قد لا تكون الدورة السادسة ل "أيام قرطاج المسرحية"، أفضل موسم شهدته تونس خلال عشر سنوات، هي عمر المهرجان الذي شكّل منعطفاً حاسماً في تاريخ المسرح العربي... لكن اللقاء جمع شمل المسرحيين العرب كعادته، وسلط الضوء على بعض الأسئلة الملحّة المتعلقة بمستقبل الفنون المشهدية مغرباً ومشرقاً. وال "أيام" كانت مناسبة لمشاهدة "دون جوان" محمد ادريس، لإعادة مشاهدة "فاميليا" الفاضل الجعايبي، لاكتشاف جيل مسرحي جديد في تونس من خلال مسرحية "صيف كارمن" علي مصباح/ نبيل ميهوب، وللاحتراق مع اللبناني شكيب خوري في طقس مأسوي طغى بشكله المفتوح وأسئلته الميتافيزيقية. من القاهرة الى تونس تقصر المسافة، ويمتد الزمن المسرحي العربي الباحث عن حقيقته، عن جذوره ومعناه. بعد "المسرح التجريبي" في مصر إذاً، ها هي "أيام قرطاج المسرحية" تقام بين 14 و24 تشرين الاول أكتوبر الماضي، في اطار احتفالي، فيطفئ أشهر المواعيد المسرحية العربية شمعته العاشرة. عشرة أعوام، ودورات ست، شهدت عبور أكبر الاسماء وأبرز التجارب، وسلطت الضوء على حركة مسرحية تونسية تحتل منذ مطلع الثمانينات موقع الطليعة فوق خريطتنا المشهدية. لكن تونس لم تتألق بما فيه الكفاية. والمدينة التي تعرف خشباتها ازدهاراً نسبياً يبعث على العزاء، لم تكن هذا العام تشبه نفسها. كأن التعب أدركها، أو كأنها تخاصمت مع ماضيها القريب. إنها لعبة المواسم، والموسم الحالي لم يأتِ على مستوى الطموحات. أين رواد المسرح التونسي الذين عوّدونا على الأعمال المميزة؟ أين جيل الورثة الذي يفترض أنه بدأ يتبلور وراح يستكشف الاقاليم المجهولة؟ أين ضيوف تونس من كبار المسرح العربي، كانوا في الدورات الماضية يقلبون المهرجان الى احتفال بلا ضفاف، ويحوّلون بهو الفنادق وأروقة القاعات فضاءً صاخباً من النقاشات والمواجهات؟ أين التنظيم الدقيق والامكانات التي جعلت بالامس من هذه المدينة المغاربية العاصمة الاولى للمسرح العربي والافريقي؟... وعدَنا المسرحي التونسي المنصف السويسي مدير المهرجان بدورة استثنائية، فاذا بنا - رغم الجهد المبذول - نعود صِفر اليدين، ببعض الذكريات التي تحمل مذاق الخيبة. وما حيلة تونس، ومهرجانها؟ ماذا نطلب من ال "أيام" أكثر مما قدمته: تسليط الضوء على الازمة المستشرية في العالم العربي، وعلى تراجع الاسئلة والاختبارات وعلى الفقر الذي يتهدد المخيّلة؟ حتّى المسرح التونسي الذي كان بمنأى عن هذه الازمة بدأ يغرق في المستنقع المحيط. جميل أن يتفرج الناس على ضيوف الشرف يحيى الفخراني ومحمد صبحي وشويكار... كأنهم في حضرة كائنات من كوكب آخر، أن يصفقوا للمكرّمات نضال الاشقر وعواطف نعيم ومها صالح وميراي معلوف... أن تهجم الصحافة المكتوبة والتلفزيون على تسقّط أخبار النجوم واجراء المقابلات المسلية... لكن أين المسرح الجيد، وكيف يعوّض المرء متعة المشاهدة التي ألفها في هذه المدينة الاستثنائية؟ من الجزائر جاء حسن وفضيلة عسوس وهم من أعضاء فرقة سيدي بلعباس التي أسسها كاتب ياسين، لكن مونودراما "البسمة المجروحة" التي قدماها فيها - رغم نزفها الصادق - الكثير من التكرار لتجارب الامس وأطروحاته. في "ريح ومديح وكلام فصيح" ما زال الثنائي التونسي نور الدين وناجية الورغي يستعيد المواضيع والصيغ المشهدية نفسها، والعظة الاخلاقية ايّاها، الريفيّة الوقع والبليدة الايقاع. بينما يقف من الجهة الاخرى التونسي فتحي العكاري في "الزنوس" ليعيد الاعتبار الى الجسد والاختبارات القائمة على فن المهرج، كما تلجأ مجموعة من الفنانين الشباب "التوانسة" الى مسرحية يونسكو "الدرس" الحبيب السعيدي/ أنور الشعافي، بحثاً عن مادة لاختبار اللغة المسرحية في تقاطعها مع عبث الواقع. وتسنّى لجمهور قرطاج، من جهة أخرى أن يشاهد مسرحية "غراميات عطوة أبو مطوة"، التي سبق أن تناولناها فوق هذه الصفحات. كأننا بالعمل كاتالوغاً يجمع بين طيّاته كل مساوئ المسرح الاستهلاكي المصري والعربي. النص استوحاه ألفريد فرج من "أوبرا الشحاذين" لجون جاي، ومن "أوبرا القروش الثلاثة" لبرتولت بريخت، كما فعل قبله المصري نجيب سرور "ملك الشحاتين" واللبناني شوشو "آخ يا بلدنا". لكنه تحول بين يدي المخرج سعد أردش عملاً سطحياً يراكم اللوحات الاستعراضية التي لا تلعب أي دور على مستوى الحبكة الدرامية، والتي لا دور لها سوى الترفيه - بقلة ذوق وقلة خيال واضحتين - عن الجمهور المدمن لنجومه الفخراني، عبله كامل.... لكن عبله كامل اشتركت في قرطاج بعمل آخر، هو مونودراما "نوبة صحيان" المقتبسة عن داريو فو، والتي سبق لحسن الجريتلي أن أخرجها عام 1987 مع تأسيس "مسرح الورشة" في القاهرة. قُدّمت الكوميديا المذكورة في تونس، بعد حكايات شعبية تتمحور حولها أبحاث "الورشة" ومشاغلها الراهنة رواها سيد رجب. وهي تعكس همّاً جمالياً واضحاً، وتقيم علاقة حقيقية مع المُشاهد، انطلاقاً من رؤية مسرحية تخدمها عبله كامل، بخفة ظلّها وطواعية جسدها وسلاسة ادائها، على أكمل وجه. السحر ينقلب على الساحر بين المسرحيات التونسية التي شهدت الاقبال وأثارت النقاش، نبدأ بعمل محمد إدريس الجديد "دون جوان" الذي نترقبه منذ سنتين. مدير "المسرح الوطني التونسي" يرتمي هنا في مشروع ضخم، فاذا به أسير مغامرة فنية غير مضمونة النتائج. ينطلق إدريس من أسطورة ضاربة عميقاً في الضمير الانساني، وفي تاريخ المسرح العالمي... أسطورة الرجل الذي ربح كل المعارك، معارك الحب، قبل أن يخسر نفسه. إنه دون جوان الرجل البلا أوهام، البلا أصدقاء، الذي يعرف النفس البشرية جيداً، ويستسلم لنهم الغواية كمن يداوي جراحاً عميقة لا تسمّى، جراح الخيبة والزمن الهارب... وكان من الطبيعي أن تغري هذه الشخصية محمد ادريس، الذي يتجه في مسرحه الى الزخرفة البصرية، والى الايقاع الشعري الحميم. فقد أعاد كتابة الاحداث والشخصيات، وتصور لها اطاراً يوحي بالحرب الاهلية اللبنانية. لكنه خلط الحدث الرئيسي بأحداث فرعية يصعب الربط بينها، وحمّل عمارته المسرحية بالرموز والمراجع، كما أثقل الاطار المسرحي بديكور ثقيل ومؤثرات لا تحصى. واذا بالمخرج - المؤلف، شأنه شأن بطله أدونيس الذي ينقلب سحره عليه فيجد نفسه محاصراً وسط نسائه وضحاياه، يقع ضحية هذه الآلة الضخمة التي يرزح تحتها، ولا يعود يسيطر عليها فتفلت في كل الاتجاهات. كأن مأساة أدونيس، هي مأساة إدريس نفسه وهو يؤدي الدور، وكأن هذه الملابس التي تبدلها الشخصية ليست الا ذريعة كي يدفع الممثل بنرجسيته المؤثرة الى ذروتها: الى حيث يصبح كل تفسير زائداً. لماذا لم يقم المخرج بتقديم مسرحية موليير كما هي، مطبّقاً عليها قراءته واجتهاداته ورؤياه، عن طريق اضافات الاخراج وكتابته الثانية؟ بين عمر ابن أبي ربيعة وكازانوفا، تضيع ملامح دون جوان الهارب من ذاته، ابن اللحظة الباحث - عبر ادمان الاغراء والحب - عن عزاء غير ممكن... وتبدو المشاهد مفككة، فلا يبقى من ادريس الذي نعرف سوى لحظات مسرحية شفافة، تذكر بشعرية نص "حيّ المعلم"، بتقنيات "وناس القلوب" التي تعتمد المسرح الياباني والهندي، وبالغنى البصري والاحتفالي الذي قامت عليه "اسماعيل باشا"، بلغتها المجازية والغرائبية القائمة على السحر والادهاش. شباب المسرح التونسي؟ من تونس أيضاً، قدم "مركز الفنون الدرامية في الكاف" مسرحية بعنوان "صيف كارمن"، استوحاها علي مصباح ومنير العقربي عن قصة بروسبير ميريميه الشهيرة. ونكتشف مع هذا العمل جيلاً جديداً من المسرحيين التوانسة، بنقاط ضعفه وطاقاته الواعدة. ذلك أن مخرج المسرحية نبيل ميهوب، وعلي مصباح الذي يؤدي الدور الرئيسي فيها، من خريجي "المعهد العالي للفنون الدرامية" في تونس، اكتشفهما محمد ادريس في مسرحيته "يعيشو شكسبير"، ولم يلبث علي مصباح أن مثّل مع فرقة "المسرح الجديد" في "العواده" و"كوميديا"... وهذه المرّة ها هو يخوض بنفسه مغامرته الاحترافية الاولى، فتبدو تأثيراته الواضحة بجماليات "المسرح الجديد"، وطريقة بنائه للحبكة والشخصيات والايقاع المتوتر المشحون بالعنف. على سطح عمارة، كانت مسرحاً ذات يوم، قبل أن يبتلعها الماء وتحتلها الفئران، تعيش مجموعة من الهامشيين، بين العنف والاحلام المحبطة. بين هؤلاء الخارجين على القانون شرطي فار وقع في غرام جانيت ذات العواطف المتقلبة، ومحام نصاب، ورجل عجوز هو شيحه مصباح، وفنان فاشل يستعيد ذكريات شبابه، ويرى في جانيت امتداداً لشخصية كارمن... ويعكس صراع الشخصيات عنفاً دفيناً حمله معه مصباح من "المسرح الجديد" حتّى أن الدور الذي يؤديه بمهارة أكيدة يعيد الى الاذهان شخصية "العم شنوة" لعبها كمال التواتي في "العواده"، وهو استوحى النهاية المأسوية اليائسة نفسها. لكن ما سبق لا يمنع من الاشارة الى توافر عناصر السيطرة على العرض المسرحي في "صيف كارمن"، من الاضاءة والسينوغرافيا الى بناء المشاهد وضبط الايقاع... يبقى أن على مصباح ورفاقه أن يهتدوا بسرعة الى مناخاتهم الخاصة وشخصياتهم المستقلة، ويساهموا في اغناء المشهد المسرحي التونسي، لا في استهلاكه وتحنيطه. التماس بين الشخصية والممثل مع "فاميليا" يصل المخرج التونسي الفاضل الجعايبي جائزة أفضل اخراج الى مرحلة من النضج ومن السيطرة على العناصر الدرامية والمشهدية للعرض. ولعل عمله من أهم الانتاجات التونسية في السنوات الاخيرة. فكل مشهد في هذه المسرحية القائمة على حبكة بوليسية عادية ثلاث أخوات عجائز يستدرجن الرجال الى البيت لقتلهم، لوحة قائمة بذاتها. لوحة بمعنى التشكيل والتركيب والصورة والاضاءة والحركة والحوار والشريط الصوتي... واللوحات مترابطة في ما بينها بطريقة ديناميكية حيّة، مما يعطي للمسرحية ايقاعها، وللبنية الدرامية حركتها التصاعدية نحو لحظة الحقيقة، لحظة التماس بين الشخصية والممثل: كل من الممثلات الثلاث فاطمة بن سعيدان، صباح بوزويتة وجليلة بكار جائزة أفضل ممثلة، تعرى قبيل النهاية من قناعها، فتنكشف للمُشاهد الملامح الحقيقية للممثلة التي تخفّت طوال اللعبة في وضعية جسدية ونفسية أخرى، لتصبح واحدة من أولئك العجائز الناقمات على الدنيا بما ومن فيها. أما السي حصَيْرة كمال التواتي هذا العنصر الدخيل الذي يندسّ في العزلة المرَضية لهاجر ونازك وببونة، فلا يهم ان كان لحّاماً أم شرطيّاً مفترضاً، جاء للتحقيق في الوقائع الغريبة لاختفاء أختهن زهرة... ذلك أنه سرعان ما سيطويه النسيان: في مسرحية الجعايبي، القائمة على التواصل المستحيل، لا بد من موت مؤسلب على انغام التانغو، قبل أن تعود الحياة - موقتاً! - الى مجراها الطبيعي. الطقوسية والبعد الوجودي أما مفاجأة "أيام قرطاج المسرحية"، فكانت مسرحية شكيب خوري "أرانب وقديسون" التي فازت بالجائزة الكبرى لأفضل عمل مسرحي متكامل، بعد أن عانت ما عانته في بيروت حين أقدمت الرقابة على منعها خلال الموسم الماضي. ولعل شكيب خوري لم يكن معروفاً حتّى اليوم على الصعيد العربي بما فيه الكفاية، إلا أنّه من الرموز البارزة للنهضة المسرحية اللبنانية. عاش خلال الحرب - شأنه شأن مبدعين آخرين - فترة عزلة وانطواء، كان يردد خلالها على مسامع طلابه في "معهد الفنون الجميلة": "لم أعد أعرف جمهوري، فكيف ولمن أُخرِج أعمالاً مسرحية؟". وتشكل مسرحيته الجديدة بعد "جزيرة العصافير"، محاولة للنهوض من كبوة طالت، بحثاً عن معاني وأشكال جديدة لفن المسرح في المدينة الخارجة بخطى متعثرة من خرابها. "أرانب وقديسون" هي قبل كل شيء طقس مسرحي يبدأ بفرحة العيد، وينتهي باحتفال جنائزي، وبين الاحتفالين تمتد فصول حكاية رمزية النفَس، فلسفية المرمى. كأن الغرض الاساسي من العرض هو التأمل في أشياء الوجود، والتطهر من جراح الذاكرة. لذا يدعونا شكيب خوري، منذ ظهور الممثلين واتجاههم الى قاعة العرض راقصين مهللين ونحن خلفهم، الى دخول المعمعة كشركاء فعليين. ولذا ينصب لنا حبكة درامية على شكل فخ، فهي لا تكاد تستقيم في سياق حتّى تنكسر اللعبة وتنكشف لنا كواليسها. هكذا ينقطع العرض كل مرّة، ينغلق علينا، ويعود بنا الى نقطة البداية. يعمد المسرحي اللبناني ومؤلف النص الى الشكل البيرندلي العتيد نسبة الى الايطالي لويجي بيرندلو، فينسج مشاهده على منوال "المسرح داخل المسرح". لكن الشكل هنا ليس الا ذريعة تتسع لمستوى سردي أول هو حكاية الممثلين الذين يحاولون صياغة مسرحية. لكننا سرعان ما ننتقل الى مستوى آخر، مأسوي بامتياز، حين يُبعث البطل من الاسطورة، ثاوسبيس أول ممثل في التاريخ، يعود ليمثل لنا تراجيديا معاصرة - في ديكور الحرب اللبنانية - قبل أن يموت من جديد، فيعود من حيث أتى: الى الاسطورة. شكيب خوري ابن الادب الوجودي بامتياز، لكنه يتخطاه الى مجموعة من الاسئلة الميتافيزيقية. من هنا يأتي عرضه نسيجاً غريباً من المراجع والخيارات الفكرية والجمالية. على عوالمه يخيّم "كاليغولا" كامو، لكن جان جينيه هو الآخر يحوم في الجوار. من هنا هذا التجاور المذهل بين المقدس والدنيوي، بين الروحاني والمادي، بين النظرة السامية التصاعدية والجسد المثقل بالخطيئة. هذه الثنائية تدهش في مسرح شكيب خوري، وتجنح بصاحبها الى المذهب "التيوزوفي" والنظرة الحلولية. من هنا أن شخصيات المستوى السردي الثالث للمسرحية حزب، ومقاتلون، وكنيسة، استاذ جامعي مستغرق في كتبه وقسيس يظن نفسه مخلّصاً... لا تهم الا لكونها صوراً وأصداء تحيلنا على واقع أليم الحرب، وعناصر تراجيدية يدور حولها الطقس المسرحي. أما احتفالية شكيب خوري التي تستوحي شعائر دينية مختلفة، وتشكل اطار العرض وأوتاره الشعورية، فهي تقطع مع المحاولات السائدة في التعاطي مع التراث وتأكيد الخصوصية الثقافية. ما يهم خوري هو الطقس "الديونيزي"، بكورسه وتراتيله وضحيته: القسيس يخنق الممثل - بعد أن تتداخل مستويات السرد - وينتهي الاحتفال بجنازة. وأبعد من الاحتفال، ما يهم خوري هو الاسئلة الفلسفية المعلقة، فما حيلتنا اذا كانت "الحقيقة التي نؤسس لها اليوم - كما تقول احدى الشخصيات - لا تخدم أحلام الغد"؟