يلوح جبل الحاكوس الواقع في جنوب ليبيا للناظر اليه من علو شاهق كحبة جوز ينهض بجدرانه المتغضنة الداكنة وسط الصحراء الكبرى، ذلك الفضاء الموشّى بلون عسلي، وكأن الجبل يرسم لوحة بديعة يكمن سحرها في انسجام الالوان وجمال التضاريس التي تقوم على سهل منبسط تتناثر فوقه الكثبان الرملية. ويخفي سطح الجبل الاجعد بين طياته ووديانه واحدة من اقدم التشكيلات الصخرية الانيقة التي تبدو منحوتات طبيعية. وقلما وصل بعض الرحالة الغرباء الى المعرض الفني الدائم المختبئ في كهوف تلك الجبال التي ترتاح في حضن الصحراء بعيداً عن الدروب المطروقة. هذا الجزء النائي المشلوح على حافة الخارطة الليبية هو موطن الطوارق، وعاصمته مدينة غات التي كانت محطة رئىسية للقوافل التجارية التي طالما قطعت المسافات بين ساحل المتوسط في اقصى الشمال وشبه الصحراء الافريقية. وعروس بلاد الطوارق صغيرة المساحة الا انها كانت شديدة البأس، اذ صدت الغزاة الرومان الذين حاولوا لوي عنقها غير مرة، ولما لم يفلحوا عادوا من حيث أتوا مثقلين بالخيبة. وغات هي البوابة التي يلج فيها المرء الى الكنوز الفنية في جبل الحاكوس. فالرحلة الى الكهوف تبدأ من هنا، حيث ينطلق موكب الزوار بقيادة بعض ابناء المنطقة من رجال الطوارق عبر مسالك مجهولة امحت معالمها، تحف بها الكثبان والصخور المهشمة. الاستغناء عن الجمل والرحلة التي تستحيل على الاجنبي، ما لم يزوده ابناء المنطقة بالمساعدة، لا تخلو من الصعوبة. ولعل هذا ما دفع الادلاء الى الاستغناء عن الجمل كوسيلة مواصلات يحن اليها الغربيون برومانسيتهم المعهودة، واستبداله بسفينة الصحراء الحديثة ذات العجلات الاربع: ناقلة تويوتا. بعدما وصلت هذه السيارات الى المنطقة احيلت الجمال على التقاعد، وصارت مدللة لا يقلق راحتها المسافرون او التجار بل يمتطيها المتنزهون وحدهم. ويحرص الصحراويون على جمالهم فيرفضون احياناً تأجيرها للسياح المستعدين لدفع مبالغ سخية لقاء رحلة قصيرة. وعنايتهم بالجمال تدل على انهم يعيشون في انسجام تام مع محيطهم الذي كانت هذه الحيوانات ركناً اساسياً فيه على الدوام. وقد تكون رعاية الجمال في معناها الاعمق حفاوة بالمجتمع التقليدي الذي لا تزال معالمه بارزة في ديار الطوارق، على رغم ان القرن العشرين القى بظلاله عليها. اذ صارت السيارات تجوبها وبدأ ابناؤها بممارسة مهن "حديثة العهد" فافتتحوا الحوانيت وورشات تصليح السيارات والاجهزة الميكانيكية. كما تجد بينهم هذه الايام رجال اعمال نشيطين وعدداً من منظمي الرحلات السياحية الاكفاء الآخذين بالازدياد. وليس غريباً ان يكرس ابناء الصحراء الليبية جزءاً كبيراً من اهتمامهم للسياحة، اذ ادركوا خصوصية بلادهم وامكان استثمار هذه الثروة الطبيعية آملين ان تصبح السياحة من مصادر دخلهم الاساسية. وعلى الارجح انهم سينجحون باستقطاب مزيد من الزوار الاجانب، فأهم مقومات السياحة المزدهرة تتوافر لديهم: المناطق الفريدة وحسن الضيافة، فضلاً عن المرافق التي يحاولون تحسينها. قبائل مختلفة حالما يغادر المرء مدينة غات متجهاً صوب الجبال يجد نفسه امام جماعات من قبائل الطوارق تختلف عن ابناء قومها من سكان المدينة الحريصين على مواكبة القرن العشرين. اذ هجر هؤلاء الصحراء والجبال البعيدة واخذوا يقطنون اكواخاً وبيوتاً ريفية منذ نحو عشرين عاماً. واكتفوا بممارسة مهنهم القديمة من رعي وزراعة بسيطة، دون ان يولوا العصر الحديث وحرفه المعقدة اي انتباه. اما الطوارق الاشد تطرفاً فما زالوا يفضلون العيش في الجبال على طريقة اسلافهم بعيداً عن "الحضارة الحديثة". ومن المنتظر بعد وقت قريب ان تغيب "الزرائب" ومعها الطريق المعبد، ويدخل المرء في بحر من الرمل تبدو كثبانه الكثيرة كالامواج المتلاطمة. ومن طرائف الزيارة ان المسافة بينه وبين الكهوف الجبلية تبلغ 60 كيلومتراً في رحلة الذهاب الا انها تزيد عن 190 كلم في العودة. دهشنا للوهلة الاولى عندما ابلغنا الدليل المتقدم في السن، لكن سرعان ما انجلت حقيقة هذه المفارقة حين وصلنا الى حافة انحدار سحيق يستحيل على اي آلية مهما بلغت بها المتانة ان تتسلق سطحها الرملي المائل من القعر الى القمة. ورغم شيخوخة الدليل الظاهرة لم يتلكأ في مسيرته، وكيف يفعل وهو ابن الصحراء الذي خبرها منذ نعومة اظفاره وعاش معها بانسجام يدعوك للدهشة؟! أصر على الترجل من السيارة والتقدم امامها مشياً على الاقدام كيما يختبر صلابة الرمل وقدرته على تحمل الآلية الثقيلة التي ازدحمت بالسياح. الا ان المشقة التي تتكبدها في رحلة كهذه تقطع شطراً كبيراً منها ببطء سلحفاة، تغدو جزءاً من الماضي حين يلوح لك الجبل من بعيد. عندئذ تنسى تعب الطريق وتكاد الغبطة تدير رأسك، فمن حقك ان تشعر بالفخر وتتباهى بانجازك هذا الذي لم تحققه الا حفنة قليلة من السياح، اذ ان الباحثين ورجال الآثار لم يكونوا اشد نجاحاً، فالآثاري الوحيد الذي زار الموقع بقصد استكشافه ودراسته كان الايطالي لوتي. وبقيت هذه الآثار الفريدة شبه منسية حتى سنوات قليلة ماضية، حين دب الحماس في بعض الأكاديميين والمختصين الذين بدأوا التنقيب من جديد في بطون الكتب والمخططات، استعداداً لاجراء مسح شامل للمنطقة. ويعود الفضل في هذا الاهتمام الجديد الى دراسات الرائد الايطالي الاول الذي صنف اللوحات التي تزخر بها الكهوف، في دقة عجيبة. اذ تمكن من اكتشاف الاساليب الفنية المختلفة التي تتجلى فيها، فاستطاع بذلك تشخيص اهتمامات الانسان القديم ومراحل تطوره الفنية. رسوم الحيوانات بدأ أسلافنا رحلتهم مع الفن في "مرحلة الحيوانات البرية الضخمة"، حسب التسمية التي اطلقها العالم الايطالي على مجموعة من الرسوم التي تزدان بها جدران كهوف جبال أكاكوس. وفي تلك الفترة اقتصرت "خربشاتهم" الابداعية على اشكال الحيوانات الكبيرة دون ان تولي الانسان اي اهتمام بخلاف "مرحلة الرأس المدور" التي بدأ الانسان يطل في لوحاتها، ولو كانت معالمه غير واضحة. وفيما يعتقد ان هذه الرسوم موغلة في القدم بحيث يصعب تحديد عمرها بدقة، يرجح بعض الباحثين ان احدثها يعود الى ما يسمى "عصر الجمال" حين تم استحضار هذه الحيوانات من شبه الجزيرة العربية الى شمال افريقيا خلال القرن الميلادي الاول. والى جانب رسوم الجمال الكثيرة نجد ان للفيلة والزرافات والثيران والاغنام والظباء وغيرها حضوراً قوياً في اللوحات الجدارية التي تزين هذه الكهوف. ويخال الناظر اليها انه امام صور لعالم غني بالجمال هو بمثابة فردوس شمال افريقيا المفقود. وفضلا عن هذه الحيوانات نجد اشكالاً اخرى لحيوانات منقرضة مخيفة وطويلة متسامقة تتناثر على جدران الكهوف، فتختلط بصور الانسان القديم التي تغطي مساحات لا بأس بها من هذه اللوحات. وبعض الاشكال الانسانية تلفت النظر بغرابتها اذ تنحف خصورها كثيراً، وتأخذ جذوعها شكل المثلث. ويعتقد الآثاري الايطالي ان معظم هذه الرسوم تمثل رجال قبيلتين قديمتين احترف ابناؤهما الرعي. وتدلل هذه اللوحات على ان سكان المنطقة القدماء شغفوا بالموسيقى والفنون والولائم والرقص والغناء، اذ ان الرسوم التي خلفوها تتخذ من هذه النشاطات موضوعات لها. وشعب "غارامانتيس" الغامض الذي اشتهر بصناعة عربات تجر كل واحدة منها اربعة خيول لم يغب عن رسوم الكهوف ايضاً. فبعض اللوحات تزهو بالعربات المعروفة بزخارفها الانيقة التي تذكر بأن هذا الشعب عرف المجد في هذه المنطقة قبل ان تدول دولته بسبب الغزو الروماني. ويظن البعض ان الطوارق هم احفاد ال"غارامانتيس" لكن احداً من الباحثين لم يقطع بصحة ذلك، على رغم ان هناك تشابهاً كبيراً بين لغتي الشعبين. وبفضل هذه الرسوم او الوثائق التاريخية المهمة، تعتبر الكهوف الجبلية نافذة على عالم قديم وشعوب مندثرة ما يزال المكان يعبق بأنفاسها كما تعتبر كنوزاً فنية فريدة يفخر بها ابناء الصحراء الليبية.