عندما يتغيب رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين عن حفلة اعطاء جائزة اسرائيل السنوية في أيار مايو المقبل، يسجل بذلك سابقة في تاريخ الجائزة وفي تاريخ الدولة العبرية. لكن البروفسور يشعياهو ليبوفيتش له من العمر 90 عاماً الذي اختير لينال الجائزة هذا العام، وفّر على رابين تسجيل السابقة عندما قرر رفض الجائزة "بسبب الجدل الذي أثارته والحرج الذي سببته لرابين"! رابين، إذن، لن يتغيب عن الحفلة التي ستتم في غياب المحتفى به يشعياهو ليبوفيتش الذي قال: "ان اختياري لهذه الجائزة كان مفاجأة لي، فأنا، كما يعلم الجميع، عارضت بشدة طوال 25 عاماً الخطّ الذي تبنته كل حكومات اسرائيل، من احتلال الأراضي والسيطرة على أمة تعد أكثر من مليوني نسمة من دون حقوق مدنية او سياسية... لم أتخيل أبداً ان حكومة ستكافئني بأيّ شكل، ولم أرفض قبول الجائزة، ولكن الغضب الجماهيري وصل الى حدّ جعل رئيس الوزراء يقرر الامتناع عن حضور الاحتفال، فلماذا أسبب له هذا الحرج؟". اسحق رابين لا يستلطف المثقفين بشكل عام، لكنه، خصوصاً، لا يطيق سماع اسم ليبوفيتش. لذلك استغرب قرار لجنة الجائزة: "هناك انحراف نفساني في هذه البلاد اسرائيل يجعل من الممكن منح الجائزة لهذا الرجل وليس لغيره". وأعلن رابين انه سيقاطع حفلة توزيع الجائزة التي يحضرها تقليدياً رئيس الوزراء.
من هو هذا العجوز الذي أثار غضب رئيس الوزراء الاسرائيلي، ويتعرض يومياً للاتهامات بپ"خيانة اسرائيل خيانة قومية"؟ ولد في ريغا عاصمة لاتفيا حالياً عام 1903 وهاجر عام 1919 الى المانيا فتخرج من جامعة برلين دكتوراً في الكيمياء عام 1924، ثم درس الطب، واضطر، لاحقاً، الى مغادرة المانيا تحت وطأة نموّ الحركة النازية فاستقر في بازل - سويسرا حيث تخرج من جامعتها طبيباً عام 1934، وأوصلته معتقداته الصهيونية الى فلسطين مهاجراً عام 1935، وهناك عمل في الجامعة العبرية في القدس وبقي لعقود استاذاً في الكيمياء والطب ثم في الفلسفة. وفي العام 1973 اختير عضواً في الهيئة الادارية لكلية الفلسفة في الجامعة نفسها، وتولى منصب المحرر الرئيسي للانسيكلوبيديا العبرية، وليشعياهو ليبوفيتش مؤلفات عدة في شؤون الفكر والعبريات جعلته شهيراً في الوسط اليهودي وفي اوساط المثقفين في اوروبا والولايات المتحدة الاميركية. بعد حرب حزيران يونيو 1967 تغيرت مواقف ليبوفيتش كصهيوني. كان قبل تلك الحرب معتدلاً يطالب بمفاوضات عربية اسرائيلية تعطي حق تقرير المصير للاسرائيليين والفلسطينيين معاً، لكنه، بعد 1967، توفر له الاحتكاك المباشر بالكتلة الفلسطينية الكبيرة في المناطق المحتلة ورأى بأم العين البطش الاسرائيلي وصورة الاسرائيلي كشخص عسكري يهجس بالقمع والغاء الآخر، وقد ذكّره ذلك بصورة النازي في المانيا ووسط اوروبا. ومنذ 25 عاماً يعلو صوت يشعياهو ليبوفيتش مندداً بالآلة العسكرية الاسرائيلية، خصوصاً فصائل المستعربين الذين يندسون في جماعات الانتفاضة ويقتلون الفتيان والاطفال احياناً. وقد أيد ليبوفيتش قيام دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة، وأسند لنفسه مهمة تمزيق الاقنعة عن الوجوه المعادية للسلام في اوساط السياسيين الاسرائيليين حكماً ومعارضة. وقيمة ليبوفيتش انه يطالب بالدولة للفلسطينيين انطلاقاً من رؤيته لمستقبل الجماعات اليهودية في فلسطينالمحتلة، فهو ينطلق من يهوديته بالذات ليطلب دولة للفلسطينيين، وهذا ما يفرقه عن جماعات السلام الاسرائيلية الاخرى التي تطلب السلام من باب المقايضة بتنازلات تقع في أساس الهوية الفلسطينية وشخصية الشعب الفلسطيني. هو يقول: "السلام معكم لمصلحتي" بينما يقول غيره او يضمر القول: اعطيكم السلام وتعطونني السيادة على مصيركم بشكل آخر غير الاحتلال العسكري.
ولكن، ماذا يهمنا ثقافياً من الضجة حول رابوفيتش في اسرائيل؟ ان وصول أصداء الضجة الى اوروبا والولايات المتحدة الاميركية يساهم في التأثير سلبياً على الصورة المعهودة لاسرائيل: انها البلد الذي يزين نفسه بالمفكرين والفنانين والذي تربطه علاقة أكثر من حسنة مع الاوساط الثقافية البارزة في الغرب، فقضية البروفسور رابوفيتش تظهر ان الهيئة الحاكمة في اسرائيل تغلبت عليها الطبيعة العسكرية والقمعية وصارت هناك مسافة تفصل بينها وبين مثقفين داخل اسرائيل وخارجها، ولم تستطع هذه الهيئة الحاكمة ان تحفظ علاقتها حتى بمثقف يهتم بالعبريات والفكر اليهودي مثل رابوفيتش، فالرجل صهيوني، وتهمته انه صهيوني معتدل... انفصال المثقفين عن الادارة السياسية في اسرائيل وانفصالها عنهم... تلك هي قضية رابوفيتش وربما تؤدي الى تصحيح الصورة عن الكيان الاسرائيلي، فهو يتجه الى التشبّه بجمهوريات الموز في اميركا اللاتينية، بعدما فقد صورته التي أوهم الناس بها وهي انه "راع للديموقراطية" في شرقنا.