المملكة تؤكد التزامها بالحفاظ على التراث الثقافي    ميتروفيتش يبتعد عن بنزيما ورونالدو    حائل: القبض على شخص لترويجه أقراصاً خاضعة لتنظيم التداول الطبي    ممثل رئيس إندونيسيا يصل الرياض    خيسوس: الهلال يثبت دائمًا أنه قوي جدًا.. ولاعب الاتفاق كان يستحق الطرد    انطلاق أعمال ملتقى الترجمة الدولي 2024 في الرياض    زلزال بقوة 6.2 درجات يضرب جنوبي تشيلي    الأخضر يغادر إلى أستراليا السبت استعدادا لتصفيات مونديال 2026    ترقية بدر آل سالم إلى المرتبة الثامنة بأمانة جازان    جمعية الدعوة في العالية تنفذ برنامج العمرة    «سدايا» تفتح باب التسجيل في معسكر هندسة البيانات    الأسهم الاسيوية تتراجع مع تحول التركيز إلى التحفيز الصيني    انطلاق «ملتقى القلب» في الرياض.. والصحة: جودة خدمات المرضى عالية    تقرير أممي يفضح إسرائيل: ما يحدث في غزة حرب إبادة    خطيب المسجد النبوي: الغيبة ذكُر أخاك بما يَشِينه وتَعِيبه بما فيه    فرع هيئة الهلال الأحمر بعسير في زيارة ل"بر أبها"    نيمار: 3 أخبار كاذبة شاهدتها عني    أمانة الطائف تجهز أكثر من 200 حديقة عامة لاستقبال الزوار في الإجازة    رفع الإيقاف عن 50 مليون متر مربع من أراضي شمال الرياض ومشروع تطوير المربع الجديد    بطلة عام 2023 تودّع نهائيات رابطة محترفات التنس.. وقمة مرتقبة تجمع سابالينكا بكوكو جوف    المودة عضواً مراقباً في موتمر COP16 بالرياض    خطيب المسجد الحرام: من صفات أولي الألباب الحميدة صلة الأرحام والإحسان إليهم    في أول قرار لترمب.. المرأة الحديدية تقود موظفي البيت الأبيض    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    دراسة صينية: علاقة بين الارتجاع المريئي وضغط الدم    5 طرق للتخلص من النعاس    «مهاجمون حُراس»    حسم «الصراعات» وعقد «الصفقات»    محافظ محايل يبحث تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    الموسيقى.. عقيدة الشعر    في شعرية المقدمات الروائية    ما سطر في صفحات الكتمان    لصوص الثواني !    مهجورة سهواً.. أم حنين للماضي؟    لحظات ماتعة    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    حديقة ثلجية    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    أنماط شراء وعادات تسوق تواكب الرقمنة    الأزرق في حضن نيمار    رحلة طموح    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    التعاطي مع الواقع    ليل عروس الشمال    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كىف حال لبنان اليوم ؟. العالم ينسق مع سورية لتأمين الاستقرار في هذا البلد والنفوذ الايراني ازداد قوة والفلسطينيون يراعون دمشق وواشنطن والأميركيون فشلوا وأهملوا اللبنانيين ... والسلام قد يكون على حسابهم
نشر في الحياة يوم 21 - 12 - 1992

شغل الدكتور ايلي سالم في عهد الرئيس أمين الجميل بين 1982 و1988 منصبي نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية، ومستشار رئيس الجمهورية للشؤون الخارجية. ومن هذا الموقع تعامل مع الازمة اللبنانية بجوانبها المختلفة، الداخلية والاقليمية والدولية. وفي هذا المقال الخاص يطرح ايلي سالم السؤال الأساسي الآتي: ما الذي تبدل في لبنان خلال السنوات العشر الماضية، أي منذ الغزو الاسرائيلي لهذا البلد الى اليوم؟ وفي ما يأتي مقال ايلي سالم:
خلال السنوات العشر الماضية، تفاعلت في الساحة اللبنانية 6 قضايا أساسية هي: الاحتلال الاسرائيلي، العلاقات مع سورية، الدور الفلسطيني، النفوذ الايراني، الديبلوماسية الاميركية، وموضوع الوفاق الوطني بجوانبه المختلفة. كيف تطورت هذه القضايا وما الذي تبدل فيها بين عام 1982 وعام 1992؟
لنبدأ بالاحتلال الاسرائيلي. اجتاح الجيش الاسرائيلي لبنان في حزيران يونيو 1982 ودخل لاحقاً بيروت وتغلغل في التلال المجاورة لها. وسبق للجيش الاسرائيلي ان اجتاح جنوب لبنان مرات عدة ملاحقاً المقاتلين الفلسطينيين، ولكنه كان ينسحب بعد هذه الهجمات الى قواعده في اسرائيل. وفي 1978 احتلت اسرائيل جزءاً كبيراً من جنوب لبنان ولما تراجعت تحت ضغوط دولية أصرت أن تبقى في قسم من جنوب لبنان تسميه "الحزام الأمني" أو "الشريط الحدودي". وأقامت نظاماً خاصاً في تلك المنطقة وجندت جيشاً تحت اشرافها وقيادتها بحجة حماية حدودها الشمالية. وكان احد مستشاري رئيس الوزراء الاسرائيلي مناحيم بيغن اسرّ الى الرئيس اللبناني المنتخب بشير الجميل بأن "اسرائيل تريد وقاية من لبنان شبيهة بالجيوب الواقية في سيجارة الفلترز. الفلترز تكرر الدخان من النيكوتين كذلك اسرائيل تريد جيوباً واقية أو أحزمة أمنية في جنوب لبنان تكرر السياسة العدائية ضدها، ولذا تسعى اسرائيل الى ايجاد ثلاثة أحزمة أمنية في لبنان لتأمين استقرار حدودها الشمالية. وتريد هذه الاحزمة ان تكون بشكل دويلات طائفية، دويلة مسيحية، دويلة شيعية الى شمالها، ودويلة درزية الى الشمال الأعلى".
وفي تشرين الأول اكتوبر 1982 عندما تألفت حكومتنا كانت اسرائيل في قلب لبنان وكان جيشها على مفارق كل الطرقات وعلى كل المشارف المطلة على العاصمة. وكان الاميركيون يطمئنون رئيس الجمهورية أمين الجميل ورئيس الحكومة شفيق الوزان بأن "كل الجيوش الاجنبية ستغادر لبنان في أواخر كانون الأول ديسمبر 1982".
كان التفاؤل بالموقف الأميركي يسود البلاد على صعيد الحكم وعلى صعيد الشعب وعلى الصعيد الاعلامي. ولكن تبين أن الموقف الاسرائيلي متحجر وان اسرائيل تريد معاهدة سلام مع لبنان وتطبيع العلاقات معه ثمناً لانسحابها على رغم ان قراري مجلس الأمن رقم 425 سنة 1978 و506 سنة 1982 يفرضان عليها الانسحاب الكامل وغير المشروط. وكانت حكومتنا تسعى الى اللجوء الى الأمم المتحدة لاخراج اسرائيل من العمق اللبناني. لكن اميركا ودولاً صديقة أخرى كانت تنصح بالحاح باجراء مباحثات مباشرة مع اسرائيل من دون اللجوء الى الأمم المتحدة لأن اسرائيل لن تذعن لقرارات المنظمة الدولية.
ومنذ اللقاء الأول مع وزير الخارجية الاميركي جورج شولتز تبين انه كان يسعى في آخر المطاف الى التوصل الى معاهدة سلام على رغم ان العدد الكبير من معاونيه الذين كانوا ملمين بالأوضاع اللبنانية الدقيقة يخالفونه بالرأي. وأراد شولتز ان يضغط علينا في هذا المجال اذ قال لي في أول لقاء، وكنا بعد حوار قصير توصلنا الى علاقات تسمح لنا باستعمال الأسم الأول: "ايلي، لا تنسى أن اسرائيل ربحت الحرب وأن لبنان خسر". وعندها القيت عليه محاضرة طويلة عن موقف لبنان السياسي وعن استحالة عقد معاهدة سلام بين لبنان واسرائيل مهما كان الثمن الا ضمن حل عربي شامل. وفي الواقع وقبل ان اوافق على دخول الحكومة كوزير للخارجية سألت الرئيس الجميل اذا كان ملتزماً بمعاهدة سلام مع اسرائيل، ولما أجابني بالرفض القاطع قبلت الاسهام في الحكومة والمشاركة في المسيرة الصعبة لاخراج اسرائيل من لبنان.
وبعد محادثات مع السفير فيليب حبيب المبعوث الخاص للرئيس الاميركي رونالد ريغان، وافقنا على المشاركة في مباحثات مثلثة الأطراف، شرط ان تكون أميركا فريقاً ملتزماً فيها. وقد أدت هذه المباحثات الى اتفاق الانسحاب الاسرائيلي الموقع من قبل رؤساء الوفود في 17 أيار مايو 1983. ولما كانت اسرائيل تهدف الى معاهدة سلام والى تطبيع العلاقات مع لبنان، ولما فشلت في الحصول على هذين الهدفين فانها حاولت اجهاض اتفاق وافقت عليه حفظاً لماء الوجه مع أميركا. وفي اليوم الذي وقّع فيه الاتفاق سلمت اسرائيل لبنان رسالة بواسطة الاميركيين تقول فيها بأن انسحابها من لبنان مشروط بانسحاب مسبق للسوريين وللمقاتلين الفلسطينيين، وأرسلت في اليوم ذاته رسالة الى فيليب حبيب قلت فيها انه "اذا لم ينسحب الجيش الاسرائيلي بالشكل المنصوص عليه في الاتفاق عندها يعلن لبنان الاتفاق لاغياً وكأنه لم يكن".
ورفضت سورية، كما هو منتظر، أي ارتباط بين انسحاب جيشها وانسحاب الجيش الاسرائيلي، كما ان سورية كانت تعارض أي اتفاق بين لبنان واسرائيل خارج نطاق مقررات مجلس الامن التي تدعو الى انسحاب اسرائيلي غير مشروط. ولم يبرم لبنان الاتفاق مع اسرائيل والذي أخذ الاجماع حوله يتقلص تدريجياً حتى الغته الحكومة اللبنانية في 5 آذار مارس 1984.
أما اسرائيل فانسحبت من لبنان على ضوء معطياتها السياسية الخاصة بها، وأبقت وجودها السياسي والعسكري في جنوب لبنان. أما اميركا التي لم توفق في جهودها الديبلوماسية فانسحبت أيضاً من لبنان في ضوء معطياتها السياسية وسحبت الورقة اللبنانية من البيت الأبيض ومن وزارة الخارجية وسلمتها الى سفيرها المقيم في بيروت، وهكذا تكون وضعت لبنان خارج اولوياتها السياسية في العالم. وفي حزيران يونيو 1985 انسحب الجيش الاسرائيلي الى "الشريط الحدودي" رافضاً التخلي عن منطقة استولى عليها منذ اجتياح 1978. وقد حاول جورج شولتز عام 1988 عقد مؤتمر للسلام في الشرق الاوسط وأظهر من خلال خطته هذه رغبة جانبية بلبنان اذ اسهم هو ومعاونوه في المباحثات القائمة بين لبنان وسورية من اجل التوصل الى وفاق وطني وانتخاب رئيس جديد للجمهورية. ولكن عملية السلام تعرقلت ولم تعد الى الواجهة الا بعد سنتين عندما اجتاح العراق الكويت وبدأت عملية السلام الجديدة بعد تحرير الكويت برعاية وزير الخارجية جيمس بيكر وهي مستمرة الآن بدعم اميركي وروسي، ولكن اسرائيل ما زالت في الجنوب اللبناني، ولم يزل الجنوب عرضة لغارات اسرائيلية، ولم يزل الشعب اللبناني في الجنوب يعاني الدمار والخراب والهجرة. وقد تكون عملية السلام طويلة، وقد يكون الدور الاميركي عرضة لتقلبات داخلية في اميركا.
ويصعب عليّ، استناداً الى المعطيات القائمة الآن، ان اجزم بأن الانسحاب الاسرائيلي سيتم في وقت محدد في المستقبل. ولكن امكانات النجاح الآن أقوى مما كانت عام 1982، وذلك بسبب قيام مفاوضات سلام عربية - اسرائيلية. وعلى رغم ان اسرائيل تعلن أن لا مطامع لها في أرض لبنان فمن حقنا ان نخشى من استمرار وجودها في الجنوب. ولذلك فان العمل المستمر لاخراج اسرائيل من لبنان هو في طليعة اولويات السياسة الخارجية اللبنانية. فبقاء اسرائيل في الجنوب اللبناني لا بد ان يخلق واقعاً جديداً على الأرض ويغير في المنحى السياسي في الجنوب ويمكنه من خلال وجوده في تلك المنطقة ان يتدخل في التركيبة اللبنانية ككل. فمستقبل الاستقرار في لبنان يتوقف الى حد كبير على مستقبل مباحثات السلام وعلى المواقف الاقليمية منها.
الفلسطينيون والتوطين
كان الاجتياح الاسرائيلي سنة 1982 يهدف الى تدمير هيكلية منظمة التحرير الفلسطينية والى ابعاد المقاتلين الفلسطينيين عن لبنان وتأمين قيام حكومة لبنانية متعاونة مع اسرائيل برئاسة بشير الجميل. وبعد بضعة اسابيع من دخول اسرائيل الى لبنان ومحاصرة بيروت لارغام المقاتلين الفلسطينيين للخروج منها توصل فيليب حبيب الى اتفاق سري - من تسع نقاط - بين لبنان واسرائيل ومنظمة التحرير، يؤمن انسحاب كل المقاتلين الفلسطينيين من بيروت الى خارج لبنان ودخول الجيش اللبناني الى بيروت لتثبيت الامن فيها. وبناء على طلب ياسر عرفات تجاوبت الدول الغربية وأرسلت القوة المتعددة الجنسيات لضمان امن المقاتلين الفلسطينيين في عملية انسحابهم من بيروت الى الخارج. وفي خريف 1982 غادر المقاتلون الفلسطينيون لبنان الى دول عربية عدة وانتقلت قيادة منظمة التحرير مع كوادرها من بيروت الى تونس. لكن التطورات وتغيير الأجواء السياسية داخل البلاد أدت منذ عام 1985 الى عودة عدد كبير من المقاتلين الفلسطينيين الى بيروت والى مناطق اخرى من لبنان. ومن غرابة السياسة اللبنانية ان رجوع هؤلاء المقاتلين كان بمساعدة "القوات اللبنانية التي كانت في حالة حرب معهم منذ بداية الحرب اللبنانية. ويتبين الآن أن منظمة التحرير استعادت بعض قوتها ونفوذها في لبنان على رغم ان قيادتها وكوادرها لم تزل موجودة في تونس. فالمشكلة الفلسطينية في لبنان لا تزال قائمة. ومع ان الفلسطينيين لا يشكلون الآن قوة فاعلة على الأرض فان المقاتلين الفلسطينيين موجودون بكثرة في المخيمات وقادرون على لعب دور ما حسب التوازنات والمعادلات المرتقبة.
واسرائيل التي كانت تهدف الى الغاء منظمة التحرير والى حل المشكلة الفلسطينية على طريقتها من دون الاعتراف بحق الفلسطينيين بأرضهم تتفاوض اليوم مع ممثلين لهم للتوصل الى اتفاق يضمن لهم بعض الحقوق السياسية وربما حق اقامة دولة في نظام سياسي متفق عليه مع الأطراف المعنية. وعلى رغم ان المشكلة الفلسطينية في لبنان ليست الآن موضوع بحث فهي لم تزل حية في وضع سياسي اجتماعي معقد يصعب تصور حله الآن. ويتمنى اللبنانيون بأن يوفق الفلسطينيون بالتوصل الى انشاء دولة فلسطينية مستقلة يعود اليها اللاجئون الفلسطينيون أو على الأقل يحمل هويتها كل فلسطيني مقيم خارج فلسطين. فلا لبنان ولا أية دولة عربية اخرى مهيئة لمواجهة فكرة التوطين التي هي بالأساس فكرة اسرائيلية يغذيها الموقف الصهيوني المتصلب. فالتوطين بالنسبة الى لبنان يعني تحدياً جديداً للمعادلة السياسية القائمة وهذا التحدي لا يمكن للبلد ان يواجهه او يتحمله من دون هزات كبرى.
سورية والعلاقات المميزة
عندما تألفت حكومتنا سنة 1982 برئاسة شفيق الوزان كان الجيش السوري انهى السنة السادسة لوجوده على الأراضي اللبنانية اذ دخل سنة 1976 لتأمين توازنات معينة ولمواجهة أي خطر على الأمن السوري من تفاقم الفوضى في لبنان. ويمكن لأي مدقق في الوضعية الجيوستراتيجية لمدينة دمشق ان يتفهم قلق الحكومة السورية على التطورات والتحركات السياسية والعسكرية، سواء في جبل لبنان أو في وادي البقاع. فمن الطبيعي، من منظور حماية الأمن السوري، أن تعطي دمشق أولوية لما يجري في جوارها اللبناني وأن تتعاطى مع أية وضعية في المنطقة بشكل يؤمن مصالحها وبالأخص أمنها الداخلي والعسكري.
وعندما اجتاحت اسرائيل الأراضي اللبنانية سنة 1982 حصلت معارك عدة بين الجيش الاسرائيلي والقوات السورية المنتشرة في لبنان. وبعد مفاوضات طويلة وافق الرئيس الأسد على سحب قواته من بيروت شرط أن لا تدخل القوات الاسرائيلية العاصمة اللبنانية، وقد أعطى المبعوث الاميركي السفير فيليب حبيب وعداً بذلك. وعندما دخل الجيش الاسرائيلي بيروت خلافاً لهذا التعهد غضب الرئيس الأسد واعتبر أن السفير حبيب خدعه، ورفض منذ ذاك التاريخ مقابلته والتعامل معه. وقد أسرّ اليّ السفير حبيب في وقت لاحق بأنه حصل على وعد أكيد من رئيس الوزراء الاسرائيلي مناحيم بيغن ومن شارون بعدم دخول الجيش الاسرائيلي الى بيروت وبأن القائدين الاسرائيليين خدعاه وأخلاّ بالوعد، وهكذا افشلا مهمته كوسيط موثوق في الأزمة اللبنانية. وقال لي حبيب: "لقد خسرت مصداقيتي مع الرئيس الأسد ويجب ان أترك هذه المهمة لغيري. لقد كذب عليّ الاسرائيليون اما أنا فلم أكذب على الرئيس الأسد. لقد وعدته بما سمعت منهم".
لم تعارض سورية البدء بمباحثات لبنانية - اسرائيلية - اميركية. وعندما كنا نبحث مع الرئيس الأسد مضمون المباحثات اللبنانية - الاسرائيلية - الأميركية كان دائماً يقول لنا أن على اسرائيل ان تنسحب حسب قرارات مجلس الأمن وبالأخص القرار 425 من دون تحقيق أية مكاسب. وقبيل عقد اتفاق 17 أيار مايو 1983 بعث الرئيس الأسد الى الرئيس الجميل برسالة سرية يقول فيها أن سورية تعارض أي اتفاق مع اسرائيل يعطيها مكاسب لقاء اجتياحها الأراضي اللبنانية. وبدأ الاجماع اللبناني حول اتفاق 17 أيار مايو يتقلص منذ مطلع 1984 ويتقلص معه معه الالتزام الاميركي تجاه الاتفاق. وأخذ الدور السوري يتعاظم في البلد، خصوصاً بعد الانسحاب الاسرائيلي الجزئي وبعد انسحاب القوة المتعددة الجنسيات. وكانت سورية تطالب بتأليف حكومة وطنية تضم كل الفرقاء والتوصل الى اصلاح سياسي يوحد اللبنانيين وينهي الحرب بينهم. اما الاحتلال الاسرائيلي في جنوب لبنان فيجب مواجهته، حسب السياسة السورية، اما بالديبلوماسية او بالمقاومة أو من خلال الاثنين معاً.
بعد الغاء اتفاق 17 أيار مايو أخذت اميركا والدول الاوروبية، ومنها الفاتيكان، تعترف علناً بالدور السوري في لبنان وتنسق مع دمشق لتأمين سيادة واستقرار لبنان واستمرار نظامه الديموقراطي. وبينما كانت هذه الدول تعتبر سورية خطراً على لبنان في اوائل الثمانينات أخذت تعتبر في أواخر الثمانينات أن الوجود السوري في لبنان هو عامل استقرار وتعتبر أن لسورية مصالح مشروعة في لبنان. وقد أخذت السياسة السورية تتبدل بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وبدأت سورية تقوي علاقاتها مع الولايات المتحدة ومع أوروبا وازداد التنسيق السوري - الأميركي في الشؤون اللبنانية. وقد اعترفت جميع الفئات اللبنانية المتحاربة بأهمية اقامة علاقات مميزة بين لبنان وسورية على رغم ان هنالك بعض الاختلاف بالنسبة الى حجم العلاقات ومضمونها. وتبين ان اقامة علاقات صداقة محددة في اتفاقات وفي "شتى المجالات" هي من مصلحة الأمن والاستقرار في البلدين. ولا شك أن العلاقات بين البلدين ستكون محور اهتمام المسؤولين في سورية ولبنان في السنين المقبلة وموضع تقييم مستمر لتأمين العلاقات المميزة المنصوص عنها في وثيقة الوفاق الوطني، ضمن أطر الاستقلال والسيادة والتمايز الاقتصادي.
الدور الايراني
لم يكن لايران دور كبير نافذ في لبنان قبل 1982. وأدى الاجتياح الاسرائيلي والتغيرات التي واكبته الى دخول عدد من حراس الثورة الايرانيين من سورية الى سهل البقاع تحت حجة مقاومة الاحتلال الاسرائيلي. وجود الحرس الثوري في سورية وبالتالي في المناطق اللبنانية الخاضعة للنفوذ السوري هو حصيلة التحالف الاستراتيجي بين سورية وايران. وفي أوائل سنة 1983 ازداد عدد الايرانيين في لبنان حتى أصبح يضاهي الألف وما يزيد. وكانت ايران تسعى من خلال نفوذها في لبنان الى فتح جبهة سياسية - دينية ضد عدوها العراقي، وربما الى تحويل لبنان الى جمهورية اسلامية تكون حليفة طهران على مدخل المتوسط. وكان "حزب الله" في الثمانينات يهدف الى تغيير النظام في لبنان والى قيام جمهورية اسلامية فيه، وقد انتشر "حزب الله" في منتصف الثمانينات من بعلبك الى بيروت والى الجنوب وأصبح حركة شعبية مع ميليشيا منضبطة ايديولوجياً وأصبح للحركة نشاط اجتماعي وخدمات في مختلف الميادين. ويعتبر "حزب الله" الذي يجسد الوجود الايراني في لبنان حزباً راديكالياً يرفض المساومة والتفاوض ومباحثات السلام القائمة وربما الاتفاقات الناتجة عنها. وقد حصل "حزب الله" على دور مميز معترف به لبنانياً وسورياً من خلال مقاومته للاحتلال الاسرائيلي وتمكن من المحافظة على سلاحه بعد حل الميليشيات الاخرى وفقاً لاتفاق الطائف. ويمكن القول ان ايران اليوم متجذرة في العمق اللبناني وقد تضاهي سورية في المستقبل على النفوذ فيه. ولكن لسورية الحظ الاوفر في التأثير في المجتمع اللبناني، من خلال التلاصق الجغرافي بين البلدين ومن وجودها العسكري فيه ومن شبكة العلاقات والتحالفات الواسعة مع القيادات والأحزاب والحركات والمؤسسات في لبنان، فنفوذها من خلال هذه العلاقات أقوى من النفوذ الايراني. كما ان سورية تعتبر انها قادرة على احتواء النفوذ الايراني اذا تعدى الخطوط التي تعتبرها دمشق خطوطاً حمراء بالنسبة الى مصالحها الأمنية والاستراتيجية.
ولا شك أن لبنان يكبر ويزدهر بقيام علاقات دينية وحضارية مع دول اخرى لها علاقات دينية وحضارية مع مجموعات ضمن لبنان. ولكن لبنان قد يخسر استقلاله وكيانه اذا تحولت هذه العلاقات الى منافسات سياسية تخدم مصالح فئوية على حساب المصالح الوطنية العامة. وإذا تفردت كل طائفة في لبنان باعتناق مواقف سياسية من منظورها الطائفي فحسب فعندها يتجزأ لبنان الدولة الى دويلات ويتفكك من جديد كما تفكك او كاد خلال الحرب. وإذا كان الهدف المحافظة على لبنان فلا بد لايران وحزب الله من التوصل الى معادلة يتقبلها الفرقاء اللبنانيون والآخرون. وما اسهام "حزب الله" في الانتخابات النيابية التي جرت الصيف الماضي سوى مظهر من مظاهر استعداد الحزب للتكيف مع الأوضاع اللبنانية وربما لتعديل بعض مواقفه في ضوء مواقف الفئات الأخرى التي يتكون منها الوطن اللبناني.
الفشل الاميركي
في مطلع ايلول سبتمبر 1982 أعلن الرئيس ريغان مبادرة سياسية لحل قضية الشرق الأوسط. وكان حينذاك يعتبر حل الازمة اللبنانية مدخلاً لحل الازمة العربية - الاسرائيلية. وهكذا كانت الديبلوماسية الاميركية تسعى جادة لتأمين الانسحاب الاسرائيلي ومن بعده انسحاب كل القوات غير اللبنانية من لبنان. وكان لبنان بين 1982 و1984 يحتل مركزاً مهماً في أولويات السياسة الخارجية الاميركية. وقد استقدمت اميركا الى لبنان والى شرق البحر المتوسط قوة عسكرية كبيرة تحت مظلة القوة المتعددة الجنسيات حتى تعطي مصداقية لسياستها في لبنان. وأثار هذا الوجود العسكري الاميركي حفيظة سورية والاتحاد السوفياتي وإيران. وقد نجح هذا الثلاثي المعارض في احباط السياسة الاميركية وإرغام الاميركيين على الانسحاب عام 1984.
وفي الفترة بين 1984 و1987 تجاهلت اميركا لبنان وأخذ شولتز يعتبر لبنان منبراً للارهاب العالمي، لا بل وباء يجب تحاشيه. واعتبر انه غرق في "المستنقع اللبناني" كما غرقت اسرائيل من قبل، وتمنى في قرارة نفسه ان تغرق سورية هي أيضاً في هذا المستنقع وتفشل كما فشل هو.
وكانت وزارة الخارجية الاميركية في هذه المرحلة تعلن بين الفينة والاخرى أن سياستها نحو لبنان لم تتغير وهي تلخص كما يأتي "المحافظة على استقلال لبنان وسيادته ووحدة اراضيه وانسحاب جميع الجيوش الاجنبية منه". وانتقلت صياغة السياسة الاميركية تجاه لبنان من البيت الأبيض الى السفارة الاميركية في بيروت. وفي صيف 1987 اقنعنا شولتز بالاهتمام مجدداً بلبنان. لكن شولتز كان يعتبر اهتمامه الجديد في لبنان جزءا من اهتمامه الاكبر بعقد مؤتمر للسلام في الشرق الاوسط. ولكن جهود شولتز سنة 1987 للتوصل الى وثيقة وفاق وطني وجهوده سنة 1988 للتوصل الى اجماع يؤدي الى انتخاب رئيس جديد للبنان يخلف الرئيس أمين الجميل باءت بالفشل. وكانت هذه المحاولة الثانية في عهد الرئيس ريغان التي حاولت فيها اميركا تحقيق هدف ما في لبنان وفشلت.
اما مرحلة الحكومتين بين سنة 1988 و1990 - الحكومة التي كان يرأسها الدكتور سليم الحص والحكومة التي كان يرأسها العماد ميشال عون - فكانت مرحلة الاحباط الكامل للسياسة الاميركية في لبنان. لقد حاولت اميركا سنة 1982 ان تحل الازمة اللبنانية منفردة واعتبرت لبنان مدخلاً لحل قضية الشرق الاوسط. اما اليوم فأميركا لا تعطي لبنان الأهمية التي اعطته اياها في اوائل الثمانينات. فلبنان الديموقراطي هو طبعاً شيء مرغوب في اميركا، ولكنه ليس اولوية ولا يعتبر حيوياً للمصالح الاميركية ولا مدخلاً لحل قضية الشرق الاوسط.
هنالك طبعاً بعض التوافق بين السياسة الاميركية والمصالح اللبنانية. ومن مقومات هذا التوافق استمرار النظام الديموقراطي في لبنان وتأمين الاستقرار في المنطقة واحتواء الحركات الراديكالية وتنمية العلاقات التجارية والثقافية وتأمين شرعية جديدة لنظام الدول القائم في الشرق العربي.
اما مصلحة لبنان فتفرض عليه تقوية العلاقات اللبنانية - الاميركية التي نشأت منذ اربعة عقود، كما انه من المستحب لبنانياً ان نشجع اميركا على حل الازمات في منطقة الشرق الاوسط من خلال قرارات الامم المتحدة. ولا بد ان تكون اميركا تعلمت من خبرة الماضي ان التفرد في السياسة لا يؤدي دائماً الى النجاح المنشود وان لا بد من تعاون وتنسيق مع الدول المعنية بأمن الشرق الاوسط وسلامه.
الوفاق الوطني
موضوع الوفاق الوطني كان مطروحاً في الساحة اللبنانية منذ اندلاع الحرب في اواسط السبعينات، وحتى قبل اندلاع الحرب. وموضوع الاصلاح السياسي كان بالفعل احد اسباب اندلاع الحرب، وسواء كان الاصلاح سبباً لاندلاع الحرب أو لم يكن، فقد أصبح منذ اندلاع الحرب العامل الأساسي ومحور اهتمام الفرقاء المتحاربين كلهم وبات واضحاً ان الحرب اللبنانية لن تنتهي من دون اتفاق شامل على الاصلاح السياسي.
لقد جرت محاولات عدة في عهود الرؤساء سليمان فرنجية والياس سركيس وأمين الجميل للتوصل الى وثيقة موحدة للوفاق الوطني، لكن هذه المحاولات لم تنجح الا في خريف 1989 حين اتفق النواب اللبنانيون على وثيقة الوفاق الوطني في الطائف وهي التي عرفت باسم "اتفاق الطائف". والآن وفي أواخر 1992 تم تنفيذ عدد كبير من بنود وثيقة الوفاق الوطني على رغم ان هنالك معارضة ليس للوثيقة كوثيقة انما لأسلوب تنفيذها. فوثيقة الوفاق الوطني، كالوثائق التي طرحت للبحث خلال الحرب، هي وثيقة توفيقية تراعي التطرف، سواء كان يمينياً أو يسارياً. والمجتمعات التعددية، كالمجتمع اللبناني، لا يمكن ان تحكم الا من خلال وثائق توفيقية لا ومن خلال اجماع يجمع القواسم المشتركة بين جميع الفرقاء. كما ان لوثيقة الوفاق الوطني ناحية اقليمية يجب مراعاتها في كل الظروف اذ ان التطورات الاقليمية لا بد أن تؤثر على مسيرة الوفاق وبالتالي على مسار وثيقة الوفاق شكلاً ومضموناً.
ويتبين من ذلك كله ان القضايا الست متداخلة ببعضها بعضاً. وقد اصبح من الواضح ان سورية الحريصة على امنها من خلال لبنان وعلى مراقبة جميع اللاعبين الاقليميين على الساحة اللبنانية اصبحت القوة الفاعلة في لبنان فأمّنت سلاماً لبنانياً تحت اشرافها وأصبح دورها في لبنان دوراً محورياً تراجع فيه في كل القضايا المصيرية المتعلقة بلبنان ومستقبله. والتحدي الذي يواجه سورية الآن، كما يواجه لبنان، هو اقامة علاقات مستمرة تخدم مصلحة البلدين. اما الدور الاميركي في لبنان فتقلص لأسباب عدة. وعلى رغم ان اميركا فشلت في لبنان فهي لم تزل تتمتع بصورة جيدة لأنها الدولة العظمى الوحيدة في العالم ولأنها، باعتراف جميع اللبنانيين، اللاعب الاكبر في التطورات الاقليمية التي تؤثر الى حد بعيد على التطورات الاقليمية وبالتالي على أنظمة الحكم في المنطقة. اما الفلسطينيون فقد أصبح تحركهم في لبنان محدوداً ومحكوماً بعلاقاتهم الاميركية وبالنفوذ السوري في لبنان، ويهمهم ان يراعوا السياسة السورية حتى يؤمنوا استمرار مباحثات السلام وتحقيق بعض اهدافهم الوطنية من خلالها.
عندما سألت السيد ياسر عرفات سنة 1984: "متى وكيف ستنسحبون من لبنان؟" أجاب "سأخرج من لبنان مع القافلة السورية المتوجهة من بيروت الى دمشق. وسأحتل في هذه القافلة مركزاً متواضعاً في مؤخرتها". وهدف منظمة التحرير الآن هو أن تبقى بعيدة عن الأضواء وعن التحديات وعن أي تحرك في لبنان قد يؤثر سلباً على مسار مفاوضاتها مع الاسرائيليين. واسرائيل اسحق رابين أيضاً لا تريد ان تتورط في لبنان حتى تحافظ على العلاقات الدقيقة القائمة بينها وبين الولايات المتحدة. وعلى رغم انها تصرح بلسان المسؤولين فيها بأن لا اهداف توسعية لها في لبنان فهي لم تزل موجودة في "الشريط الحدودي" ولم تزل طائراتها الحربية تحلق في اجواء لبنان وتقصف بشكل مستمر القرى اللبنانية المجاورة "للشريط الحدودي" تحت ستار حماية أمن شمال اسرائيل.
أما النفوذ الايراني في لبنان فقد ازداد أضعافاً منذ سنة 1982. والتحدي الذي يواجه العلاقات اللبنانية - الايرانية يتعلق بمدى قدرة ايران على التكيف مع الواقع اللبناني واحترام الغير والقبول به والتحاور معه لبناء وطن يستمر العيش المشترك فيه ويزدهر.
وعلى رغم ان التطورات الاقليمية والدولية ايجابية بالنسبة الى مستقبل لبنان فلا يزال هذا البلد الصغير يواجه اخطاراً كبيرة، ذلك لأن اللحمة المرتقبة في الداخل لم تحصل بعد ولأن مستقبل المنطقة ككل هو الآن موضع بحث، وقد يكون هذا المستقبل على حساب لبنان اذ انه الحلقة الأضعف في النظام الاقليمي القائم.
ويبقى امام اللبنانيين القرار الناتج عن الثقة بالنفس بأن البلد باق وبأنه نهائي كما تنص وثيقة الوفاق الوطني، وبأن المسؤولية لبقاء الوطن او زواله هي أساساً مسؤولية لبنانية ولا يجوز في التقلبات التاريخية الكبرى ان يتنصّل شعب من مسؤوليته ويلقيها على عاتق الغير. فالمأزق القائم في لبنان الآن هو أيضاً بمثابة فرصة امام اللبنانيين ليعيدوا النظر في ما حلّ بهم ويرسموا بوضوح الخطوط العريضة للبنان الذي يريدون ويفكروا ويعملوا في ضوء هذه الخطوط.
* نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية اللبناني السابق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.