ان تجربتنا في مضمار حفظ السلام في لبنان والتي تتميز بسمات استثنائية للحكمة من ناحية، وللحماقة من ناحية اخرى، تقدم الينا دروساً قيمة يمكن، لو فهمت فهماً ملائماً، ان تعين الرئيس كلينتون على رسم طريق متزن، عبر العشرات من الازمات العرقية والقومية وغيرها من المشكلات الخارجية التي لا بد له ان يعالجها الآن ومستقبلاً. فقد انقضت الآن 35 سنة منذ ان امر الرئيس ايزنهاور مشاة البحرية الاميركية بالنزول الى شواطئ لبنان، لمعالجة الاضطرابات الطائفية التي هددت بنشر الفوضى في هذه الدولة والدول المحاورة. وقد حلت المشكلة من دون الحاجة الى اطلاق عيار ناري واحد. وهو يدل على صدقية التقدير السياسي والعسكري الاميركي وحنكته في تلك الايام. وبعد ذلك بخمس وعشرين سنة ارسل الرئيس ريغان مشاة البحرية الاميركية الى الاراضي اللبنانية مرة اخرى، لكنه اضطر الى سحبهم بعد ثمانية عشر شهراً، بعدما تكبدوا خسائر في الارواح لا داعي لها، بلغت 237 قتيلاً، من دون حدوث اي تحسن في الموقف. فما هي المعايير التي دفعتنا الى التحرك في هاتين الازمتين؟ وكيف حققنا النجاح في احداهما وتصرفنا بحماقة في الثانية؟ وما هي صلتهما بالسياسة الاميركية في الصومال والبوسنة وغيرهما من عشرات المواقع التي ستدعى الولاياتالمتحدة الى اتخاذ اجراء فيها، على مدى السنوات المقبلة؟ في العام 1958 رأي الرئيس ايزينهاور ان المصالح الامنية الاميركية تقتضي منع التوغل السوفياتي في منطقة الشرق الاوسط، وحين اتضح ان السوفيات فكروا في استغلال الخلافات الطائفية في لبنان، كذريعة للتدخل في شؤونه، اوضح لهم ايزنهاور بجلاء انه سيفعل كل ما في وسعه، ومن ذلك استخدام القوة العسكرية، لابعادهم عنه. ولم يكن في موقف ايزنهاور شيء من التظاهر الاجوف، اذ كان يعلم ان لديه من السبل ما يحقق له الفوز. ولن أنسى ابداً منظر الاسلحة النووية وهي تحمل على طائرات البحرية الاميركية، على متن حاملة الطائرات إسكس في صيف عام 1958. كان مشهداً يفيق العقل. وكان القصد ان تستخدم هذه الاسلحة عند الضرورة للتعامل مع التدخل السوفياتي. ونجحت استراتيجية الرئيس، بسرعة ومن دون تصعيد، لأن مصالحنا كانت واضحة، واصرارنا جلياً، وقدراتنا بينة، ودعمنا السياسي صلباً. ولم تكن الاحوال في لبنان عام 1982 مختلفة عما كانت عام 1958. فقد تفاقمت الخلافات الطائفية الى حد التدهور الى حرب اهلية، ما لبثت ان اشتد اوارها بسبب العمليات الفلسطينية التي كانت تشن على اسرائيل من جنوبلبنان. اما سورية التي استمدت الدعم المعنوي والعسكري من الاتحاد السوفياتي. فقد استغلت الفراغ السياسي في بيروت. وكان هذان التهديدان، النشاط الفلسطيني من ناحية وتزايد الوجود العسكري السوري من ناحية اخرى، هما اللذان دفعا باسرائيل الى غزو لبنان في حزيران يونيو من تلك السنة. وأصبحت المصالح الاميركية المهمة معرضة للخطر. فبعد خمسة حروب في غضون 35 سنة كان واضحاً ان من مصلحتنا فصل اسرائيل عن سورية، عن طريق انهاض لبنان كدولة مستقرة عازلة بينهما. وفي ايلول سبتمبر 1982، وبعدما حصرت اسرائيل مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية في احد اركان بيروت، والحقت الهزيمة بالقوات السورية، كان يمكن الولاياتالمتحدة، مع فرنسا وبريطانيا وايطاليا التي امضمت قواتها الينا، ان تعدو اسرائيل وسورية الى الانسحاب، وان تستعين بهذه القوة المتعددة الجنسية لفرض الامن والنظام، الى ان يتشكل جيش لبناني جديد يحل محلنا، وان تركز على نسج خيوط المصالح السياسية بين مختلف الفئات اللبنانية. وقصارى القول: لو امكننا تحديد المصلحة الاميركية الواضحة، واتبعنا استراتيجية سياسية وعسكرية معقولة لتحقيق هذه المصلحة، لكنا حققنا النجاح في مهمتنا. وفي اطار ادارة ريغان دعا الى انتهاج هذا الطريق اعضاء مجلس الامن القومي، ومنهم خبراء وزارة الخارجية بدرجة اقل. لكن وزارة الدفاع اظهرت مقاومة. ولهذا لم يتحقق في ذلك الوقت اي من المطلبين، الا وهما تحديد المصلحة الاميركية الواضحة، واعداد استراتيجية سياسية وعسكرية عملية لحمايتها. والحق اننا - كما هو الحال في الصومال اليوم - جندنا قواتنا للقيام بمهمة انسانية اساساً، ثم سعينا الى انجاز مهمة اوسع نطاقاً من دون تدبر، هل فهم الشعب الاميركي هذه المهمة الجديدة، وأظهر استعداداً لتأييدها، او هل كان العسكريون مستعدين او قادرين على القيام بها. ونظراً الى المراجعات الكثيرة التي طرأت على المذكرات الشخصية لكبار معاوني ريغان بخصوص هذا الفصل المأساوي، وبسبب الآثار التي قد تحدثها هذه التشويهات والدروس المغلوطة على من هم الآن في الحكم، يقلبون القطر في احداث تلك الايام، سعياً الى اضفاء بعض المعنى على دورنا في الصومال، فقد يكون من المفيد ان نعود الى تلك الحقائق، وان نصحح المفاهيم الخاطئة. في ايلول 1982 طلب السفير فيليب حبيب، الممثل الخاص للرئيس الاميركي في الشرق الاوسط، ارسال مشاة البحرية الى بيروت لحماية مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية اثناء مغادرتهم الاراضي اللبنانية. وكان من الواضح ان اخراج مقاتلي المنظمة من لبنان، وهو ما يضعف مقدرتهم على شن الهجمات على اسرائيل عبر الحدود اللبنانية، هي مسألة لمصلحتنا. ووافق الرئيس ريغان على هذا الطلب، وأرسل مشاة البحرية لهذا الغرض المحدد. وكان حبيب تعهد للرئيس عرفات ابقاء الجنود الاميركيين، لحماية اسر المقاتلين التي ستبقى في بيروت بعد رحيلهم، من اعتداءات اللبنانيين او غيرهم على افرادها. وعلى رغم هذا التعهد اصدر وزير الدفاع الاميركي كسبار واينبرغر اوامره - من دون التماس اذن الرئيس - بأن يعود مشاة البحرية الى سفن الاسطول السادس بمجرد مغادرة المقاتلين الفلسطينيين، الامر الذي ترك الاسر الفلسطينية مكشوفة ومعرضة للخطر. ولم تكد تمر ايام حتى دبرت الميليشيات المسيحية مذبحة وحشية قتلت فيها المئات من النساء والاطفال والشيوخ الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا. وبعد ذلك بقليل امر الرئيس ريغان بعودة مشاة البحرية الى الأراضي اللبنانية، بدافع الشعور بالذنب، وليس دفاعاً عن مصالح امنية اميركية واضحة. وكان على مشاة البحرية ان تثبت "وجودها"، وان توفر، جنباً الى جنب مع القوات الفرنسية والبريطانية والايطالية، دعماً معنوياً يمكن الحكومة اللبنانية الوليدة من اعادة بناء نفسها بعد حرب الصيف السابق. كان هذا هو ما علق عليه الرئيس آماله. لكن التغلب على الذنب ليس مصلحة اميركية كافية، كما ان اثبات الوجود ليس مهمة عسكرية عملية. وكان نشر قواتنا مقضياً عليه بالفشل من البداية، في غياب الهدف الواضح والاستراتيجية الفعالة. ومما اضاف الى دواعي احراجنا اننا سمحنا لأنفسنا بالانجرار الى مفاوضات لا جدوى منها بين اسرائيل ولبنان، لم تكن امام نتائجها اي فرصة للتنفيذ، في ضوء الضعف البادي للحكومة اللبنانية. وبينما ضيعنا هذا الوقت الثمين الذي كان يمكن ان يستغل في حمل كل القوات الاجنبية على مغادرة لبنان، كانت سورية تتسلح من جديد، فيما كانت الجماعات التي تدعمها ايران تعزز مواقعها في لبنان. واليوم لم يبق لسوء الحظ الا العبر التي يمكن الافادة منها. وما من شك ان ارواح مشاة البحرية الذين قتلوا ستضيع هباء، اذا لم نتعلم الدروس الصحيحة. وأول هذه الدروس واضح لا لبس فيه: لا تدخل المعمعة ابداً الا بعد تحديد المصالح المشروعة، وعند توافر الوسائل الكفيلة بتحقيقها. وهناك دروس اخرى تستفاد من اندحار عام 1983 في لبنان. فالمطبوعات الصادرة عن دور الولاياتالمتحدة في هذه الازمة تصل الى نتيجة مؤداها ان مشاة البحرية هوجموا بالقنابل لأن الولاياتالمتحدة اعتبرت منحازة الى صف المسيحيين في حرب اهلية مع المسلمين. لكن الحقائق مختلفة عن هذا كل الاختلاف. فحين وصلت الى لبنان للحلول محل السفير فيليب حبيب، بعد عام تقريباً من الانتشار الاصلي للقوات الاميركية، اقترحت ان نعيد توجيه سياستنا بعيداً عن الاهتمام بالاتفاق القديم الجدوى مع اسرائيل، وان نركز بدلاً من ذلك على اشاعة الاستقرار في لبنان. وكان هذا التوجه يتطلب امرين، اولهما اعادة توزيع السلطات السياسية بين الفئات المختلفة في لبنان، بما يتناسب والتوزيع السكاني الفعلي في البلاد. اما الامر الثاني فهو الاسراع في تشكيل الجيش اللبناني المتكامل الجديد، على ان تمثل فيه كل فئة من قدرة لبنان على صون امنه الداخلي. وبحلول ايلول 1983 كنا حققنا تقدماً كبيراً في بناء جيش لبناني تمثل فيه كل العناصر الطائفية، وبدأنا نحقق بعض التقدم في اقناع الرئيس امين الجميل بتقبل حتمية الحل الوسط مع خصومه السياسيين. ومع اتضاح هذا التقدم، تعمد الجانب الآخر، اي القوات السورية التي اشتد ساعدها بمصدر تهيد جديد في شكل عناصر اصولية تستمد الهامها من ايران، إثارة مواجهة عند حامية صغيرة تعرف باسم سوق الغرب في الجبال المشرفة على بيروت. ففي احدى الليالي من شهر ايلول، وفي هجوم ليلي عنيف، اضطر الجيش اللبناني الموحد الوليد الى الاشتباك. وتبين في الحال ان الجنود اللبنانيين كانوا غير قادرين على الصمود، وانهم كانوا على وشك الهلاك. وحين وجد الكولونيل تيم غيراثي قائد مشاة البحرية نفسه مواجهاً بهذا الاحتمال، واتضح له ان قواته الخاصة هي والبعثة الديبلوماسية الاميركية باتت تحت طائلة النيران من العناصر السورية والعناصر الاخرى نفسها التي يرعاها الجانب السوري، امر قواته باطلاق النار. وقصارى القول ان القوات الاميركية المؤلفة من مدفعية مشاة البحرية ومن الطائرات المتمركزة على حاملتها قبالة الشاطئ، بدأت باطلاق نيرانها لسببين، اولهما الدفاع عن نفسها وعن مواطنين اميركيين آخرين كانوا واقعين بالفعل في دائرة النار، والثاني هو دعم قوات الجيش اللبناني التي تعرضت لهجوم على ايدي القوات السورية والمقاتلين الاصوليين الذين ترعاهم ايران. لم نتخذ موقفاً منحازاً الى حانب قوات مسيحية، وانما اطلقنا نيراننا لمساندة الجيش اللبناني. والواقع ان افدح الخسائر كانت هي التي منيت بها العناصر الشيعية داخل الجيش. على ان القضية الرئيسية التي قوبلت بالتجاهل طوال عشر سنوات. هي ان الولاياتالمتحدة كانت لها مصلحة واضحة في السعي الى جعل لبنان دولة مستقرة عازلة بين اسرائيل وسورية. وعلاوة على ذلك واجهنا محاولات عنيفة وعنيدة يرعاها الخميني، لابعاد النفوذ الاميركي وسائر النفوذ الغربي عن منطقة الشرق الاوسط. ولو كان الرئيس ريغان استطاع بادئ ذي بدء تحديد مصالحنا في هذا السياق امام الشعب الاميركي، ولو وجه ثانياً وزيري خارجيته ودفاعه للعمل يداً بيد مع حلفائنا الاوروبيين الذين كانت قواتهم منتشرة مع قواتنا في لبنان، واعداد استراتيجية لمواجهة الاوضاع، لكان امكننا - بتكلفة بسيطة - اتقاء ما عقب ذلك من تاريخ طويل شهد احتجاز الرهائن وشن الهجمات العنيفة. ان حجر الاساس لأي دور من اي نوع نؤديه على الساحة الدولية، لا بد ان يكون الفهم الواضح لمصالحنا القومية، من قبل المواطنين الاميركيين، وايضاً من قبل اصدقائنا وأعدائنا في الخارج. وهذه المصالح ببساطة شديدة، ووفقاً للأولويات هي: حماية الولاياتالمتحدة والمواطنين الاميركيين من الهجوم، ثم - بالاشتراك مع حلفائنا - حماية الدول الاخرى التي يعتبر امنها حيوياً لازدهارنا ربما بسبب مواردها الطبيعية او موقعها الاستراتيجي او غير ذلك من الاسباب. وبعد ذلك يأتي تعزيز العلاقات مع الدول الاخرى من خلال النشاط الديبلوماسي الجدي والقدوة الحسنة، تحقيقاً لسلام العالم ولازدهار اقتصادنا. وأخيراً العمل في صورة انتقائية لوضع حد لمعاناة البشر او لتخفيفها، سواء كان سببها الانتهاك الصارخ لحقوق الانسان او الكوارث الطبيعية. وقبل ان يدخلنا اي رئيس اميركي في دائرة استخدام القوة في الخارج، لا بد له ان يحدد نوع المصلحة التي يسعى الى حمايتها، وان يضمن لنفسه - من خلال اقناع الجمهور وعقد الاجتماعات مع اعضاء الكونغرس والتراسل مع الحلفاء - الفوز بتأييد الشعب الاميركي والكونغرس والقيادة العسكرية، فضلاً عن دعم الحلفاء في الخارج. وفضلاً عن ذلك ينبغي ان يكون الرئيس واثقاً من قدرته على انهاء المهمة بنجاح، قبل ان يبدأ تأييد هذه القطاعات المختلفة بالتناقص، وهو ما لا بد ان يحدث اذا وقعت خسائر في الارواح. وليس سهلاً وان تيسر الامر بالتشاور ان نرى الاحداث الجارية في سياق تأثيرها في المصالح الاميركية الحيوية. فقليلة هي المشكات التي تمارس هذا التأثير في عالم اليوم. واذا تركنا المصالح الحيوية جانباً، لوجدنا مصالح امنية مهمة معرضة للخطر هنا وهناك في مناطق العالم المختلفة. كما توجد مصالح اقل اهمية يبدي الاميركيون من حين الى حين استعداداً للمجازفة في سبيل تأمينها. ولكن لا بد من فهم الفوارق بين هذه المصالح. وفي بعض الحالات نستطيع، اذا تصرفنا بالسرعة الكافية والديبلوماسية الحريصة ان نتحاشى تحول المشكلات الى ازمات. فالتهديد باحتمال اتساع نطاق المواجهة بين الهندوس والمسلمين في الهند، وتحوله الى صراع نووي اشد خطراً بين الهند والباكستان، وهو مثال يبرر بوضوح مدى الحاجة الى تدخلنا الديبلوماسي. ومن الجلى ان الرئيس كلينتون يفضل تكريس السنوات الثلاث التالية، لاجراء تغييرات في السياسة الداخلية. ولكن اذا اخذنا في اعتبارنا مناخ العنف العرقي وغيره في فترة ما بعد الحرب الباردة، لوجدنا ان على الرئيس الاميركي - اذا شاء الانسلاخ عن المعترك السياسي الدولي - ان يبين اتجاهه الى المشاركة في حل نوع آخر من الازمات. ولعل اختياره الظاهر هنا هو الاممالمتحدة. ولكن من الواضح ان الانتشار الفعال لقوات الاممالمتحدة، للقيام بدور صنع السلام لا مجرد حفظه، لا يمكن ان يتأتى الا بعد حل شتى المشكلات المتعلقة بكيفية تشكيل هذه القوات، وطريقة قيادتها والسيطرة عليها، والجهة المكلفة بتسديد تكاليفها. والى ان تحل هذه المشكلات ينبغي على الولاياتالمتحدة اتباع بضعة معايير تقرر بمقتضاها هل ستشارك ام ستمتنع. وليس من السهل ابداً ان يرفض المرء طلب المحتاجين. ولكن من الاسهل قطعاً ان نفعل ذلك، بدلاً من الاضطرار الى شرح اسباب فشلنا لاحقاً، حين ترتفع التكلفة في الارواح والممتلكات. * مستشار الرئيس الاميركي السابق رونالد ريغان لشؤون الأمن القومي.