في الموسم الماضي، عادت رتيبة الحفني للوقوف على الخشبة في القاهرة، مؤدية مرة أخرى دور فيولييتا، غادة الكاميليا، في أوبرا فيردي الشهيرة "لاترافياتا". ومسيرة هذه الفنانة المصرية، حافلة بالمحطات، غنية بالعطاء. فهي أول وأبرز مغنية أوبرا في العالم العربي. نشأت في بيت تحتل فيه الموسيقى موقع الصدارة ودرست في معاهد عالمية، وما زالت حاضرة في الحياة الثقافية المصرية بعد عقود من الكفاح من أجل بث حب الموسيقى وخدمة الفن كمربية، مبدعة وكاتبة... من خلال هذا الحوار، تساهم "الوسط" على طريقتها، في تكريم هذه "الفنانة الشاملة"، التي يندر أن نقع على مثيلاتها في العالم العربي. رتيبة الحفني مبدعة متعددة المواهب والوجوه، حتى ليحار المرء من أين يبدأ في محاورتها، وكيف يتناول هذه الشخصية الفذة التي تشرق على الساحة الفنية المصرية والعربية منذ عقود. فهي عازفة البيانو، ضاربة العود، استاذة معهد الموسيقى... وهي السوبرانو العالمية، التي أبهرت الجميع في "الارملة الطروب" بناء على طلب الرئيس عبد الناصر، وهي أخيراً أول رئيسة لدار "الاوبرا المصرية" الجديدة. والفنانة، التي تشغل حالياً منصب "مستشار الشؤون الفنية" لرئيس الهيئة العليا التي تشمل الاوبرا، تعيش حالة شباب دائم وتكاد لا تهدأ أو تعرف استراحة. فهي تعد كتباً موسيقية، وتعمل على احياء ذكرى ومنجزات والدها الموسيقي الكبير محمود أحمد الحفني، كما تفكر في تسجيل حياتها على أشرطة كاسيت. ومع ذلك، فقد وجدت رتيبة الحفني صاحبة الموهبة والمناصب، وقتاً تكرسه لهذا الحوار مع "الوسط". فاذا بها تنساب في حديث الذكريات، متوقفة عند كل المحطات والتجارب الكبرى في حياتها. وهذا هو نص الحوار: كيف اقترنت حياتك بالموسيقى، وامتدت هذه العلاقة الحميمة، على ما هي عليه، عبر كل هذه السنوات؟ هل يعود الفضل الاول الى الوالد الموسيقي، الى الام الموسيقية، أم الى "شجون كبرى" تخللت سيرتك الحميمة؟ - نشأت، كما تعرف، في أسرة موسيقية. فالوالد المرحوم الدكتور محمود أحمد الحفني هو أول من درس الموسيقى في جامعة برلين، وحصل على شهادة دكتوراه في تاريخ الموسيقى والفلسفة. وفي برلين تزوج الوالد من فتاة المانية تنتمي الى أسرة موسيقية أيضاً. إنها أمّي، وكان الطالب الشاب محمود أحمد الحفني يسكن غرفة بالايجار في بيتها العائلي، طوال دراسته هناك بعد الحرب العالمية الاولى. جدّتي لأمي مغنية أوبرا هي الاخرى، وشقيقها - خالي - وضع دراسة لافتة في الموسيقى العربية و"فن المقامات". تربية صارمة أسرتي برافديها موسيقية إذاً، ومن الطبيعي ان ينشأ الاطفال في أحضانها، مفطورين على الفن. أذكر أنني وأنا طفلة صغيرة، كنت أخضع لتربية صارمة وأعيش على "النظام الالماني"، ومن مقوماته النوم المبكر للاطفال. بعد الذهاب بي الى الفراش، كان والداي يبدآن بالعزف: هو على آلة الفلوت وهي على البيانو الذي تتقنه بمهارة. وكنت أنا أتظاهر بالنوم بعض الوقت، الى أن يغلبني النعاس فعلاً، بعد أن أنال قسطاً وافراً من متعة الاستماع الى هذه الموسيقى. وفي سن الخامسة، بدأت أتلقى دروساً في العزف على البيانو. أنا أصغر من شقيقتي، وبالتالي فقد بدأتا دراسة الموسيقى قبلي، وأول أستاذة لنا هي أمي. كان منظرنا مؤثراً حين نخرج الواحدة بعد الاخرى من الدرس، وأعيننا مغرورقة بالدموع. فأمي كانت قاسية، تفتقر الى الصبر اللازم للتعليم. ومن هنا اقتنعت بضرورة تجنب قيام الاهل بتعليم أولادهم مباشرة فن العزف. هناك استثناءات طبعاً، بينها حالة رمزي يس، العازف المصري العالمي الشهير على آلة البيانو، فقد استطاعت أمه أن تبدأ معه دروس العزف. أما والدتنا، فسرعان ما اضطرت للّجوء الى أستاذ بيانو هو هانز هيكمن، الذي أسلم بعد ذلك فأصبح اسمه حسن حكمت. لاستاذي هذا تاريخ موسيقي عريق في مصر، بالاضافة الى كفاءته العالية كأستاذ. علمنا العزف على البيانو، وتفوقت سريعاً على شقيقتي. الاخت الاكبر - رحمها الله - لم يكن يهمها البيانو كثيراً، وأصبحت مهندسة في ما بعد. أما الاخت الوسطى، فكان لديها بعض الطموح الموسيقي، لكنها أصبحت طبيبة بعد ان اتجهت قليلاً الى آلة الكمان. كنت أحلم أيضاً أن أصبح طبيبة، كي أرتدي ال "بالطو" الابيض وأدخل حياة العائلات لتخفيف الآلام عنهم. لكن حياتي اتخذت منحى ختلفاً. فالاستاذ حسن حكمت أقنع أسرتي بأنني خلقت للموسيقى، وبأنه ينبغي إلحاقي بالمرحلة الثانوية في "المعهد العالي للموسيقى"، وكانت عميدته يومها هي زوجته الدكتورة بريجيت شيفر. هكذا دخلت المعهد حزينة لأنني كنت أرغب في دراسة الطب. لكن ما هي إلا أشهر ثلاثة حتّى اندمجت، ووجدت أنني فعلاً في مكاني الطبيعي، وأن الفن هو رسالتي العميقة. بالاضافة الى دراستي في "معهد الموسيقى"، رحت آنذاك أمارس أنواع الرياضة المختلفة ككرة الطاولة وكرة السلة، كما اشتركت في مباريات عدة. وفي وقت الفراغ المتبقي كنت أتمرن على فن النحت على يد فنانين بارزين. الحظ كان دائماً بجانبي في بداية التحاقي بالمعهد الذي أسسه والدي، كان ينظر إليّ باعتباري ابنة الدكتور الحفني، وكان هذا يؤلمني. وكتبت لي أستاذة في "الاوتوغراف" كلمة لطيفة تقول "عندما التحقتِ بالمعهد، هرعنا معاً لرؤية ابنة الدكتور الحفني". بقدر ما أنا فخورة اليوم بكوني ابنة الدكتور الحفني، بقدر ما كانت هذه النظرة تؤلمني تلك الايام. إذ أنني كنت أريد اثبات وجودي دون اتكال على اسم الوالد ومكانته. وبعد وفاة والدي، وجدت بين محفوظاته رسائل تنتقده بشدة، مما جاء فيها مثلاً: "تريد ان تفرض ابنتك علينا"، وتعبيرات أخرى كلها اجحاف وحقد وضغينة. هل لعبت المصادفة دورها هنا، مع أنك تنفين محاولتك الاتكال على نفوذ الوالد؟ - الحظ وقف الى جانبي باستمرار. ففي الخامس ثانوي، كنت الاولى والاخيرة في "امتحان الثقافة"، ذلك أنني كنت التلميذة الوحيدة في الصف. كنا تسع فتيات حين التحقنا بالمرحلة الثانوية، ثم تسربت الفتيات سنة وراء أخرى حتى بقيت وحدي في السنة الخامسة. وكان تبقى لي سنة سادسة في المرحلة الثانوية يتم خلالها تحضير "امتحان التوجيهية". غير أنه لم يكن ممكناً تخصيص صف لطالبة واحدة طوال العام، ثم طوال أربع سنوات لاحقة هي مدة الدراسة العليا. فقرر المعهد ارسالي في بعثة الى الخارج، ولكنه اصطدم بمشكلة سني، فكيف تسافر فتاة صغيرة الى أوروبا وحدها؟ عندها اقترحت الادارة إلحاقي بدفعة سبقتني، فلم تجد إلا الدفعة الاعلى مني بثلاث سنوات، والحقوني بها بعد أن وقع والدي على تعهد بأن أحصل على شهادات التوجيهية قبل شهادة المعهد العالي. وهكذا كان، فأصبحت أصغر خريجة بسبب قفز السنوات. بعد تخرجي، عينت لمدة ستة أشهر في مدرسة "الحواياتي" الثانوية، وكان بين تلميذاتي الفنانة نادية لطفي التي تفتخر دائماً بأنني أستاذتها، كأنها تريد أن توحي أنني أكبرها في السن. لكنها تنسى أنني اختصرت سنوات دراسية كثيرة، وأنني قد أكون أكبر منها بسنة واحدة ليس إلا. ثم التحقت في "معهد الموسيقى" كمعيدة، وانتدبني "معهد الموسيقى العربية" العريق مشرفةً على قسم البنات الحر. وكان القسم المذكور يقبل طالبات لا تحملن شهادات، لكنه لا يمنح بالمقابل أية شهادة. والى جانب عملي، بذلت مجهوداً كبيراً منذ العام 1952 لتحويل هذا المعهد الى مؤسسة تربوية متكاملة المراحل. وقد أثمرت جهودي وألحقته بوزارة الثقافة، وهواليوم يمنح الماجستير والدكتوراه، بعد أن بات تابعاً لمعاهد أكاديمية الفنون. وبذلك أكون قضيت كمدرسة ومسؤولة في المعهد مدة 32 سنة. وأنا أعتبر هذا المعهد ابني البكر. لا أدّعي أنني أنشأت الفرع المدرسي في المعهد، لكنني تعهدت هذا الفرع منذ سنة 1952، وضممت إليه فرع البنين وطورت "معهد الموسيقى العربية" حتى أصبح جزءاً من أكاديمية الفنون. وبقيت عميدة للمعهد الى أن انتدبت للبيت الفني، ومنه انتقلت الى "دار الاوبرا" في ما بعد. وما هي الفرق الموسيقية والغنائية التي ساهمتِ في انشائها؟ - أعتبر هذه السيرة مشواراً شاقاً جداً بالنسبة لي، وأعتزّ بها جداً. في المعهد انشأت فرقة، قد لا يحب الاستاذ شفيق أبو عوف أن يسمع عنها. ف "فرقة أم كلثوم"، كان اسمها "فرقة المعهد العالي للموسيقى العربية"، وهذه ظهرت قبل "فرقة الموسيقى العربية"، وسافرت ومثلت مصر في "مهرجان الموسيقى الاندلسية" في الجزائر سنة 1966، وأصدرت تسجيلات وأسطوانات. وقد دعم ثروت عكاشة وزير الثقافة ذلك العهد، هذه الفرقة وشجعها على السفر الى الجزائر. بعد ذلك فكر عكاشة في انشاء "فرقة الموسيقى العربية" الكبيرة، التي اعتمدت على عناصر مهمة من فرقة المعهد الى جانب العمالقة الذين قامت عليهم. ثم بدأنا نتناوب الحفلات بين الفرقتين: "فرقة الموسيقى العربية" و"فرقة المعهد"، في عهد وزير الثقافة يوسف السباعي. ثم أصبحت فرقة المعهد تسمى فرقة "أم كلثوم". "فرقة أم كلثوم" من انجازاتي ويوسف السباعي هو الذي اقترح اطلاق اسم "أم كلثوم" على فرقة المعهد بعد وفاة كوكب الشرق، وتوليت أنا الاعلان عن هذه التسمية الجديدة. فرقة "ام كلثوم" من الانجازات التي اعتز بها. كما انني انشأت "فرقة الانشاد" مع المرحوم الشيخ نصر الدين طوبار، وكانت من المع الفرق التي أسست على أصولها دون آلات موسيقية. كيف أصبحت مغنية سوبرانو عالمية؟ - إنه المشوار الموازي في مسيرتي الفنية. فقد بدأت عازفة بيانو، ثم أتقنت وتعلمت العزف على آلة الكمان. إلا أن البيانو بقي يشدني أكثر. وعندما دخلت المعهد كان اتقان العزف على آلة العود اجبارياً الى جانب البيانو. فكان لي حظ كبير في أنني تتلمذت 3 سنوات على يد عازف العود الشهير محمد القصبجي. قبل القصبجي كان أستاذي هو عبد المنعم عرفة، وهو من الاسماء الكبيرة في العزف على العود. أما الغناء، فلم يكن حظي بعد بأقسام مستقلة، ولكن كان من الممكن الالتحاق بالحصص الخاصة به كمادة اضافية. كانت مغنية روسية كبيرة تتولى تدريسي، وأنا الشقية جداً الى جانب تفوقي، كنت أعاكسها وأنشّز كثيراً من باب المداعبة، مما راح يسبب لها ضيقاً وإزعاجاً. وصدف، عند التحاقي بالمعهد، ان تم الاتفاق مع هذه المدرسة الروسية، لتعليم مادة الغناء. وعندما تقدمت بطلب حضور حصصها الدراسية، رفضتني بحجة أنني "أنشّز"! غير أن مدرسة أخرى، إنكليزية هذه المرّة، جاءت الى المعهد قبل تخرجي بعامين، فالتحقت بفصلها وقبلتني على الفور. ذات مرّة تسنّى للمدرسة الروسية أن تسمعني أغنّي، فصعقت وأصبحنا أصدقاء... تخرجت إذاً كعازفة بيانو، ووصلت الى مرحلة تأدية كونشرتات وإحياء حفلات جماهيرية. ثم سافرت لاستكمال دراستي على البيانو في مدينة ميونخ الالمانية، وهناك كان يحق لي اختيار مادة إضافية فاخترت الغناء. وأنا على ثقة أنني ورثت موهبة الغناء عن جدتي التي كانت تتمتع بصوت مذهل. عندما استمعت إليّ لجنة الغناء في القاهرة، أصر أفرادها على أن يكون الغناء مادة أساسية بالنسبة الي، بينما بقيت أنا مصرّة على البيانو. غير أن المشرفين على دراستي في المانيا، وافقوا على اعتبار المادتين اساسيتين. وفي منتصف السنة الدراسية شدني الغناء أكثر، لذا عدت فطلبت أن يصبح البيانو هو المادة الاضافية. وأستطيع القول إنني كنت أول خريجة في الغناء الاوبرالي في مصر. وفي المانيا قمت بتدريبات ومشاهد ضمن إطار ما يعرف ب "استديو الاوبرا"، وحزت شهادة خاصة في الغناء الاوبرالي والعزف على البيانو. عندما قررت الذهاب للتخصص، كنت متزوجة وعندي طفلة عمرها سنة واحدة، فأخذتها معي الى المانيا. وكانت ابنة خالة والدتي تعيش في بلدة تبعد عن ميونيخ ثلاثة أرباع الساعة بالقطار، فسكنت عندها وأوكلت إليها أمر طفلتي الصغيرة، حتى أتمكن من التفرغ للدراسة. وذات يوم قرأت قريبة أمي التي تعيش في أوكسبورغ إعلاناً عن دراسة لتعليم الغناء للاطفال وقيادة الكورال، فما كان مني إلا أن التحقت بها في معهد اوكسبورغ. وعلى رغم أنه أقل مستوى من أكاديمية ميونيخ، فقد استفدت منه فنياً أكثر من افادتي في الاكاديمية. استاذي في الغناء هنا، لم يكن له اسم في عالم الغناء، بعكس استاذي في ميونخ، لكنه أخرج منّي امكانات مهمة. وحتى الآن، عندما يأتيني أي ثناء على "تكنيك" ادائي، ألاحظ أنه يتعلق بتقنيات أخذتها عن أستاذي لاوتن بخن، وهو لم يكن نجماً بارزاً في عالم الغناء، لكنه كان أستاذاً ومربياً من نوع نادر. كيف بدأت فعلياً الغناء، وما حكاية وقوفك أول مرّة على خشبة الاوبرا في "الارملة الطروب"؟ - عندما عدت من البعثة، لم افكر في المسرح. عدت للتدريس وللاشراف على "معهد الموسيقى العربية". وسلكت نهجاً عادياً، بل أنني كنت "فنانة كسلانة" ليس لها نشاط ولا احد يعرفها خارج حلقة ضيقة تهتم بعالم الفن وبأخبار معهد التربية الموسيقية. ذات يوم، فوجئت بزيارة إحدى مسؤولات "منظمة التضامن الافريقية-الآسيوية"، يرافقها الاديب يوسف السباعي. وطلبا مني الغناء في حفلة مقامة خصيصاً لأعضاء مؤتمر المنظمة. كنت وقتها على قناعة بأن جمهورنا لم يألف فن الغناء الأوبرالي ولا يقبله. ورفضت العرض، شارحة لزائريّ أنني لا أمانع في الوقوف أمام جمهور مهيّأ سلفاً للاستماع الى غناء أوبرالي، ولكنني أرفض حضور الاوبرا كفقرة ضمن حفل يضم أنواعاً أخرى من الغناء والموسيقى، وأخاف من سخرية الجمهور. وقلت إنني أرفض في أي حديث تلفزيوني أو إذاعي أن أؤدي نموذجاً من الغناء الاوبرالي، فهذا الغناء له مكانه وجمهوره واجواؤه... لكن السباعي ألحّ بشدة، فرضخت لطلبه. وصدف، خلال الامسية، وجود الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في القاعة، ومعه وزير الثقافة ثروت عكاشة. وكانت هناك نية لترجمة "الارملة الطروب" الى العربية وتمثيلها في دار الاوبرا، فسأل الرئيس عبد الناصر وزيرَه عكاشة عن الاوبريت، وعمّا إذا كان وجد الفنانة المناسبة للدور الرئيسي. ولمّا جاءه الرد بأن الاتصالات جارية مع مغنية اوبرا لبنانية في بيروت، أشار إلي عبد الناصر قائلاً: "أنا عايز دي". في اليوم التالي مباشرة، استدعاني ثروت عكاشة وعرض علي القيام ببطولة "الارملة الطروب". كان الامر بالنسبة الي، بمثابة تحقق حلم كبير، لكن أمي رفضت لأن "الاوبريت" أقل مستوى من الاوبرا. وكذلك فعل أبي، وزوجي الذي مانع، على الرغم من كونه موسيقياً، أن أظهر على خشبة المسرح. ورفضت أختي الطبيبة، معتبرة وقوفي على الخشبة احراجاً لزوجها وزير الصحة الدكتور نور الدين طراف الذي أصبح بعد ذلك رئيس الوزارة المركزية. ذهبت للدكتور ثروت عكاشة وصرحت له بموقف العائلة، فبادر بالاتصال هاتفياً بالدكتور نور الدين طراف وأطلعه على رغبة الرئيس عبد الناصر الشخصية في أن أقوم ببطولة هذه الاوبريت، فوافق الدكتور طراف ثم توالت موافقة سائر أفراد العائلة.لكن أمي اشترطت عليّ أن أغني قبل العرض "السيمفونية التاسعة" لبيتهوفن كي أثبت مقدرتي، بينما استمر زوجي على رفضه، ولم يوافق إلا بعد أن اتفقت مع الدكتور ثروت عكاشة على حذف المناظر الغرامية من الاوبريت. هكذا اقتصرت هذه المناظر في العرض على بعض النظرات وعلى لمسة يد. هل صادفت "الارملة الطروب" نجاحاً؟ - "الارملة الطروب" هو أول عمل لي، وقد استقبل بنجاح كبير. حكت لي فيوليت مقار أنها جاءت الى العرض بالاتوبيس وعند محطة الاوبرا صاح "الكمساري": "الاوبرا، "الارملة الطروب"، بطولة رتيبة الحفني! حد نازل؟". كما أن أم كلثوم اشادت بي، في أحد أحاديثها الصحفية ذلك الوقت. وكانت كل المقاعد محجوزة طوال فترة العرض التي استمرت 21 يوماً. ولن أنسى حين التقيت بالفنانة أمينة رزق في سوق الخضار في "باب اللوق"، ودخلنا الى "الفرارجي" ففوجئت بصاحب المحل يسألني: "الرواية الثانية إمتى؟". إعتبرت السؤال موجهاً لأمينة رزق، ولكنه قال: "لا، أنا بسأل سيادتك.. أنا دخلت "الارملة الطروب" أربع مرات". كانت أوبريت "الارملة الطروب" مبهرة، وفي أعلى قاعة العرض حدد سعر التذكرة بستة قروش، كي يتسنّى لعامة الشعب أن يحضروا هذا النوع من الاعمال. لست نادمة على الفرص الضائعة كيف بدأت الغناء في دور الاوبرا العالمية؟ - كانت لي صديقة هي مغنية أوبرا نمساوية، أقامت في القاهرة وكانت دائماً تلازمني. بعد قيامي ببطولة الارملة أعطاني الدكتور ثروت عكاشة، وله افضال كبيرة عليّ في حياتي، إجازة دراسية لثلاثة أشهر أقضيها مع أستاذي في المانيا لدراسة أوبرا "عايدة". فأمضيت أسبوعاً واحداً في المانيا، ثم سافرت الى فيينا لأقضي بقية المدة مع صديقتي النمساوية. وتصادف إذاعة جزء من شريط "الارملة الطروب" في تلفزيون فيينا، فالمخرج والمايسترو كانا من النمسا، وكان المخرج يتحدث عن العمل الذي أنجزه في القاهرة، مع مقتطفات من الاوبريت . ففوجئت بأن متعهد حفلات يسأل عني بعد الحديث، ليوقع معي عقداً مدته أربع سنوات في "أوبرا غراتس". وفي لحظة توقيع العقد، تجمّد قلمي إذ شعرت أنني سأبتعد عن الاسرة... فما كان إلا أن رفضت. وطرحت بالمقابل فكرة أخرى هي العمل كضيفة زائرة على مشاريع، بحيث أتمكن بعد كل عرض من العودة الى القاهرة. فوافق الطرف الآخر، وتكرر ذلك في ايطالياوالمانيا ودول أوروبية كثيرة، كنت أجيئها كمغنية زائرة. وبعد "طرد الخبراء السوفيات" من مصر أوائل السبعينات، بدأ تعامل دول أوروبا الشرقية معي يقلّ. فسافرت الى برلين الغربية للاشتراك في اختبار يضم عدداً كبيراً من المتقدمين. فاختاروني وطلبوا التعاقد معي، لكنني رفضت مجدداً بسبب الاسرة، وطلبت فقط ان اكون مغنية زائرة. لست نادمة على هذه الفرص الضائعة. فقد أخذت حقّي وأكثر، وتمثل مسيرتي كمغنية أوبرا خطاً جميلاً متواصلاً. ولو أن حياتي الفنية اقتصرت على الاحتراف كمغنية اوبرا في اوروبا، لما كنت رتيبة الحفني التي تعرفها مصر ويعرفها العالم العربي. لا بل، بالعكس، أنا سعيدة لأنني كنت فنانة شاملة، وأثبت وجودي في أكثر من ناحية، وعلى أكثر من صعيد. كنت دائماً في وظائف قيادية حمتني من عوارض "جنون الفنان". فكل فنان فيه شيء من الجنون، لكن هذا الجانب لم ينمُ عندي لأنني كنت دائماً في موقع المسؤولية كمدرسة، وعميدة معهد، ورئيسة دار أوبرا. هكذا مارست الفن الى جانب عملي. وإذا توقفت الآن عن الغناء، لأي سبب، فلن أشعر باليأس، ولن أدخل حالة جنون، لأن أشياء أخرى تشغلني: أصدر كتباً موسيقية، أواصل الحلقات التلفزيونية عن "الموسيقى العربية"... مما يرضي النزعة الفنية في داخلي. لكنني لا أنكر أن وقوفي على المسرح عالم آخر فاتن وجميل. لكنك ما زلت تغنين... - مازلت أغني، نعم. إشتركت منذ بضعة أشهر في أوبرا "عايدة"، وعدت أخيراً الى تقديم "لاترافياتا" بعد أن قدمت للمرة الاولى سنة 1990 مع حسن كامي بقيادة المايسترو مصطفى ناجي، ومن إخراج البلغاري كوزمان بوبون. والدي استاذي وزميلي كيف تنظرين الى تراث والدك، وما الذي تفعلينه لحفظ هذا التراث؟ - لعب والدي في حياتي أكثر من دور. فبالاضافة الى كونه والدي، كنت تلميذته في "معهد الموسيقى". وبعد تخرجي وعملي في حقل التدريس، أصبحنا زملاء. بعدها أحيل الى المعاش، وكنت أنا عميدة المعهد حيث يدرس، فإذا بي رئيسته. لكننا كنا قبل كل شيء أصدقاء مقربين، وتسببت لي وفاته سنة 1973 بأزمة نفسية كبيرة، ولكنني بعد وفاته عملت ما يمكن ان يفتخر به، وحاولت أن أفيه بعض حقه من التكريم، وأعمل باستمرار على إحياء ذكراه. والدي محمود أحمد الحفني هو اول من اصدر مجلة موسيقية في مصر، لكنها توقفت في الخمسينات. وبعد وفاته صدرت المجلة من جديد لمدة سبع سنوات ونصف، الى أن أفلست وتوقفت. وصنعت له تمثالاً صمّمه ونفذه المرحوم السجيني، ووضعناه في مدخل كلية التربية الموسيقية التي أنشأها، وعملنا منه نسخة أخرى وضعت في حديقة أكاديمية الفنون الى جوار "المعهد العالي للموسيقى العربية". وعن طريق محافظة القاهرة أطلقنا اسمه على شارع في "جاردن سيتي". كما أنشأت له مسرحاً يحمل اسمه، في مدينة ميت غمر مسقط رأسه، وأعدت اصدار بعض كتبه. ووالدي هو الفنان الذي هيمن على "مؤتمر القاهرة الاول للموسيقى العربية" سنة 1932، ثم عاد فترأس مؤتمر الموسيقى سنة 1969. وعندما أتيحت لي فرصة الاشراف على مؤتمر الموسيقى العربية 1992، حاولت إكمال مشوار والدي. وأصدرت، منذ بضعة اسابيع، كتاباً عن حياته بعنوان "أبي وأستاذي محمود الحفني"، كما سيصدر قريباً كتاب آخر يتضمن دراساته القيمة في الموسيقى. وأخيرا بدأت أدرس إمكانية تفريغ ذكرياتي الخاصة على شرائط كاسيت، لأنني تعبت من جمع ما يخص الوالد وفكرت أن يوماً سيأتي يحاول فيه أحد الدارسين أن يكتب عنّي، ولا بدّ أن يجد هذه الوثائق. وقد أقوم بنفسي بكتابة مذكراتي بعنوان "أنا في المرآة"، لكن كل ذلك ما زال في طور التحضير. لماذا تزايد اهتمامكِ بالكتابة في السنوات الاخيرة؟ - اتجهت كثيراً في الفترة الاخيرة الى الكتابة، هذا صحيح. أصدرت كتاب عبد الوهاب، وكتاب أم كلثوم تحت الطبع، وهناك موسوعة موسيقية للاطفال من 8 الى 12 سنة تصل الى مئة كتاب، خرج منها حتى الآن الى الاسواق عشرون كتاباً، وتتناول تاريخ الموسيقى على شكل قصص. كان والدي أبعدني عن الكتابة في البداية، وهو ألف خمسين كتاباً في الموسيقى، معتبراً أن "الكتابة مرض" سيجعلني أترك الفن وأنا لامعة فيه. "دعي الكتابة - قال لي - لحين توقفك عن الغناء". الكتابة تشدني، وأنا الآن أكتب كثيراً، وأتمنّى أن يمدني الله بالعمر الكافي كي أنجز ما خططت له من المشاريع. الكتابة معي، وهي التي ستخلدني في ما بعد. أما التوقف عن الغناء، فيكون سببه امتناع الفنان عن التدريب، أو إصابته بمرض، أو ضعف في الجسم ينعكس على الصوت... أحمد الله أنني حتى الآن على ما يرام، أما الباقي فيكمن سرّه في التدريب وممارسة الغناء. الموسيقى العربية والتلفزيون يعرفك الجمهور العريض في مصر من خلال "برنامج الموسيقى العربية" في التلفزيون بشكل خاص... - هذا البرنامج له عندي حكاية. قبل افتتاح التلفزيون، كنت أعمل مع الاستاذ سعد لبيب في البرنامج الثاني للاذاعة المصرية، أسمع الاسطوانات وأعلق عليها وأسجل البرامج. وبعد افتتاح التلفزيون، وتعيين الاستاذ سعد لبيب كأول رئيس له، فوجئت بأن من جاء بعده في الاذاعة يحقد على كل من عمل مع المدير السابق. كنت أوّل الذين طردوا، ولا أخفي عليك أنني بكيت وأنا خارجة من الاذاعة بلا عودة. لكنه كان درساً لي، بأن أتحمل كل المواقف الصعبة، فما أن يغلق بوجه الانسان باب حتى تفتح أبواب. بعد أسبوع واحد، جاءتني مكالمة تليفونية من سعد لبيب، فذهبت اليه وطلب مني أن أقدم في التلفزيون ما كنت أقدمه في الاذاعة. ورتبنا برنامج "الموسيقى العالمية" من اخراج ليلي موسي وهي أخت عزيزة، ومن أسرة المانية ومصرية مختلطة مثلي، وهناك صداقة عائلية تربطنا. البرنامج مستمر حتى الآن تحت عنوان "صوت الموسيقى". وعندما اصبحت السيدة تماضر توفيق مسؤولة عن القناة الاولى في التلفزيون المصري، أبلغتها برغبتي في اجراء بعض التجديد على برنامجي، عبر ادخال فقرات من أعمال فرقة "أم كلثوم". فاقترحت هي برنامجاً باسم "الموسيقى العربية"، وكان أن تركت برنامج "الموسيقى العالمية". مضى اليوم حوالي 15 سنة على تقديمي برنامج "الموسيقى العربية"، على القناة الاولى للتلفزيون المصري. وأنا أدين لهذا البرنامج بالكثير من شعبيتي. وقد أفرّط في أعمال أو مسؤوليات كثيرة أخرى، أما هذا البرنامج، فلا. إذ أنني أحبّه وأعيش به مع الناس. وهو البرنامج الذي دفعني الى تعميق قراءاتي، فأنا أستعد له جيّداً، سواء كانت الحلقات مسجلة او مذاعة مباشرة على الهواء. "دار الاوبرا" والرهان الصعب ما هي الانجازات التي نفذت في "الاوبرا"، خلال فترة إشرافك على هذه المؤسسة؟ - فترة رئاستي للاوبرا، كانت لذيذة وقاسية: إستلمتها قبل افتتاحها بثلاثة أشهر فقط، ولم يكن في المبنى أي موظفين أو اداريين، ولا مسؤولي أمن وموظفي علاقات عامة ومضيفات... خارج المبنى، كانت الحديقة عبارة عن صحراء، والسور لم ينتهِ بناؤه. وكان عليّ أن أرفع تحدي "موسم إفتتاحي" وشيك، مع ما تعنيه برمجة موسم كامل من تنظيم وتخطيط واتفاقيات مع الفرق العالمية. كل هذا كان قاسياً، وأنجزته في ثلاثة أشهر في حين أن أحداً لم يكن يتوقع افتتاح الاوبرا في الموعد المحدد، وخاصة الصحافة التي كانت تشكك في امكاناتنا وتريد تحطيمنا. وافتتحنا الاوبرا الجديدة في تشرين الاول أكتوبر 1988 بنجاح مضطرد... أستطيع اليوم أن أقول، إن فترة العام ونصف العام التي توليت خلالها هذه المسؤولية، عرفت أقوى البرامج. ثم خرجت على قدمي في منتصف الموسم الثاني، لأنني لم اعد أعمل بمزاج بسبب أوضاع إدارية لا أحب الخوض فيها. أنا لست، ولا أستطيع أن أكون، موظفة. كما أنني لا أحب أن أعيش أوضاعاً تحطمني داخلياً. افتتحت الاوبرا بعد 17 سنة من احتراق الاوبرا المصرية القديمة، وهذا الافتتاح أثر كثيراً في الحياة الثقافية والفنية في القاهرة. أرى أن هناك مسارح تأثرت بنا وراحت تحترم مثلنا مواعيد بدء العروض. الآن معظم مسارح مصر تبدأ عروضها عند تمام الثامنة وأحياناً السابعة، بعد أن كانت تبدأ بعد العاشرة، فلا يعود الناس الى منازلهم إلا في وقت متأخر من الليل. هناك إنجاز آخر أعتز به، هو إصراري على اعتماد الملابس الرسمية لدخول عرض من العروض. وأنا سعيدة أن هذا المبدأ مازال سارياً في الاوبرا بعد رحيلي. كما أن الرواد في البداية كانوا بأغلبهم من الاجانب المقيمين في مصر. ولا أستطيع القول إن جمهور الاوبرا أصبح اليوم من عامة الشعب، فهذا المكان نادراً ما يرتاده في العالم أجمع عامة الشعب، إلا أن عدداً متزايداً من المشاهدين المصريين بات يقبل على العروض ويتابعها. ينتمي هؤلاء الى شرائح مختلفة، من المثقفين والطلاب والشباب والموظفين الى أهل النخبة السياسية والاقتصادية. هذه التقاليد أنا سعيدة لكوني بدأتها. وقد مهدت، أثناء تدريسي في المعهد، لهذه النهضة عبر إعداد الكوادر وتهيئة الجمهور. وخلال فترة رئاستي لهذه المؤسسة، أنشأت "الفرقة القومية العربية للموسيقى" كي تتولّى تقديم موسيقى الدول العربية، بقيادة المايسترو اللبناني سليم سحاب. وأنشأت كورالاً للاطفال، كما فعلت قبل عقود حين كنت أول من أسس "كورال أطفال" في الشرق الاوسط. كان ذلك سنة 1961 عشية عودتي من البعثة الدراسية في المانيا. ولا مجال هنا، لذكر أهمية البرامج التي كنت وراء تقديمها. أنا فخورة بتلك الفترة من حياتي. لماذا تغيب الاوبرا عن المدن العربية في تصورك؟ - دول عربية كثيرة تفكر الآن في إنشاء دور للاوبرا. في العالم كله لا تقدم الاوبرا إلا الفن الرفيع، أما الاوبريت فروادها أضعاف رواد الاوبرا، بسبب توفر عناصر الكوميديا والاستعراض والتمثيل والغناء معاً. الاوبرا فن جاد وصارم. أعتقد أن الجمهور بدأ يتعود. لاحظ معي كم تزايد الاقبال على الباليه في القاهرة خلال الفترة الاخيرة. مع أن هذا الفن ليس شرقياً ولا يجد جذوره في المزاج الشعبي المصري. ربما كان لبرنامج الباليه، الذي تقدمه منى جبر في التلفزيون المصري، تأثيره المباشر على هذه الظاهرة. كما تزايد أيضاً الاهتمام الشعبي بحفلات الاوركسترا السيمفونية التي قد تكون أسهل من متابعة عرض أوبرالي. أما الموسيقى العربية، فلها روادها الدائمون. في البدء خاف الناس من كلمة "أوبرا" التي أوحت لهم بحالات غريبة بعيدة عن تقاليدهم. ولكن، مع الوقت، عرف المارّون بجوار الاوبرا انه مبنى يحتضن فنوناً عريقة، رفيعة المستوى، وقدم برامج منوعة قد تهمهم فرداً فرداً: من الفنون الشرقية والشعبية، الى الموسيقى الراقية والباليه والاوبرا والغناء. وفي ظل الهبوط الفني العام الذي تعاني منه، في العالم العربي، فنون المسرح والغناء والسينما والموسيقى، فإن المشاهد المتذوق والمثقف لايمكن أن يجد نفسه الا في ما تقدمه الاوبرا. والاوبرا، كما سبق أن ذكرت، هي فن القلة بالضرورة، ولكن لهذه القلة قاعدة عريضة بين المتعلمين وخريجي الجامعات والطلاب والشباب. إذاً هناك مشاكل تواجه الاوبرا في مصر؟ - كثيرون خافوا في البداية من الاقتراب من الاوبرا، ولكن هذا الحاجز تم كسره مع تعود الرواد على الحضور. التسويق جيد ولكن الاعمال غير المعروفة تشهد إقبالاً أقل، ولو أن هناك تعريفاً اعلاميّاً كافياً بكل عمل من الاعمال قبل عرضه، لارتفعت حماسة الجمهور وتزايد اقباله. ففرقة "الكابوكي" اليابانية التي افتتحنا بها الاوبرا، فرقة عريقة جداً ولكن الجمهور العريض لم يفهمها وسخر منها بسبب جهله. ولكن لو نظمت حملة إعلامية وتثقيفية مسبقة للتعريف بهذا الفن المرهف، لَتدافعَ الناس الى تذوقه واكتشافه. النهضة الفنية مسؤولية جماعية.