يمكن الحديث عن المهرجان المسرحي الذي شهدته تونس وهو يحمل رسمياً اسم "أيام قرطاج المسرحية" انطلاقاً من أكثر من مدخل مغر يحاذي المسرح ويكمله من دون أي قطيعة إلا في الظاهر. كأن نقول أن الشاعر سعدي يوسف حل بتونس غير مدعو رسمياً من المهرجان بل من دائرة ضيقة من الأصدقاء بمناسبة صدور كتاب حواري معه أعده الشاعر وليد الزريبي وإقامة أمسيتين شعريتين في الفضاء الثقافي"ج.أف.كا"في العاصمة التونسية ثم في بيت الشعر. وقد جاء سعدي يوسف بدعوة من شركة فضاءات للإنتاج الفني التي يديرها الروائي والإعلامي ظافر ناجي بالاشتراك مع بيت الشعر بإدارة الشاعر منصف المزغنّي. زيارة سعدي يوسف محورها حفلة توقيع كتاب"سعدي يوسف... الشيوعي الأخير"الذي صدر حديثاً. ويحتوي الكتاب على حوار مطول مع الشاعر يتناول تجربته الشعرية والحياتية مع مختارات شعرية. ويندرج الكتاب في سلسلة"شاهد على الشعر"التي يشرف عليها ويصدرها من تونس وليد الزريبي.ويقول صاحب السلسلة"أنها تحتفي ضمن إصداراتها بالتجارب الشعرية العربية وتعمل على رد الاعتبار للكتابة ولمن أفنى عمره لأجلها. وتسعى الى جبر لائحة أضرار أدبية ومعنوية طويلة لحقت بالكثير من التجارب الشعرية العربية في هذا الزمن المزمن. لكن مدخلاً آخر يمكن أن يتعرض إلى احتفالية من نوع خاص جداً تمثلت في حركة احتجاج واعتصام وتوزيع بيانات قامت بها مجموعة من متخرجي المعهد العالي للفن المسرحي أمام المسرح البلدي في العاصمة قبل عرض مسرحية"خمسون"، وذلك للمرة الثانية على التوالي بعد الاعتصام الذي قاموا به في الدورة السابقة لأيام قرطاج المسرحية، ولم تكن حركتهم مسرحية بتاتاً إلا بالمعنى الذي يمكن اعتبار الحياة كلها مهرجاناً مسرحياً كبيراً. لقد جاؤوا يشتكون من البطالة ويطالبون بتشغيلهم! إذْ ورد في بيانهم:"هل تعمل وزارة التعليم العالي على تكوين أساتذة تربية مسرحية وباحثين متخصصين ليتخرجوا لبطالة الشوارع ومجالس المقاهي؟". أما المدخل الذي لن يشط بنا كثيراً عن مضامين المسرح"المسرحي"فهو حلول الشاعر الفلسطيني محمود درويش نجماً بلا منازع لغياب نجوم الفرجة في هذه الدورة، مستبقاً عرض"جداريته"مسرحياً بإلقائها شخصياً في المسرح البلدي الذي غص بالحضور على رغم صعوبة احتمال التلقي الكامل بالنسبة الى الحضور المتنوع. وقد بدا محمود درويش ملتزماً برغبة مضيفيه فلم يأخذه أي نزق للخروج إلى قصائد أقرب إلى ذائقة الجمهور. جاء محمود درويش للتكريم في هذه الدورة بأكثر من طريقة"أولاً من خلال شعارها"إرادة الحياة من الشابي إلى درويش""وثانياً من خلال أمسية شعرية خاصة به في المسرح البلدي في العاصمة. وقد صرح الشاعر بأنه"فوجئ بإعلان منحه جائزة 7 نوفمبر للإبداع من جانب الرئيس زين العابدين بن علي معتبراً أن"هذه الجائزة تمثل شاهداً على عمق العلاقات المميزة التي تربط بين الشعبين التونسي والفلسطيني، وتشكل رسالة تضامن مع الشعب الفلسطيني وتقدير الشعب التونسي الممثل في رئيس الدولة للإبداع الفلسطيني" وعن تكريمه في أيام قرطاج المسرحية أكد أن مجرد دعوته إلى هذا المهرجان العريق يعد في حد ذاته تكريماً، معتبراً أن الشعر والمسرح توأمان انفصلا في ظروف معينة، لكن العلاقة الجنينية والإبداعية بين الفنين لا تزال مترابطة فالشعر يغني المسرح والمسرح يغني الشعر. وحيا الجهود التي يبذلها المشرفون على المسرح في تونس لإعادة العلاقة بين المسرح والشعر وهي تجسمت من خلال الدورة الحالية لأيام قرطاج المسرحية. وعبّر عن اعتزازه بجمعه مع الشاعر التونسي الكبير أبي القاسم الشابي في شعار هذه الدورة مشيداً بالإسهامات التي قدمها الشابي لتطوير الشعر العربي الحديث. وعن مسرحية"جدارية"المشاركة في المهرجان أفاد محمود درويش بأن مجموعة من المسرحيين الفلسطينيين حولوا قصيدته التي تحمل العنوان نفسه إلى مسرحية ملحمية تناقش سؤالاً وجودياً أزلياً يرتبط بالحياة والموت والعلاقة بينهما. فالمسرحية ترجمة لتجربة محمود درويش الوجودية مع الموت وانتصار إرادة الحياة. وأكد الشاعر الفلسطيني أنه لا ينوي الدخول في مغامرة الكتابة للمسرح خشية الفشل لكنه استدرك قائلاً:"إن في نصوصي ما يؤهل لاستخراج عمل درامي مسرحي بحسب آراء المسرحيين". ولدى سؤاله عن رأيه في الشعر العربي المعاصر أوضح أن المشهد العربي في هذا المجال مكتظ ومزدحم بالتجارب والمحاولات والاختلافات بين المدارس والقراءات الشعرية. وبيّن أن الإيجابي في هذا المشهد هو الحيرة في البحث عن خيارات مختلفة معتبراً أن القلق والحيرة يمدان الشعر بدوافع وحوافز إبداعية وتجريبية متنوعة. ونذكر أن"الجدارية"أعدها المسرح الوطني الفلسطيني بإخراج أمير نزار زعبي وأداء مكرم خوري وخليفة ناطور وريم تلحمي وربا بلال وجميل خوري وريمون حداد ورمزي مقدسي وتمام قانمبو. وسبق عرضها في اسبانيا وسويسرا والسويد والدنمارك ودمشق. وغلب الإلقاء على طريقة الأداء فيها. ولكن لا ينبغي أن ننسى أكبر سجال شهدته أيام قرطاج المسرحية بسبب إلغاء قسم المسابقة منذ الدورة السابقة التي بدأت بإشراف المخرج محمد إدريس. وما زاد الطين بلة أن إدريس استفز خصومه أكثر عندما أشار إلى أنه يرفض منطق المسابقة"لأننا لسنا في حلبة خيول"استخدم كلمة"زوايل"العامية التونسية التي تدل على الخيول في حالتها الإسطبلية الخام!. جدال واكب العروض في السر وفي العلن، في الجلسات الخاصة كما في وسائل الإعلام. ولن ينتهي هذا الجدال غداً، بالتأكيد! مرة أخرى"يمكننا تجاوز كل ذلك والانتقال إلى مشكلة أخرى انطلقت بسبب حفلة الافتتاح، أو بالأحرى بسبب غياب مظاهر الاحتفال في حفلة الافتتاح. فقد اختارت إدارة أيام قرطاج المسرحية في دورتها الثالثة عشرة أن تبرمج في سهرة الافتتاح عرضاً يحمل عنوان"شوكولا"من إنتاج المسرح القومي السوري، وكان قد نال جوائز عدة آخرها جائزة أفضل عرض مسرحي في الدورة الأخيرة لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي. والمسرحية من تأليف وإخراج رغداء الشعراني. فقامت الدنيا ولم تقعد: هل يمكن مهرجان دمشق المسرحي أن يبرمج مسرحية تونسية في حفلة افتتاحه؟ المخرج التونسي المعروف المنصف السويسي قال في إحدى مقابلاته:"أتمنى ألا تقع الغاءات أخرى لئلا يتمّ إلغاء المهرجان، وبذلك تتجسد عبقرية مديره الذي كأنه كلف بتفقير أيام قرطاج المسرحية لا بتنميتها وتطويرها". والمخرج التونسي حكيم المرزوقي المقيم في دمشق جاء ضيفاً على ألا يأتي بمسرحيته! فقد اشتكى هو الآخر قائلاً:"فرحتي بالعودة للأسف لم تكتمل وان دعيت كضيف فأنا لست مشتاقاً لعصافير باب البحر فقط بل لجمهور تونس... عرضنا في مختلف أنحاء العالم وترجمت أعمالنا ونشرت في ثلاث لغات وقدّمت فرق أجنبية كثيرة نصوصي. أما مشكلتي فإنني أعامل في تونس كسوري وفي سورياكتونسي."! ما عدا ذلك فقد سارت أيام قرطاج غنية بالعروض العربية والأفريقية والأوروبية، بعيدة، بالضرورة، من الجمهور الواسع الذي أشار في أكثر من استطلاع أنه لم يسمع أو لا يعرف كيف يحضر العروض، فيما أشار آخرون إلى المسرح التجاري الذي لا مسرح غيره في التسلية ونسيان مصاعب العيش في نظرهم! وتألقت مسرحية" خمسون"للفاضل الجعايبي وجليلة بكار التي كتبت نص المسرحية"وها هي تصدر في كتاب أيضاً وتنظّم لها حفلة توقيع على هامش الأيام ، وما أكثر هوامشها!