"جنون" هو العمل الجديد الذي بدأت بتقديمه الممثلة التونسية جليلة بكار وهي تحاول من خلاله تسليط الضوء على مسألة الفصام عند الإنسان ونظرة الخوف التي تأسره بسبب أخلاقيات مجتمعه والتي قد تقوده أحياناً إلى العنف. الممثلة جليلة بكار احدى أكبر الممثلات في تونس والعالم العربي تتوقف في أحد التمارين على المسرحية الجديدة لتحدّث "الحياة" عن مسيرتها الطويلة وتجربتها الطليعية. بدأت ممثلة في الدراما التلفزيونية، والتلفزيون هو الذي قدمك إلى المسرح، عندما طلب منك مسرح "قفصة" المشاركة في مسرحية "صبحا والشرق الحائر". لكنك بعد ذلك غبت عن التلفزيون. هل تكوّن لديك في المسرح موقف فني أو غير فني من التلفزيون جعلك تنفرين من الظهور على شاشته، أم كان التلفزيون ولا يزال يعاقبك بتهمة خيانته الموصوفة بهجره إلى المسرح؟ - للتصحيح، لم أبدأ كممثلة تلفزيونية، بل جئت أساساً من المسرح المدرسي. ومشاركتي الوحيدة كانت في مسلسل للأطفال وكنت حينذاك طالبة في الثانوي. عدم ظهوري على الشاشة يعود إلى حبي وتفرغي للمسرح، وفي صفة عامة إلى رداءة الأعمال التلفزيونية التونسية لعدم تناولها موضوعات تهمني وأستطيع التعبير عنها. لكن هذا لا ينفي تطلعي إلى أن يصبح التلفزيون جهازاً وطنياً تدرج فيه الأعمال المسرحية التونسية بعد أن تأخذ وقتها في المسرح خصوصاً أن حياته قصيرة. فإذا لم تُسجل وتبق للأجيال المقبلة فلا بد من أن تُمحى. المسرح التونسي ليس مبنياً على النص فقط وإنما على الصورة والتمثيل بمعنى العمل المتكامل، وأي نقصان لعنصر من عناصره يشكل خللاً وقتياً في الإبداع. من المهم تاريخياً أن نضع المسرح في مكانه. وبالنسبة الى الأعمال التي شاركنا بها كمجموعة لم يسجل منها سوى عملين: "غسالة النوادر" عام 8019، و"فاميليا" عام 9319. والمسرحية الأخيرة بثت مبتورة ومشوهة في العام 2001. يبدو أنك لا تهتمين كثيراً لإقامة علاقة متينة مع الجمهور العربي في تونس وخارجها، بدليل اعتمادك حواراً باللهجة التونسية الدارجة، والتي لم تعد مفردات كثيرة منها مستخدمة وخصوصاً من الجيل التونسي الحالي على الأقل؟ علماً أن الحوار في أعمالك عنصر أساس؟ - اللهجة عامل أساس من عوامل تكوين الهوية التونسية ولم أتنبه إلى أهمية اللهجة التي تمثل لغة الأم، مهما كانت جنسيتها، إلا عندما أصبحت أماً. ربما يعود السبب إلى مسألة إيديولوجية، لأن المسرح لا يخاطب عقل الناس فقط بل شعورهم وإحساسهم وواقعهم اليومي. ونحن كمسرحيين نخاطب التونسيين أولاً ثم العرب ثم الأجانب، إذا كان لديهم إمكان تقبل منطق آخر غير منطقهم. لا أستطيع مخاطبة التونسي بلغة لا تخصه ولا يتصرف بها، لأن اللغة العربية أساساً لغة مدرسية وإدارية. وعندما زرت عدداً من الدول العربية لم أجد في المسرح من يستخدم اللغة العربية. اللهجة التونسية لها خصوصيتها وموسيقاها وتاريخها وألوانها وصورها ونكهتها. هل تريدني أن أنسف كل ذلك بضربة!! ربما نستطيع تقديم بعض الأعمال باللغة العربية شرط توافقها مع الموضوع ونوعية المسرح. علينا الحفاظ على الهوية، ولا أفهم لماذا يوجه الاتهام دائماً الى المغاربة ومعظم المسلسلات المصرية أو اللبنانية يتحدث بلهجتها. والأنكى من ذلك أن فيلم "شيش خان" التونسي عندما عرض في مصر، دبلج باللهجة المصرية. لماذا؟ هل أصبحت اللهجة التونسية لهجة أجنبية؟! علاقتك بالسينما ضعيفة، وأدوارك فيها لم تلق الصدى الذي لاقته أدوارك المسرحية. فباستثناء فيلمي "المتحضرات" و"ليلة القدر" اقتصر عملك السينمائي على الأفلام التي أخرجها زوجك الفاضل الجعايبي. هل أنت غير مطلوبة للتمثيل في السينما، أم أنك تجدين نفسك ممثلة مسرحية فقط، أم أن لزوجك كمخرج الدور الحاسم في صوغ شخصيتك الفنية؟ وبالمناسبة ماذا عن فيلم "البحث عن عائدة"؟ هل أُنجز، ومتى سيكون جاهزاً للعرض؟ - لا دخل لفاضل في اختياراتي. كانت تدور بيننا حوارات ونقاشات وكنا نتفق أحياناً ونختلف أحياناً أخرى بحكم علاقتنا، أما القرار النهائي فكان لي. بالنسبة الى السينما، المشكلة تكمن في سببين: أولاً، رفضي الاقتراحات المقدمة لأنها لم تعجبني. وثانياً، عدم عشقي الكبير للسينما. ومشاركتي تمثلت في عملية الإبداع بمعنى "الطبخة". لذا وجدت نفسي مع المجموعة من إخراج الجعايبي وفاضل الجزيري في "عرب" و"العرس" ومع المخرج محمود بن محمود في "شيش خان"، ثم مشاركتي في فيلم فرنسي "ليلة القدر". وفي ما يتعلق بفيلم "البحث عن عائدة" أقول إن خلافاً نشب بيني وبين الكاتب السوري محمّد ملص. ربما أسرعنا في البداية باختيار ملص لأنه غير متمكن من علاقته مع تونس والعقلية التونسية وتحديداً المرأة، ولذلك وقع سوء التفاهم أثناء التصوير. الأمور ما زالت معلقة بانتظار استكمال عملية تركيب الفيلم. لم يبق إلى جانب جليلة بكار من فرقة "فاميليا" الشهيرة سوى فاطمة سعيدان. لماذا غادر الممثلون والممثلات هذا المسرح ولماذا بقيت سعيدان؟ هل كانت "فاميليا" مدرسة لتخريج ممثلين يطمحون إلى أدوار أولى تحول دون الوصول إليها سطوة كفاية جليلة بكار، أم لأن الثنائي الجعايبي - بكار يحدد سقفاً لطموحات الممثل في الفرقة؟ أم أن الجعايبي - بكار - سعيدان ثلاثي ثابت وما عداه متحرك؟ - لا أظن أن ممثلين في حجم لمين النهدي أو زهيرة بن عمار وقعا تحت سطوة أحد. في المسرح الجديد كنا أشبه بالمنطوين على أنفسنا وعملنا مع بعض وكان عندنا نوع من الاكتفاء حتّى وفاة الحبيب المسروقي وخروج محمّد إدريس بعد اختياره طريقاً آخر. وبقيت مع الفاضلين الجعايبي والجزيري وعملنا "لام" ثم "عرب". أما اختيار الأشخاص فيعود إلى نوع الكتابة والدور. وعلى رغم أن مسرحنا ارتجالي إلا أن اختيارنا ليس عشوائياً، ولذلك مثلاً كانت زهيرة معنا في بعض أعمالنا ولم تكن في أعمال أخرى وهذا لا يعني أنها أو أي ممثل غيرها قد لا تُشاركنا أعمالاً مستقبلية. أما فاطمة فواكبتنا منذ البداية حلمنا ونحن نحلم معها، وهي الأكثر انسجاماً. قلت في حوار صحافي أجراه معك الكاتب الياس خوري قبل سنوات إن حياتك الحقيقية تدور فوق خشبة المسرح، بينما الحياة الواقعية مجرد هامش لها. هل هذا يعود إلى الإحباط - ربما - الذي يغمر حياتك الخاصة كزوجة، في حين تحقق لك خشبة المسرح تألقاً وتحقيقاً للذات وتفوقاً على النساء الأخريات أمام زوجك المخرج؟ - الإحباط موجود، لكنه غير مرتبط بالرجل، بل بالمجتمع. وفاضل يعيش الحال نفسها. الحياة عبارة عن عملية إبداع تنشأ ربما كل دقيقة، ونحن نحاول الحفاظ على ما تبقى من حريات على المسرح، وليس كلها لأن بعضها صعب. ربما هو نوع من إحباط نعيشه في الواقع ونفرغه على الخشبة. وربما لو سألني إلياس خوري في وقت غير ذلك الوقت لكان جوابي مغايراً. في "البحث عن عائدة" وفي "جنون" نلاحظ أن جليلة بكار لا تمثل فقط، بل تكتب النص والدراماتورجيا، بينما يقتصر دور الجعايبي على الإخراج تقريباً. هل يدخل ذلك في إطار تنافس إبداعي لفرض رؤية جليلة على "فاميليا"؟ - كتابة النص والإبداع أو الإبداع الجماعي، أسئلة طرحت علينا عندما كنا في المسرح الجديد. من المخرج، من كاتب النص، من مصمم الديكور... من، من؟ اسئلة أغلقنا عليها بإبداع جماعي وعبر كتابة وعمل مشتركين. لكن وفي كل مجموعة ثمة مسؤولية فردية لتوصيل عمل ما لوقت معين، بمعنى العرض الأول. وهذا لا يعني عدم مشاركتي ومساهمتي في كتابة النصوص السابقة. إلا أن مسؤولية النص النهائي كانت تقع على فاضل في مؤسسة "فاميليا للانتاج". أما "عائدة" فشيء خاص وشخصي جداً. النص لم يكن سياسياً، بمعنى الأفكار، وإنما تحدثنا عن وجدان نشعر به. والوجداني لا يستطيع التحدث عنه إنسان آخر غيري. في "جنون" انطلقنا من نص مكتوب أعجبنا وهو لناجية الزمني، وهي محللة نفسانية. وبعد نقاشات واقتراحات اتفقت مع فاضل على التفرغ لكتابة الصيغة النهائية بعد تغييرات في الجمل وتعديل الصيغة الأولى باعتبار النص مقتبساً. نلاحظ أن مسرحكم أو معظم المسرح العربي المعاصر، يقوم على اقتباس نصوص مسرحية أجنبية من مخرجين أو ممثلين مسرحيين، مما يمثل إعراضاً كاملاً تقريباً عن النصوص المسرحية المكتوبة. هل يمكننا أن ننعي الكاتب المسرحي العربي، خصوصاً بعد وفاة سعداللّه ونوس آخر حراس العمل المسرحي المكتوب؟ - قليلاً ما انطلقنا من نصوص أجنبية، ربما استخدمها المسرح العربي أكثر. إخراج العمل المقتبس صعب، إلا إذا كان الكاتب المسرحي موجوداً في المجموعة ويكتب لها. فمجمل النصوص المسرحية أدبية في الأصل، وهنا تكمن المشكلة. وهنا نعود مجدداً إلى قضية اللهجة. يبقى أن أقول إن معظم النصوص المسرحية جاء من أناس لهم علاقة بالمسرح كشكسبير وموليير. هل تعتقدين أن المثقف أو المبدع العربي مطالب بمواقف من قضايا عامة وطنية أو قومية أو إنسانية والتعبير عنها يكون من خلال عمله الإبداعي أو عبر وسائل أخرى؟ وفي هذا السياق ما موقفك من الانتفاضة الفلسطينية والحصار على بعض الدول العربية، وكيف عبرت عن موقفك من هاتين المسألتين الراهنتين؟ - للأسف، ليس من الضروري في العالم العربي أن يكون الفنان مثقفاً والعكس صحيح. لكن هذا لا ينفي وجود فنانين يملكون الحس القومي والوطني أكثر من المثقفين. بالنسبة الي لا أعتبر هذا الحس إرادة شخصية، بل هاجساً طبيعياً بحكم شعوري بنوع من المواطنة. وأي إنسان يشعر بمواطنته، لا بدّ من أن يأخذ موقفاً من هذه الأمور. أما ما يتعلق بالقضية الفلسطينية فأنا ولدت فيها وعشت معها وما زلت أتذكر والدتي عندما قالت إن هذا جرح لن يندمل. إنها قضية حق وعدالة لا فصام فيها. أما الموقف العملي فيندرج في كيفية إيصال كلمة معبرة وليست فضفاضة، كلمة حق، تساعد مادياً في حالات معينة، على خلاف تقديم أعمال تتحدث عن القضية وكي لا تُنسى فقط. وهذه مشكلتنا الكبرى... الذاكرة. وطالبت بأن اقدم "البحث عن عائدة" في إطار سلسلة عروض ضمن المعاهد والكليات الجامعية كي أتلمس رؤية جيلنا الجديد ومدى امتلاكه رؤية خاصة عن القضية الفلسطينية وماذا يعرف عنها بعيداً مما يأتينا من تصورات الغرب والقنوات الفضائية، إلا أنني لم أوفق. الحصار على العراق وليبيا والسودان ليس له مبرر. ربما المشكلة في العراق تكمن في الداخل، ولكن المنطق هو منطق عام. من قال إننا في تونس لا نعيش حصاراً ولو من نوع آخر؟ والعلاقات الفوقية بين دول المغرب العربي أعتبرها أيضاً حصاراً، لأن الحلم الأول بعد الاستقلال، ونحن قريبون بعضنا من بعض، أن نكون شيئاً ما. الحصار قرار فوقي، في التفكير حصار وفي الحدود حصار... في العام 1997 قلت انك ضد عرض الممثل الواحد، وان المسرح عمل جماعي يولّده الشعور بضرورة العدالة، ولكن لم يمض وقت طويل على هذا الكلام، حتّى قدمت عملاً مسرحياً يتناول قضية عادلة هو "البحث عن عائدة" الذي قمت وحدك بتمثيله. كيف تفسرين ذلك؟ - "البحث عن عائدة" لم يكن عرضاً فردياً، لأنه ليس عملاً مسرحياً عادياً بمعنى انه لم يكن تمثيلاً أو خطاباً مباشراً، بل كان بمثابة رسالة مفتوحة. وأردت من خلاله أن أعبر عن نفسي وعلاقتي مع الآخرين. ما زلت مصرّة على أن العرض الفردي ضد المسرح، لأن العلاقة بين ممثلين تمثل نوعاً من القوة والتجاذب ينضم إليهما المشاهد، ومن دون هذا الثلاثي يعتبر العمل ناقصاً. تقولين عن تجربتك في المسرحيات الثلاث "فاميليا"، "عشاق المقهى المهجور"، و"سهرة خاصة": "حين ننتقد المجتمع وحياتنا وذواتنا نقترب من الحقيقة، التي هي الشرط الأساس لنقد السلطة". وخلال قراءتنا المسرحية الجديدة "جنون" نرى أنها غير بعيدة من سياق المسرحيات المذكورة. ألا يمكننا اعتبار ذلك تهرباً من قيام مسرحكم بواجبه في نقد السلطة وتحميلها مسؤولية ما يحل بالمجتمع من أضرار وخراب نتيجة سياسات معينة؟ - هناك حلان، إما أن تقرر دخول معمعة سياسية بحتة مع مجموعات أخرى وتنسى الفن، ولماذا؟ لأننا إذا اعتمدنا على أنفسنا فقط لن ننتج ولن نعيش وهذا صعب. أما الفن ففيه السياسي وأشياء أخرى. الإنتاج المسرحي تابع حياتياً لوزارة الثقافة وبعض المؤسسات. ربما كان هناك مسرحيات حملت الخطاب المباشر كما في "لام" و"غسالة النوادر". وهناك أعمال، الخطاب المباشر فيها يضعفها فنياً. وهذا المنطق لم يصل إلى الجمهور. "جنون" تتحدث عن شاب مريض يعاني بدء انفصام في شخصيته واستغرق علاجه 15 عاماً. في مسرحيتنا حصرنا العلاج في 3 سنوات، واكتشفنا أن أسباب المرض قد تكون وراثية وربما اجتماعية من خلال الخوف الذي كان يعيشه بسبب نظرته إلى عائلته ومجتمعه وبيئته. المسرحية أعطتنا فرصة لأن يكون الخطاب مباشراً، لإدراكنا أن الانفصام حال عامة يعيشها الناس الذين يقولون شيئاً ويفعلون عكسه، بسبب العبء الذي يعيشه التونسي. الرقابة حذفت من المسرحية مشهداً تداولنا فيه بعض المفردات اعتبرتها غير لائقة، فيما تسمح لمسرحيات أو أفلام عادل إمام مثلاً بتمريرها كاملة مع ما تتضمن من ألفاظ نابية وتمنعها عن الناس حتّى في التلفزيون والصحف... إلخ. علماً أن ما نقوله عن أمراض الشباب يعرفه المجتمع بكل فئاته ويعيشه ويعانيه. إلا أنهم يتهموننا بالمسّ بالأخلاق. ولكن أين هي الأخلاقية والناس يشاهدون الفضائيات ويحتك بعضهم ببعض في الشارع. علينا تطوير هذه الأخلاقية، ولكن من يقرر أخلاقيتي... الذين يعيشون في الأبراج العالية ويضغطون على التونسي حتّى يقودوه إلى العنف؟! كأنك امرأة محافظة بل مقموعة خارج خشبة المسرح، وكأن المسرح قناعك للبوح العلني بأسرارك أنت، بل هو فضاء يحرر نفسك أو تحتالين به عليها لتقومي على خشبة المسرح بما لم تجرؤي على القيام به في حياتك الاجتماعية والخاصة؟ هل ثمة شيء من المازوشية يحكم علاقتك بنفسك؟ وهل تقدمين نفسك على الخشبة نموذجاً للمرأة التي تبحث عن توازنها عبر الفن في مواجهة الضغط السياسي والاجتماعي الذي قد يفضي إلى الجنون؟ وهل التمثيل كممارسة إبداعية هو الحل لجميع النساء المأزومات؟ - لست مأزومة لأنني امرأة، بل لأن الأزمة عامة وظاهرة. مقموعة ربما ولكن ليس في المعنى الدقيق للكلمة. وهذا يعود إلى مرحلة الطفولة وأحلامنا الكبيرة. ربما شبت ولكنني لم أكبر وحلمي لم يكن محدوداً وفردياً. كان أكبر وأوسع وتحقق منه البعض والبعض الآخر لم يتحقق. أمورنا تكثر ومشكلاتنا تكبر والأزمة تأتي بسببها. وبمقدار كبر الحلم تكون الأزمة والعكس صحيح. لست نموذجاً لأي شيء، وكل واحد له حلمه وتاريخه، لكن التاريخ يبقى عاماً. عندما تقفين على المسرح هل تشعرين بأنك جليلة بكار أم كل نساء تونس؟ - ليس النساء فقط وإنما الرجال، والنساء اللواتي في رجال تونس لأن في كل رجل امرأة. التواصل مع الجمهور هو الذي يحدد شعورك وأنت على خشبة المسرح. طبعاً لن أكون نساء تونس، لأن جمهور المسرح أصلاً محدود ورقعته تزداد ضيقاً. في "جنون" تجدين نفسك في شخصية المريض لا في شخصية المعالجة النفسانية. واخترت أن يكون المريض "نون" هو شخصية المسرحية. ولفت انتباهي قولك ان مرض "نون" هو مجرد سلوك انحرافي أدى إلى رشد لفظي، إلى إعادة امتلاك الكلمة الصحيحة والشاعرية التي تجعل خطابه غير متماسك في الظاهر أحياناً، ولكن أكثر صدقاً. ألا يؤكد قولنا هنا ما ذهبنا إليه في سؤالنا السابق؟ أي أن الجنون كانحراف سلوكي مثير بتميزه يطابق ربما ما تقومين به على المسرح. إنك تلحّين على هذا الحل الوحيد لشخصياتنا المأزومة، لماذا؟ - لست أديبة وكاتبة بالمعنى المتعارف عليه، إنما أكتب كممثلة، عبر الارتجال على المسرح. أثناء تعديلي النص اكتشفت تفاعلاً كبيراً بيني وبين الشخصية المجنونة، لأنّ الجنون في المعنى الخلاق موجود لدى الشاعر والسياسي والمبدع وكل بحسب خصوصيته. والاختلاف مهما كان ضئيلاً أو الانحراف عن الطريق المرسوم حتى لو كان صغيراً، هو جنون في رأي الآخرين. يتهم المخرج جواد الأسدي المسرح الطليعي التونسي بإشاعة "موضة" في المسرح العربي قوامها تغليب الشكل كهدف على سائر عناصر العرض، ما يفضي إلى أعمال باهتة وفارغة. ما رأيك بما قاله الأسدي وكيف تردين عليه؟ - أولاً لم يكن جواد الأسدي الوحيد الذي قال هذا الكلام، بل كثيرون في مصر ولبنان قالوه. كانوا يظنون أن للمسرح التونسي إمكانات لا تملكها المسارح العربية الأخرى وهذا خطأ كبير. فمن خلال تجربتنا وتجارب التونسيين الآخرين لم يطغ الشكل على المضمون إطلاقاً، لأن المضمون هو أساس المسرح. وهذا ما تحدثت عنه طويلاً وكنت أؤكده، ولكن يحتمل أن يكون من خلال رؤية خاصة وهنا يكمن الخطر. هناك رؤى متعددة ومختلفة مقبلة من هنا وهناك، لكن الاختلاف يثري ولا يقلل من قيمة العمل. المضمون هو الأساس لكنه تابع للشكل، وتكاملهما يبرز عملية الإبداع. وأنا لا أوافق الأسدي الرأي.