يمكن النظر الى دراسة الباحث الاسرائيلي بيني موريس "نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين 1947 - 1948"، التي أصدرها عام 1988، بمثابة البداية الفعلية لتيار "المؤرخين الجدد"، إذ أثارت دراسته الكثير من الضجيج والاحتجاج في أوساط المؤسستين السياسية والأكاديمية الاسرائيليتين بسبب تفكيكها اسطورة الرواية الرسمية الاسرائيلية حول موضوع اللاجئين الفلسطينيين ومساهمة المؤسسة العسكرية الاسرائيلية في طرد أعداد ضخمة منهم، وأن عمليات الطرد بالقوة لم تتوقف حتى عام 1950. وفي السنة نفسها أصدر آفي شلايم، الأستاذ في جامعة اكسفورد، كتابه "صدام عبر الأردن"، كما أصدر إيلان بابي كتابه "بريطانيا والصراع العربي - الاسرائيلي". ومنذ أواخر ثمانينات القرن الماضي لم ينقطع سيل الكتب التي تكشف عن زيف الرواية الاسرائيلية حول الصراع وطبيعة الدولة العبرية، وبدأ السجال حول مجموعة من "الأبقار الصهيونية المقدسة" يتسع في الأوساط الأكاديمية والثقافية والإعلامية ويقوى حضوره. ينبغي أن نشير بداية أن ما يقوم المؤرخون الاسرائيليون الجدد بإعادة فحصه من خيوط الرواية الاسرائيلية الرسمية حول نشوء الدولة العبرية، والظلم الذي سببته للشعب الفلسطيني، ليس جديداً بالنسبة الى المؤرخين والباحثين الفلسطينيين والعرب ممن سجلوا على مدار نصف قرن تاريخ اغتصاب اليهود للأرض الفلسطينية، حتى أن المؤرخين الجدد يذكرون في دراساتهم الأثر الكبير لعدد من الدراسات التي كتبها باحثون فلسطينيون حول "النكبة" على عملهم في اعادة كتابة "تاريخ اسرائيل" من وجهة نظر "موضوعية". وعلينا أن لا نفهم من حركة "نقد الصهيونية" ان الباحثين الذين يقومون بها يتطابقون في رؤيتهم للصراع العربي - الصهيوني مع الرؤية الفلسطينية والعربية، وإن كان بعضهم يقترب كثيراً في تحليله من الرواية الفلسطينية للصراع. لكن الغاية الكامنة وراء مشروع "نقد الصهيونية" تتمثل في حض المؤسسة السياسية الاسرائيلية على ضرورة عقد سلام مع الفلسطينيين لأن استمرار احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة سوف يؤثر عميقاً على "صورة اسرائيل في الغرب" ويدفع الدولة العبرية الى فقدان "صبغتها الديموقراطية". وقد كان لغزو اسرائيل للبنان عام 1982 وللانتفاضة الأولى أثر كبير في تبلور ظاهرة المؤرخين الجدد مما يشير، بوضوح تام، الى الغايات السياسية التي تكمن وراء هذا المشروع الأكاديمي في ظاهره. يختلف المؤرخون الجدد في ما بينهم، باختلاف تخصصاتهم ورؤاهم لطبيعة الصراع، لكنهم يدعون جميعاً أنهم باحثون موضوعيون تهمهم الحقيقة بغض النظر عن الألم الذي يسببه التعرف على هذه الحقيقة! ويمكن أن نتعرف على بعض اتجاهات عمل المؤرخين الجدد في الكتاب الذي أصدره الكاتب الفلسطيني حسن خضر "قصر الأواني المهشمة: دراسات في نقد الصهيونية" مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية، رام الله، آذار/ مارس 2001 ويضم خمس دراسات كتبها باحثون ينتمي بعضهم الى جماعة "المؤرخين الجدد" وينتمي آخرون الى تيار "نقد الصهيونية" عموماً. لكن أهمية الدراسات التي ترجمها خضر عن الانكليزية ولنلاحظ ان معظم هؤلاء المؤرخين يكتبون دراساتهم بالانكليزية أو يكتبون بالعبرية ويحرصون على ترجمة ما يكتبون الى الانكليزية تنبع من كونها تقدم خريطة مماثلة لكتابات المؤرخين الجدد والاتجاهات العامة لظاهرتهم. تلقي دراسة بنيامين بيت هالحمي، وهو استاذ في جامعة حيفا ومتخصص في علم نفس الدين، الضوء على تناقضات المجتمع الاسرائيلي وتبحث جذور أزمة هذا المجتمع. ويبدأ بيت هالحمي بالقول: "تعيش اسرائيل منذ عام 1973 أزمة مستمرة، أزمة مرجعية وإيمان. هناك إحساس جمعي بالتفكك والانحلال، تناقص في السيطرة، وإحساس بالعجز يخيم على الجميع. ليست، تلك، وعكة صحية مستمرة ولا فرار منها، بل أزمة حادة، أزمة فقدان الحلم المساعد على الأمل والعيش". قصر الأواني المهشمة، ص: 35 ويحلل الباحث الاسرائيلي الأسباب الكامنة وراء هذا الشعور الحاد بتفكك المجتمع معيداً ذلك الى الزلزال الذي ضرب اسرائيل في حرب 1973 وكان، بحسب رأيه، بداية الانتكاسات والتراجعات الديبلوماسية والاقتصادية. وهو يضيف في موضع آخر من دراسته: "بدا المزاج الاسرائيلي العام منذ 1973، وأكثر منذ حرب لبنان 1982 - 1985، وأكثر منذ الانتفاضة الفلسطينية عام 1987، متعباً ومحبطاً" ص: 39. لقد تحطم عام 1973 وهم القوة الاسرائيلية التي لا تقهر، والرؤية الصهيونية التي وعدت بانتهاء التاريخ المأسوي لليهود لم تفعل شيئاً من هذا القبيل و"أصبحت اسرائيل فصلاً جديداً في التاريخ الكارثي لليهود" ص: 40. يستنتج بيت هالحمي ان الانتفاضة الأولى كانت "صدمة كبيرة الحجم للشعب الاسرائيلي كله، وربما كانت الضربة أقوى من زلزال تشرين الأول اكتوبر 1973، لأنها أعادت الحركة الصهيونية برمتها قصة نجاح مدهشة تبلغ مئة عام تقريباً الى نقطة الصفر تقريباً" ص:53. لقد أجبرت الانتفاضة الأولى، بهذا المعنى، المجتمع الاسرائيلي على فتح عينيه على حقيقة وجوده الاستعماري في مواجهة السكان الأصليين، وأخذ الشباب الاسرائيلي، الذي حاولت المؤسسة السياسية اليسارية المنافقة ان تزين له مقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، يتساءل عن الحل، وعن الساسة الذين "يتكلمون عن الديموقراطية فيما هم يمارسون الاستعمار" ص: 55. ويتوصل الكاتب في الصفحات الأخيرة من دراسته الى ضرورة التعامل مع قيام الدولة العبرية بوصفها فعلاً كولونيالياً ينتمي في طبيعته الى التفكير الأوروبي، خلال القرن التاسع عشر، الذي كان يستلهم نظريات "التفوق العرقي" و"العنصرية العلمية!" التي بررت هيمنة الاستعمار على الشعوب "الأدنى عرقياً"، ويرى أن "آباء الصهيونية"، بدءاً من هرتسل وانتهاء بوايزمان، نظروا الى الفلسطينيين "نظرة أوروبية متمركزة على ذاتها" ص:75. تأتي الدراسة التالية "الموقف من الكولونيالية في علم الاجتماع الاسرائيلي" للباحث أوري رام كنوع من استكمال أفكار بيت هالحمي حول الطبيعة الكولونيالية للمشروع الصهيوني. وهو يشير الى أن النظر الى المجتمع الاسرائيلي بصفته نوعاً من المجتمعات الكولونيالية - الاستيطانية هو عماد الفكر العربي والفلسطيني، وقد انتقلت هذه النظرة الى الدوائر الراديكالية الغربية في أواخر الستينات وأوائل السبعينات. ويذكر رام دراسة المستعرب الفرنسي مكسيم رودنسون "اسرائيل: دولة استعمار استيطاني" كمثل على هذا النوع من الدراسات التي سيستلهمها التيار الجديد في علم الاجتماع الاسرائيلي والذي يستخدم المنظور الكولونيالي ص: 81 - 83 للتعرف على طبيعة المشروع الصهيوني في فلسطين. وعلى رغم أن وصف الحركة الصهيونية كحركة كولونيالية يعد نوعاً من التجديف في عرف اليسار واليمين في اسرائيل إلا أن رام يرصد تزايد الدراسات الاسرائيلية التي تعيد توصيف الصهيونية وتضعها في قائمة الحركات الكولونيالية التي استوطنت الأرض وطردت السكان الأصليين.. وما كان لهذه الأفكار أن تكتسب بعض الحضور في الوسط الأكاديمي لولا حرب 1967 وتزايد حركة الاستيطان في الضفة الغربية وقطاع غزة وصعود حركات اليمين المتطرف الذي يتخذ من المستوطنات نقطة انطلاق وتأثير فاعل في السياسة الاسرائيلية سواء في أوساط اليمين أو أوساط اليسار. الاستنتاج السياسي الذي يتوصل اليه أوري رام هو أن المنظور الكولونيالي في بحث الصهيونية يؤدي الى تغير في رؤية علم الاجتماعي الاسرائيلي، الذي كان سابقاً يتجاهل الفلسطينيين وحقوقهم كشعب، كما يؤدي الى تأييد تقسيم "الأرض المتنازع عليها" لأن علماء الاجتماع الجدد "ينظرون الى الجولة الثانية من الاستعمار بعد فتح الحدود عام 1967 لا كتشويه لحقوق الفلسطينيين وعرقلة الحل السلمي للصراع، ولكن كخطر يتهدد نسيج الثقافة السياسية الديموقراطية في المجتمع الاسرائيلي نفسه" ص:112. الدراستان التاليتان، أولاهما لغيرشون شافير وتقدم دراسة مقارنة للصهيونية والكولونيالية وثانيتهما للباحث اليهودي الاميركي إيان لوستيك حول "اسرائيل ومنطق الجدار الحديدي"، تشددان على المنظور الكولونيالي في دراسة المشروع الصهيوني في فلسطين. في الدراسة الأولى يقرأ شافير أنماط الاستعمار مشخصاً "طريقة الصهيونية في الاستعمار"، ومشيراً في نهاية بحثه الى أن "عملية السلام بين منظمة التحرير الفلسطينية تشير الى موجة متأخرة من عملية تفكيك المجتمعات الاستعمارية الأوروبية وراء البحار" ص: 144. أما لوستيك فيقوم بتحليل مقالة كتبها فلاديمير جابوتنسكي، ممثل الصهيونية التصحيحية والذي يعد ملهماً لليمين الصهيوني العلماني، حول "الجدار الحديدي" الذي ينبغي رفعه في وجه الفلسطينيين حتى يسلموا بضرورة القبول الطوعي بوجود اسرائيل والرضوخ للتفاوض في النهاية. وينتهي الباحث في ختام مقالته الى أن الساسة الاسرائيليين أخفقوا حتى الآن في التوصل الى صيغة حل مع الفلسطينيين لأن اليمين الصهيوني يرى أن "الحركة الوطنية الفلسطينية" غير أصيلة "مصطنعة بلا محتوى" إيجابي "واقعها الوحيد العداء للوجود اليهودي في أرض اسرائيل" ص: 186. ويشدد لوستيك ان نظرة اليمين هذه تعكس رؤية قديمة الطراز حول الطبيعة الأصلية للأمم والقوميات، ولكنها ما زالت ذات ثقل في اسرائيل. وبسبب هذه النظرة المتأصلة في المجتمع الاسرائيلي يكتسب الجدل حول ما يقوم به المؤرخون الجدد طابعاً حاداً عنيفاً يتهم ظاهرتهم بالتحريف والرغبة في تدمير اسرائيل والخيانة، الخ. هذه التهم التي تتغذى على التطرف وإنكار وجود الآخرين. وتعود هذه الاتهامات، بحسب لوستيك، الى كون دراسات المؤرخين الجدد "لا تمنح التجربة التاريخية لليهود، والايديولوجيا أو الممارسة الصهيونية مكان الصدارة في السرد" ص: 186. يقدم إسرائيل شاحاك ونورتون ميتسفنسكي في دراستهما "الأصولية اليهودية في اسرائيل" شرحاً لتيارات الأصولية اليهودية وجذورها التاريخية وتأثيرها المتصاعد في الساحة السياسية وأثرها الفاعل على عمليات اتخاذ القرار السياسي في الوقت الحاضر. ويبين شاحاك وميتسفنسكي أن الصورة "العلمانية الديموقراطية" الرائجة في الغرب عن اسرائيل ليست حقيقية، فالمجتمع الاسرائيلي منقسم الى أبعد حدود الانقسام، والتيارات الدينية الأصولية منقسمة في ما بينها كذلك حول المعتقدات الدينية واللباس والعلاقة مع العالم الخارجي ومع الآخرين من غير اليهود الغوييم، وفي النظر الى ضرورة قيام دولة اسرائيل قبل مجيء المخلص، وفي ضرورة القضاء على المسيحية، وهي أمور مغيبة في الإعلام الغربي وغير معروفة إلا لدى فئة قليلة من المتخصصين في الشؤون الاسرائيلية. في العدد الأخير من مجلة "الكرمل" العدد 67 ربيع 2001 نعثر على بعض ما يكمل الصورة التي يقدمها حسن خضر في ترجمته للدراسات التي أشرنا اليها، ففي باب استحدثته "الكرمل" في عنوان "نقد الصهيونية" تنشر المجلة دراستين: الأولى لبيني موريس "التأريخ الصهيوني وفكرة الترانسفير"، والثانية لنحمان بن يهودا "أسطورة المسادا"، وهما من نوع دراسات المؤرخين الجدد التي تقوم بتفكيك الأساطير والأفكار السائدة في التاريخ اليهودي الحديث والتي وظفت، على مدار عقود، لرص صفوف الاسرائيليين وذلك بوصفها جزءاً لا يتجزأ من عناصر تعريف الهوية اليهودية والاسرائيلية. يتابع بيني موريس تفكيكه للأساطير الحديثة التي قامت عليها الدولة العبرية، فبعد أن كشف عن الدور الفاعل لإسرائيل في تهجير معظم الفلسطينيين بالقوة واستخدام أبشع أساليب العنف والتخويف وإثارة الرعب في القلوب، يعود في هذا الفصل من كتابه الجديد "تصحيح خطأ اليهود والعرب في إسرائيل، 1936 - 1956" ليبحث موضوع الترانسفير في تفكير ديفيد بن غوريون السياسي وآخرين من زعماء الصهيونية قبل قيام الكيان الصهيوني. ويبين موريس أن "فكرة الترانسفير لم تولد في سياق سنة 1948، بل هي ذات جذور عميقة في الصهيونية منذ تأسيسها. ويمكن العثور على تعبيرات متطابقة في شأن تأييدها في يوميات بنيامين زئيف هرتسل وفي كتابات وخطابات غيره من الزعماء الصهاينة... منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى". أما نحمان بن يهودا فيقوم بتفكيك اسطورة المسادا التي تدعي الأدبيات الصهيونية الحديثة انها تمثل نهاية بطولة تراجيدية للثورة اليهودية الكبرى ضد الرومان 1966 - 1973 ميلادية، وأن جماعة من المناضلين اليهود الفارين من القدس اختاروا الانتحار في قلعتهم على أن يستسلموا للرومان ويصبحوا عبيداً لهم أو يموتوا ميتة فظيعة على أيديهم. لكن البحث التاريخي، وفي المصادر القديمة والحديثة، يفضي ببن يهودا الى اكتشاف أن من يعدون في عرف اليهود أبطالاً كانوا مجرد عصابة من القتلة تدعى السيكاري، عرفت بلجوئها الى الاغتيال السياسي، وكانت تقوم بأعمال الاغتيال ضد اليهود والرومان على حد سواء، وقد طرد هؤلاء على يد اليهود لا الرومان، وهلكوا في أعلى المسادا. المثير في دراسة بن يهودا هو بيان الكيفية التي ينسج بها اليهود المعاصرون أساطيرهم لخدمة أغراض محددة. ويورد الكاتب ما قاله رئيس الأركان الاسرائيلي موشيه دايان في حرب 1967: "أصبحت المسادا في نظر الشعب اليهودي رمزاً للبطولة والحرية، أصبحت رمزاً يقول لهم: قاتلوا ولا تستسلموا". ومن ثمّ لعبت اسطورة المسادا، التي جرى صوغها وتشكيلها من قبل الحركة الصهيونية العلمانية في مجتمع الييشوف المجتمع اليهدي في فلسطين قبل 1948 لتخدم الغرض الذي أشار اليه دايان، "دوراً حاسماً في بلورة الهوية الفردية والجمعية الجديدة لأجيال من اليهود الاسرائيليين بين مطلع الأربعينات وأواخر الستينات". يتضح من استعراضنا السابق لبعض ما كتبه المؤرخون الاسرائيليون الجدد ان ثمة اتجاهات مختلفة في التسجيل التاريخي Historiography ودراسات علم الاجتماع وحفريات المعرفة تؤثر على المجتمع الأكاديمي الاسرائيلي، وكذلك في الدراسات الاسرائيلية واليهودية في الجامعات الاسرائيلية والغربية. * كاتب أردني.