاهرة يكمن في التحدي الكبير الذي يشكله وصولهم الى السلطة. وفي هذا الاطار يذكّر جوفي بما قاله الملك الحسن الثاني للرئيس الجزائري السابق الشاذلي بن جديد عندما فازت جبهة الانقاذ في الانتخابات بضرورة اكمال العملية الانتخابية لأن "السلطة ستكون محرقة للمشروع الذي تنادي به الانقاذ". ولكن هل بريطانيا متساهلة فعلاً مع الناشطين الاسلاميين على أرضها، من جزائريين وغير جزائريين؟ وهل تشعر بالارتياح حيال تزايد عددهم؟ حسابات بريطانية ولا يتحرج مصدر رسمي بريطاني من القول بأن "الثقافة الانكلوساكسونية، خلافاً للثقافة الفرنسية، لا تشعر بانها مهددة على الاطلاق من قبل الفكرة الاسلامية. فلم يحدث، من قبل، اي صراع ما على المستوى الفكري بين الجانبين". وفي هذا السياق يغيب عامل التوتر والتشنج عن طريقة تعاطي الحكومات البريطانية المتعاقبة مع ظواهر الاسلام السياسي ما دامت نشاطات دعاته لا تهدد المصالح المباشرة لبريطانيا في مناطق اهتمامها. ويستبعد اكاديمي بريطاني ما يقال عن ان لندن تحاور الاسلاميين في اكثر من بلد عربي بحسبانهم قوى حديثة لتصل الى السلطة في المستقبل المنظور. ويقول مصدر سياسي بريطاني ان لندن ملزمة باحترام معاهدات ومواثيق دولية تمنع ترحيل اي لاجئ سياسي، لكنه اعترف بأن الحكومة البريطانية تشعر بالحرج الشديد لأن بعض الناشطين السياسيين المقيمين لديها يوجه انتقادات مكشوفة الى حكومة بلاده التي تقيم علاقات وطيدة مع حكومة جون ميجور. ولم يستبعد ان تتعرض بريطانيا خلال رئاسة فرنسا للمجموعة الاوروبية، خلال الاشهر الستة المقبلة الى ضغوطات من الحكومة الفرنسية لدفعها الى اعادة النظر في قوانين اللجوء السياسي المعمول بها في بريطانيا. سوء فهم ان كل القضايا التي هي موضع احتجاج باريسوالجزائر تعتبرها جهات رسمية بريطانية ناتجة عن "سوء فهم الطرفين لمفردات القاموس السياسي" الرائج حالياً في الجزائروباريس وعواصم شرق أوسطية اخرى. فكلمة ارهاب لا تعني بالضرورة المضمون نفسه في لندنوباريسوالجزائر. وتحذر هذ الجهات من التمادي في تسييس الملف الجزائري داخل فرنسا عشية الانتخابات الرئاسية، كما تحذر من خطورة اقحام بريطانيا مع اللاجئين السياسيين لديها في خضم التجاذبات السياسية المعروفة تاريخياً بين بريطانياوفرنسا. وعلى رغم هذا لا يستبعد ان تشهد المرحلة المقبلة رقابة بريطانية على نشاطات الاسلاميين لئلا يتحول الهامش الرحب الذي تسمح به القوانين الى ساحة خصبة لسوء الاستغلال والمساس بالسلم الاهلي البريطاني ومصالح لندن مع حكومات صديقة، سواء في اوروبا أم في الشرق الأوسط.