"مشكلتي واحدة وهي اين احصل على الخبز. فهو دائماً غير متوافر تماماً، ويمكن الوقوف في الصف بضع ساعات، وعندما يأتي دورك يكون قد انتهى"! هذا ما قاله مسن من تبيليسي، عاصمة جورجيا، الجمهورية السوفياتية السابقة التي استقلت من سنتين. فالخبز كاد ان يصبح لكثيرين من سكان المدينة المادة الغذائية الوحيدة. ويمكن فهم احباط هذا الشيخ المسن. وتمتلئ العاصمة بشائعات تقول ان المافيا المحلية تشتري الخبز من الافران مباشرة، وتنقله للبيع الى ارمينيا واذربيجان المجاورتين اللتين تعانيان هما ايضاً من صعوبات تموينية خطرة. ولا تستطيع الشرطة مواجهة هذا الوضع، بل ربما كانت طرفاً في هذه التجارة... لكن الجورجيين يتذكرون الآن ان جمهوريتهم كانت أيام الاتحاد السوفياتي من اغنى جمهورياته، لذلك بدأت فكرة الاستقلال نفسها تفقد جاذبيتها. ولم يبق من اثر للكرم الجورجي الشهير. ففي الدولة التي لا عمل لها تقريباً وانهار اقتصادها بكامله، تقوم امام المواطنين مهمة واحدة هي البقاء على قيد الحياة. اذ يشكل متوسط الاجر الشهري اليوم 30 الف قسيمة محلية القيت في التداول بدلاً من الروبلات السوفياتية. لكن الكيلوغرام الواحد من اللحم يساوي 50 الف قسيمة، ومن الجبنة حتى 100 الف قسيمة، ومن البطاطا 8 - 12 الفاً. ومع ذلك لا يجد المواطن في محلات البيع التابعة للدولة هذه الاشياء. اما في السوق الحرة فتجد كل شيء، من الفواكه الاجنبية الغريبة حتى الواقي من الحمل. لكن اسعار كل ذلك، طبعاً، لا يتصورها الخيال. وشكا مهندس في الخامسة والثلاثين من عمره تحدثت اليه "الوسط" في شارع روستافيلي الرئيسي في تبيليسي قائلاً: "ان كل شيء في يد المافيا، واكثرية الناس جائعة ببساطة، لكن هناك ايضاً من يفيد من الازمة الحالية". المافيا تتقاسم المدينة ولا يعرف من يمسك بالسلطة في هذه المدينة الآن. فقبل الغروب يغلق السكان ابواب بيوتهم على انفسهم ويصيخون السمع الى صوت الطلقات النارية التي تدوي بين الحين والآخر. وليس واضحاً من يطلق النار على من. لكن احداً لا يريد ان تصيبه رصاصة في رأسه. واوضح ل "الوسط" ضابط في الشرطة طلب عدم ذكر اسمه: "ان عصابات المافيا تتقاسم المدينة مناطق نفوذ، وقواتنا عديدها قليل ولا نستطيع ان نمنعها". ويتمركز الفريق الاكبر من شرطة العاصمة في جورجيا الغربية التي تكافح فيها كل العصابات الاجرامية العاملة في المناطق المحررة من قوى المعارضة. وعلى صعيد آخر، يصبح القتل وخطف الناس من اجل الحصول على فدية اكثر الجرائم انتشاراً الآن في جورجيا. وكثيراً ما تروع العصابات المواطنين فيجمعون من اجل حفظ حياتهم المبلغ المطلوب ويدفعونه من دون ان يخبروا الشرطة بذلك. وقد يتراوح مقدار الفدية بين 150 دولاراً الى 150 الفاً! ويذهب ضحية الخطف عادة الاطفال او افراد اسر اصحاب الملايين الجدد. وليس رصاص البنادق الرشاشة في الليالي وحده يذكر بأن تبيليسي عاصمة دولة تمزقها النزاعات المسلحة، فالمدينة مكتظة اليوم بمئة الف لاجئ من مناطق القتال في ابخازيا وجورجيا الغربية. وهؤلاء يستولون احياناً بالقوة على الشقق التي يقطن فيها مسنون وحيدون. ومع ان اكثرية الشقق لا تدفأ في هذا الشتاء بسبب نقص الوقود، فانها تبقى افضل من العراء. ويشبه الجزء المركزي من المدينة الذي بني قبل الف وخمسمائة سنة خلت، منطقة الضاحية الجنوبية من بيروت الشياح فقد دمرت في اثناء المعارك التي جرت اواخر سنة 1991 واوائل 1992، عندما حاولت المعارضة المسلحة اخراج الرئيس زفياد غامساخورديا من السرايا. ويبدو ان احداً لا يهتم باعادة تعمير هذا المكان. فالجمهورية تخوض منذ السنتين الاخيرتين بعد انفصالها عن الاتحاد السوفياتي، حرباً مستمرة، وليست لديها القوة اللازمة لاصلاح المباني وتدبير شؤون اللاجئين. كانت شعارات الاستقلال من بضع سنين خلت ترتفع من كل حدب وصوب، وكانت جورجيا تستعجل الخلاص من وصاية الاتحاد السوفياتي الذي كانت تعتبره امبراطورية. اما اليوم فاصبح صراع الطوائف السياسية الذي تحول حرباً اهلية، والتناقضات العرقية، ووجود مناطق عدة ذات ميول انفصالية، والانهيار الاقتصادي الكامل... من علاقات جورجيا المستقلة. ولهذا السبب قرر رئيس الجمهورية الحالي ادوارد شيفاردنادزه ضم بلاده الى رابطة الدول المستقلة التي قال عنها من امد قريب جداً ان ليس لها مستقبل! من الفتوحات العربية حتى بيريسترويكا كانت جورجيا دائماً بسبب موقعها الجيوستراتيجي الجيد في مدار نفوذ الامبراطوريات. فمن القرن السادس حتى العاشر حكمها الساسانيون الايرانيون والبيزنطيون والعرب. وفي القرن الثالث عشر غزت جحافل جنكيز خان الامارات الجورجية. ومن آخر القرن الثامن عشر راحت تدخل تدريجاً في نفوذ الامبراطورية الروسية المتزايدة قوة. وبموجب معاهدة 1783 بسطت روسيا حمايتها على جورجياالشرقية. وفي مطلع القرن التاسع عشر ضمت جورجيا الغربية ايضاً الى امبراطورية القيصر الروسي. وعلى اثر الثورة الشيوعية سنة 1917 نالت الاستقلال، لكنها في سنة 1921 ضمت بالقوة الى الاتحاد السوفياتي. وامضت جورجيا السنوات السبعين الاخيرة في "اسرة الشعوب السوفياتية الشقيقة"، ومع ان الحنين الى فترة الاستقلال التي لم تدم طويلاً لم يفارق الجورجيين قط فانهم في مآدبهم واجتماعاتهم العامرة كانوا دائماً يشربون نخب "الاتحاد السوفياتي العظيم" خوفاً من الاشتباه في نزعتهم الانفصالية. وفي السنوات الاولى من بيريسترويكا التي اطلقها ميخائيل غورباتشوف، زال الخوف من قول ما لا يقال في حياة جورجيا، لكن الانعطاف الجذري في وعي الناس كان في 9 نيسان ابريل 1989 عندما قمعت القوات السوفياتية تظاهرة سلمية وسط تبيليسي. واسفرت المجزرة عن مقتل 21 شخصاً واصابة المئات. وركب القوميون الجورجيون الموجة واصبح مطلب الاستقلال، بين عشية وضحاها، شعاراً وحّد كل صفوف الشعب. خلع الرئيس واخذ زفياد غامساخورديا على نفسه تجسيد فكرة الاستقلال الجورجي. وهو منشق معروف في الجمهورية تعرض لملاحقات جهاز الاستخبارات كي. جي. بي في سنوات الحكم السوفياتي، وكان اول سياسي في الاتحاد السوفياتي السابق تسنم سدة الحكم نتيجة انتخابات ديموقراطية حرة في ايار مايو 1991. ووعد الشعب في برنامجه الانتخابي بالحريات المدنية وباقتصاد السوق، لكنه منذ الاشهر الاولى من حكمه اصبح يمارس الاضطهاد القاسي ضد خصومه السياسيين، وزج بالكثيرين من زعماء المعارضة في السجون وطبقت الرقابة على الصحف. اما الاصلاحات الاقتصادية فلا كلام عليها ولا من يحزنون. وظل غامساخورديا في الوقت نفسه كقومي متطرف، يعمل لتقليص العلاقات مع روسيا. وبنتيجة السياسة القمعية الداخلية والسياسة الخارجية غير البعيدة النظر، وجد نفسه في عزلة دولية. ولم يشأ الغرب ولا الاتحاد السوفياتي السابق اقامة اتصالات به. وكانت الصعوبات الاقتصادية تزيد من تفاقم هذه العزلة، لأن كل الوقود تقريباً والقسم الاكبر من المواد الغذائية كانا يأتيان الى بلاده في الماضي من روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة الاخرى. وفي ضوء تفاقم الوضع الاقتصادي في جورجيا، بدأت تتشكل معارضة لنظام غامساخورديا الذي وقف ضده ايضاً كثير من انصاره السابقين. وتعاظم التوتر السياسي الداخلي وتحول الى اشتباك مسلح في كانون الاول ديسمبر 1991. وحاصر زعماء التشكيلات المسلحة بالتحالف مع الاحزاب السياسية المعارضة الرئيس في السرايا في وسط تبيليسي، واستمرت المعارك الطاحنة في المدينة زهاء اسبوعين، واستعملت فيها راجمات الصواريخ والمدافع. واستطاعت المعارضة في النهاية اخراج غامساخورديا من مقره فهرب الى الجزء الغربي من الجمهورية، واصبحت جورجيا اول دولة في اراضي الاتحاد السوفياتي السابقة يسقط فيها بالقوة العسكرية نظام منتخب شرعاً. ولم يكن اختباء رئيس الدولة المغضوب عليه في الجزء الغربي من الجمهورية مصادفة. ففي ذلك الجزء يعيش الشعب الصغير المسمى بمنغريل الذي ينتمي اليه غامساخورديا. ويقول المنغريل عادة انهم جزء لا يتجزأ من الامة الجورجية لكنهم في الازمات ينعزلون على انفسهم ويعلنون انهم شعب على حدة. وهذا ما حدث في هذه المرة ايضاً، اذ شن الرئيس المخلوع الحرب على المعارضة المنتصرة مستنداً الى تأييد سكان ريف منغريليا. نتيجة الانعزال ويعتقد بعض المعلقين ان السبب الرئيسي لسقوط نظام غامساخورديا هو سياسته الانعزالية. فقد قال ل "الوسط" الصحافي الجورجي غيفي لوميدزه: "لقد تحدى بتوجهه نحو فصل جورجيا عن الامبراطورية الروسية، مجموعات متنفذة اولها المافيا التي خسرت سوق الاتحاد السوفياتي السابق، وثانيها مجموعة الحزبيين السابقين التي وجدت نفسها فجأة بلا عمل"... وهكذا، في الاندلاعة الاولى للحرب الاهلية، بدأت جورجيا تدرك مدى ارتباطها بروسيا وغيرها من جمهوريات "الاتحاد السوفياتي" الاخرى. اما غامساخورديا نفسه فعزا هزيمته الى "دسائس موسكو"، قال: "لقد ابيدت امبراطورية وهي الاتحاد السوفياتي، لكن الامبراطورية الثانية، وهي روسيا الفيديرالية باقية، ولا تريد ان تفقد جورجيا، لانها، في رأيها، من الصغر والفقر الى حد لن تستطيع العيش لوحدها، ولهذا يجب ان تبقى مقاطعة روسية". لقد قيض لي الاجتماع بغامساخورديا قبل انتخابه رئيساً. واستقبلني آنذاك في منزله الفخم الذي يشبه قصور القرون الوسطى. ولما عرف اني امثل صحيفة عربية، قال: "ان جورجيا عاشت مدة طويلة تحت سيطرة العرب، لكن مئتي سنة تقريباً من السيطرة الروسية كانت اكثر ارهاباً واشد تدميراً". نحات مجهول ولص معروف بعد اطاحة غامساخورديا انتقلت السلطة الى مجلس حربي كان الدور الرئيسي فيه لاثنين من الشخصيات غير المحببة، احداهما جابا يوسيلياني، الذي ترأس مجموعة "مخيد ريوني" "الفرسان" شبه العسكرية وكان في ايام شبابه ارتكب جرائم عدة وامضى سنوات في السجون. والثاني هو قائد الحرس القومي تنغيز كيتوفاني الذي كان في السابق نحاتاً، وان كان منذ سنوات شبابه - كما يقال - "من عظام الرقبة" في اوساط المافيا. وفي هذا الصدد، قال يوسيلياني مرة للصحافيين بعد خلع الرئيس الشرعي: "ان جورجيا يحكمها الآن شخصان: نحات لا يعرفه احد ولص يعرفه الجميع"! ولا داعي للقول ان هذه الصورة الاجرامية للقيادة الجورجية لم تساعد البتة في الاعتراف بالنظام الجديد. وكان المشبوهون الذين تسلموا السلطة في اشد الحاجة الى سياسي تكون سمعته في اعين المجتمع الدولي خالية من كل شائبة. بيليه جورجيا وقال يوسيلياني في هذا الصدد: "ان في فريقنا كثيرين من اللاعبين الموهوبين، ولكن في جورجيا لاعبها"بيليه" ايضاً الذي بواسطته سننتصر". والمقصود بهذا اللاعب ادوارد شيفاردنادزه الذي كان من 1972 الى 1985 زعيم الحزب الشيوعي في جورجيا وشغل في سنوات بيريسترويكا منصب وزير خارجية الاتحاد السوفياتي. وبعد غياب غورباتشوف عن المسرح السياسي وانفراط عقد الاتحاد السوفياتي، بقي شيفاردنادزه بلا عمل، وكانت متابعة حياته السياسية كشخصية اولى في جورجيا تتفق تماماً على ما يبدو، مع طموحاته. كانت دعودة شيفاردنادزه الذي قال لليونيد بريجنيف في احد المؤتمرات الحزبية "ان الشمس بالنسبة الى جورجيا لا تطلع من الشرق، بل من الشمال، من روسيا"، مثار آراء متضاربة في جورجيا التي كانت على حافة الانهيار. وكان كثيرون يؤمنون بأن العائد هو الرجل الوحيد الذي يستطيع وقف الانزلاق الى الهوة. "داعية السلام" على درب الحرب واجه ادوارد شيفاردنادزه منذ البداية مشاكل كبيرة وكان اكبرها مرتبطاً بضرورة السيطرة على التشكيلات شبه العسكرية الكثيرة التي لا تخضع للسلطات المركزية وتمارس صراحة تقريباً الاعمال اللصوصية. وكان الكثيرون في الجمهورية يتساءلون عن مدى تبعيته لكيتوفاني ويوسيلياني اللذين يمسكان بمفاتيح الحكم الفعلية، وهل هو مجرد واجهة لتحقيق مشاريع هذين الرجلين. فضلاً عن ذلك، ادت اعمال انصار الرئيس المخلوع غامساخورديا التخريبية المستمرة في جورجيا الغربية، الى قطع كل طرق المواصلات التي تأتي بواسطتها المواد الغذائية والوقود من روسيا الى جورجياالشرقية. ولمحاربة هؤلاء ارسلت الى جورجيا الغربية قطعات من الحرس القومي. لكن ظهورها هناك هو الذي وضع البداية لجولة جديدة من الحرب الاهلية التي لم تهدأ حتى الآن. بعد ضم جورجيا الى روسيا سنة 1921 انشئت في الجمهورية تشكيلات قومية عدة ذات حكم ذاتي، منها جمهورية ابخازيا. وبمقدار ما كانت جورجيا تعمل لنيل المزيد من الاستقلال عن الاتحاد السوفياتي، راحت ابخازيا بدورها تسعى الى الخلاص من وصاية جورجيا. وكانت قمة هذه التطورات الاصطدامات المسلحة التي وقعت في آب اغسطس من السنة الماضية عندما احتلت القوات الجورجية بالقتال مدينة سوخومي عاصمة ابخازيا. ولكن النزاع لم ينته عند هذا الحد، اذ قرر الاتحاد الكونفيديرالي لشعوب الجبال الذي يضم قوميات القوقاز الشمالي الاسلامية، ان يؤيد اقرباءه الابخازيين. وكانت لهذا الاتحاد الكونفيديرالي الذي يضع الخطط لانفصال مسلمي القوقاز الشمالي عن روسيا وانشاء دولة، مصلحته في هذه الحرب. ففي 1990 ذكرت مدينة سوخومي احدى اكبر مصايف الاتحاد السوفياتي السابق في مؤتمر هذه المنظمة كعاصمة للدولة المقبلة. وفي حال الانتصار على جورجيا يصبح للاتحاد الكونفيديرالي منفذ الى البحر، وتنفصل جورجيا تماماً عن روسيا بسلسلة من الجيوب الاسلامية. ولكن اضافة الى اهل الجبال المسلمين، كانت لطرف آخر ايضاً، هو روسيا، مصلحة في النزاع الجورجي - الابخازي. على الاقل، هذا ما يقال في تبيليسي. فطوال فترة العمليات القتالية في ابخازيا كانت تبيليسي الرسمية تعلن باستمرار ان مرتزقة من الروس يحاربون في صفوف الانفصاليين الابخازيين، ويستعملون المعدات الحربية الروسية. وكان ممثلو روسيا ينكرون هذه التهم ويصرون على ان قطاعات الجيش الروسي المرابطة في ابخازيا تلتزم الحياد الكامل. والحق انه ليست واضحة هوية الطائرات التي كانت تقصف مواقع القوات الجورجية بين فترة واخرى. فليست عند الابخازيين طائرات. ويؤكد زعماؤهم انهم لا يحاربون الا بالاسلحة التي يستولون عليها من الجورجيين. موسكو ... الامل الوحيد وضعت جورجيا وابخازيا كلتاهما اموراً كثيرة جداً على كف عفريت، فلا يمكنهما ان تستسلما. لكن قوة تبيليسي على مواصلة الحرب كانت تتضاءل، في ضوء اقتصادها المشلول. فقرر شيفاردنادزه استغلال نفوذه الدولي الذي اكتسبه عندما كان وزيراً لخارجية الاتحاد السوفياتي، فتوجه الى مقر قيادة حلف الناتو وقال ان جورجيا ترحب باشتراك هذا الحلف في عمليات لحفظ السلام في اراضي الجمهورية. وجيّر الناتو هذه الدعوة بلطف الى الاممالمتحدة. وكانت النتيجة ان كل مساعدات الغرب التي بذل شيفاردنادزه من اجلها الشيء الكثير في حينه، انحصرت بارسال معونة انسانية ومراقبين من المنظمة الدولية. وعندئذ فهمت تبيليسي ان الامل الوحيد هو موسكو عاصمة الامبراطورية السابقة. وجرت من جديد محادثات ابخازية - جورجية وتم التوصل الى اتفاق على الهدنة نصبت روسيا نفسها ضامنة له. لكن الانفصاليين اخلوا ثانية واستغلوا فرصة سحب القوات الجورجية من منطقة العمليات وحاصروا سوخومي. وعندما سقطت المدينة بعد حصار دام 11 يوماً اعلن شيفاردنادزه ان هذه هزيمة شخصية له. وعندما عاد الابخازيون الى سوخومي، شرعوا فوراً بالتطهير العرقي، وتوجه الالوف من النازحين الجورجيين نحو المعابر الجبلية المجللة بالثلوج هرباً من جحيم الحرب. وانهارت معنويات القوات المسلحة الجورجية بنتيجة الهزيمة. وقال شيفاردنادزه: "ان عملية الاستيلاء على سوخومي وضعت في مقرات القيادة العسكرية الروسية". وبعد ان كان في اثناء حصار المدينة يتحدث عن ضرورة انضمام جورجيا الى رابطة الدول المستقلة اصبح بعد سقوط سوخومي يرفض هذه الفكرة. ولكن على اثر الهزيمة في ابخازيا نزلت بشيفاردنادزه ضربة جديدة اذ نشط في جورجيا الغربية انصار الرئيس السابق غامساخورديا الذين اعلنوا عزمهم على القيام بحملة على تبيليسي، فعاد الزعيم الجورجي الى توجيه انظاره الى رابطة الدول المستقلة. وكلفه هذا القرار مشقة وأثار عاصفة من الاستياء في البرلمان. وقال: "ان جورجيا لم تستطع التكامل مع المجتمع الدولي، وروسيا هي فرصتها الاخيرة للبقاء". ويعتقد بعض المعلقين ان ما اثر في قرار شيفاردنادزه للتقارب مع روسيا هو احداث 3 - 4 تشرين الاول اكتوبر في موسكو، عندما سحق الرئيس بوريس يلتسن المعارضة المسلحة. وقال في هذا الصدد: "كان لي في موسكو قبل هذه الاحداث اعداء اكثر. اما الآن فأظن انهم اصبحوا اقل". ان روسيا تقدم المساعدة الى جورجيا اليوم بحماية طرق المواصلات في الجزء الغربي من الجمهورية. ومع انه كانت للجيش الروسي حساباته مع شيفاردنادزه، فقد انصاع بافيل غراتشوف لقرار يلتسن. استقلال في احضان موسكو! وعلى رغم ان العسكريين الروس يقولون انهم لا يتدخلون في حرب اهلية غريبة عنهم، زادت القوة الهجومية للقوات الحكومية الجورجية في الفترة الاخيرة زيادة ملحوظة حتى اصبح ممكناً عملياً الآن الحديث عن سحق مقاومة انصار الرئيس السابق المنظمة. لكن هذا لا يعني البتة ان السلام والهدوء سيعمان جورجيا قريباً. ففي رأي المراقبين ان المتمردين في جورجيا الغربية سينتقلون، على الارجح، الى تكتيك حرب العصابات او سيحاولون التربص باراضي ابخازيا. اضافة الى ان حشود القوات الجورجية التي تلاحظ في الفترة الاخيرة عند حدود ابخازيا، تبعث على الظن ان شيفاردنادزه قد تسول له نفسه مرة اخرى اعادة هذا الكيان ذي الحكم الذاتي الى جورجيا بقوة السلاح. والآن، وقد استطاع شيفاردنادزه القضاء على مقاومة انصار غامساخورديا، بات يواجه خطراً آخر قد لا يقل عن هذا، وهو خطر الانفجار الاجتماعي الذي يمهد له التربة ثمانون في المئة من المصانع المتوقفة وحوالي 160 الف عاطل عن العمل والتدهور الكارثي لمستوى المعيشة. وبما ان جورجيا مرتبطة كلياً باستيراد الوقود، فان اهالي تبيليسي يتهددهم شتاء بارد ثالث على التوالي. ولم يبتسم الحظ لهذه الجمهورية، ذلك ان قسماً كبيراً من موسم الحبوب ذهب هدراً بسبب نقص الوقود اللازم للآلات الزراعية، وتسري في تبيليسي اليوم شائعات ان الخبز سيوزع بالبطاقات التموينية. فهل يعني هذا ان البلاد ستطلب المساعدة الاقتصادية ايضاً من الامبراطورية السابقة؟ تدخلت روسيا في الحرب الاهلية في جورجيا لأن استمرار عدم الاستقرار في هذه الجمهورية يهدد بأحداث انفجار في كل منطقة القوقاز. اما شيفاردنازده فيحاول، باقامته اتصالات مع رابطة الدول المستقلة، ان ينقذ بلاده من الدمار الشامل. وكل هذا يثير هواجس محزنة، ذلك ان جورجيا اذا لم تستطع ان تعرض على العالم شيئاً غير الشاي المتوسط النوعية والحمضيات التي لا تقوى على المنافسة في السوق العالمية، فان فرص استقلالها الكامل تبدو وهمية الى حد كبير.