"عندما كان موشيه دايان يقول إنه يفضل شرم الشيخ من غير سلام، على سلام من غير شرم الشيخ فإنه كان يوضح، على طريقته، سياسة الحكومة الاسرائيلية غير الراغبة في السلام مع العالم العربي". هذا ما يقوله "البروفسور" العجوز 91 عاماً يهوشواع ليبوفيتش في الحوارات التي اجراها معه الصحافي يوسف الغازي وصدرت بالفرنسية في كتاب عن منشورات "لو موند". ص 113 ليبوفيتش صهيوني حتى النخاع. أثار ضجة كبرى العام الماضي حين مَنْحه جائزة الدولة. غير أنه صهيوني من نوع خاص. لا يشك لحظة في ملكية الشعب اليهودي ل "أرض اسرائيل" ولا في "شرعية قيام الدولة" ولا في اخلاقية المشروع واخلاقية الممارسة: "لم نطرد عربياً واحداً بالقوة حتى قيام اسرائيل". وهو لا يعارض السيادة على القدس ولا يريد تحمل مسؤولية اللاجئين الفلسطينيين. كما أنه لا يناقش في الأساس التوراتي لعودة اليهود الى "ممارسة الاستقلال فوق أرضهم بعد ألفي سنة"، وإن كان يعرب عن كراهية عميقة لرجال الدين الراغبين في التأثير على سياسة الدولة. اسرائيل، بالنسبة اليه، بلد خال من الشوائب، وذلك حتى الخامس من حزيران يونيو 1967. أما بعد ذلك، فتدهور كل شيء: غولدا مائير مجرمة لأنها رفضت عروض جمال عبدالناصر للسلام. اسرائيل هي التي استدعت حرب 73. حكام البلاد يتميزون بمزيج من "الجنون والاجرام" ص 150، وكل قتيل يسقط في لبنان أو على الحدود معه "مسؤولية اسرائيلية". غزو 1982 قام به "يهود نازيون"، وعملية "تصفية الحسابات" في الصيف الماضي هي "فعل قاتل معزز بالغباء". هكذا لا يتردد ليبوفيتش في القول إن اسرائيل تتجه نحو التحول "الى دولة فاشية" ص 121، وإنها أخطر، بما لا يقاس، من العراق على أمن المنطقة والعالم، وإن سورية محقة تماماً في المفاوضات لأنها لا تفعل سوى المطالبة بأرضها المحتلة. تفاءل الرجل بعض الشيء بالاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي، غير أنه لم يفقد شهيته المفتوحة في النقد اللاذع للسياسات التي تلحق الضرر - حسب رأيه - بالطابع "الانساني واليهودي" للمشروع الصهيوني. ومواقفه هذه وضعته في موقع خاص جداً: فالبروفيسور العجوز يحظى بهيبة شديدة ويثير كراهية عمياء في إسرائيل! أما الكراهية فتزداد مع تعرّضه الساخر للاساطير المؤسِّسة للدولة العبرية، وسجاله العنيف ضد "الإحياء المرضيّ للذاكرة" كما يقول في فيلم "أذكر" للمخرج الشاب ايال سيفان. من غير الدخول في المنطلقات الفلسفية لهذا الموقف السياسي، وهو موقف يشرح صاحبه أنه يستمده من فهمه الخاص لدينه، يمكن القول إن ليبوفيتش يقسم تاريخ اسرائيل الى أبيض وأسود، الى خير وشر الى مشروع استقلال ومشروع هيمنة. وهو لا يهتم ب "العربي" الا بصفته مصدر المرض الاسرائيلي، و"الموضوع الذي يهدد صفاء المشروع الصهيوني". إذ أن كل شيء كان ممتازاً، في نظره، حتى الاحتلال الاضافي لأراض عربية جديدة، بعد تحويل تهديدات عبدالناصر "غير القابلة للتنفيذ" الى "ذريعة ضرورية لاعلان الحرب" ص 99. العدوان هو جسر العبور الاسرائيلي نحو "مرض الاحتلال". والمحتل، يكاد لا يكون موجوداً إلا بصفته "عاراً" يجب التخلص منه لا تخليصه، و"مصادفة" يجب بذل الجهد لتفاديها. ولا يفيد، في هذا المجال، هجومه العنيف على اليسار الصهيوني طالما أن الامر يقتصر على "الجبن السياسي" لهذا اليسار، ولا يتعرّض الى تقصيره في رؤية الآخر ورفضه الشعور بأي ذنب حيال الجريمة الأصلية التي أصابته... كلا، اسرائيل ليست مريضة بالاحتلال يقول أسّاف دايان، ابن الجنرال الشهير، في فيلمه "العالم حسب أكفا". إنها مريضة بالفعل، ولكن يصعب تشخيص ما بها. نوع من قلق عميق، من عدم راحة، من اضطراب... ثمة "خطأ ما" يعكس نفسه على الأفراد جميعاً وعلى سلوكياتهم، لكن من يمتلك القدرة على تعريفه أو فهمه؟ حصلت مغامرة، هي جمع هذه الأقوام في رحلة واحدة، من غير أن ينتبه أحد الى أن التجانس بينها قد يكون مفقوداً، وربما كان الشعور الزائد بالقوة والأمن هو مصدر تنبه الأفراد الى ضعف الوشائج التي تشدهم الى بعض. الفيلم، الحائز هو الآخر على جوائز عديدة في اسرائيل، كناية عن ليلة في نادٍ. شخصياته رصف لحالات تكاد تكون عيادية. جنود مخمورون ينشرون انتصاراتهم ويفتخرون بنزعاتهم الدموية. يمجدون رغبتهم في القتل ويتلذذون في استذكار ضحاياهم. يصلّون كي لا تنتهي الحروب، خوفاً من أن ينتهي معها الخوف الذي يعصرهم عصراً ويدفع بهم نحو ارتكاب الموبقات على أنواعها. الشرطي يضع قدماً في القانون وأخرى في الجريمة. يسعى دائماً الى تأكيد رجولته في المغامرات السريعة، والمطاردات البوليسية العنيفة وعروض الحماية الانتهازية. فتيات تائهات. تريد واحدة المغادرة الى الولاياتالمتحدة باعتبارها "أرضاً موعودة" للمخدرات البخسة الثمن. وتغادر الثانية الى العالم الآخر انتحاراً بسبب يأس طاحن يكاد يحولها الى نبتة متحركة. وتراقب الثالثة صديقها الشرطي في تفاهاته وهي أدرى الناس بقدرته شبه المعدومة على استثارة أي عاطفة. يهود شرقيون سفهاء، يقولون عنصريتهم بصوت عال مدركين تماماً أنهم يستثيرون عنصرية الاشكناز ضدهم. بحثهم المستحيل عن المساواة، يقودهم الى عربدة تنحط بهم الى حيث لا يجدون مخرجاً سوى التعالي الفج على العرب. عازف البيانو شخصية ايجابية غير أنها هامشية جداً مثل صاحبة المكان التي تمضي الوقت كيفما اتفق في انتظار حب لا يأتي. يغني العازف للعربي المضطهد بصوت بشع للغاية، ثم يغني لليهودي الذي يقتصر انتماؤه الى "الشعب المختار" على ممارسة الاضطهاد. إنه ضمير معذب غير أنه لا يستطيع ضبط نفسه من احتقار "الشرقيين" الذين تطغى ضوضاؤهم على موسيقاه. الخادمان عربيان. واحد صامت، أما الثاني فمعلِّق ساخر على مشهد تآكل هازميه. لا يكل عن الهزء منهم، وآثار ضربهم بادية على وجهه. لا طريقة لإسكاته، لإغماض عينيه، سوى بجعله يموت في مجزرة ختامية تبدو، حسب المخرج، النهاية الدرامية لهذا المشروع الذي لا يقنع أصحابه. يكفي أن تتحرر اسرائيل من الأرض المحتلة حتى تستعيد رونقها، يقول ليبوفيتش. هنا تقف حدود جذريته العاجزة عن طرح مزيد من الأسئلة، الا في قالب هموم حول مشاكل الهوية والأمن اللاحقة. أما أسّاف دايان فيذهب أبعد من ذلك. ليس الاحتلال هو المشكلة لأنه لم يكن ليحصل، ويدوم، لو لم يكن المجتمع مصاباً بداء غير محدد يجعله يبحث دائماً عن تجاوز مأزقه التاريخي عبر استعراضات قوة شبه مرضيّة. وبما أن التهديد الخارجي انتفى أو كاد، فإن "التذرر" هو المآل الوحيد الذي يحول اسرائيل الى مصدر الخطر الرئيسي على... نفسها. ستنفجر من الداخل حتى لو انسحبت من الأرض المحتلة لأنها كانت كفيلة بممارسة الاحتلال الذي يتقصد الفيلم ان يخفيه مكتفياً منه باظهار ما يتعرض له العرب في أراضي 1948. يثأر أساف لأبيه موشيه من انتقادات ليبوفيتش، المشار اليها أعلاه، ليرمي في وجه مواطنيه السؤال: هل تستحق هذه الدولة أن تعيش؟ * صحافي وكاتب لبناني.