خلال الموسم الصيفي للمسرح المصري، قدمت فرقة الطليعة مسرحية "الجائزة" في قاعة "زكي طليمات"، من تأليف كرم النجار، واخراج محسن حلمي، واداء فاروق الفيشاوي وآخرين. و"الجائزة" هي النص الثالث لكرم النجار، بعد "البرواز" قدمته فرقة اقليمية، اخراج محمد توفيق، 1968، ومونودراما "الحصان" اخراج أحمد زكي، تمثيل سناء جميل، 1983. يبدو كرم النجار، في أعماله كلها، منشغلاً بفكرة واحدة هي التناقض الابدي بين الوجه والقناع ، بين الظاهر والخفي ، بين الصورة والاطار. ويبقى هذا التناقض الذي يسميه مرة ازدواجية، ومرة تنكراً، محرك الرؤية المسرحية وعصب الحبكة الدرامية. "البرواز" مسرحيته الاولى، تقوم كلها على وقوف الشخصيات امام لحظة الحقيقة، فتكشف كل منها عن مكنوناتها، المختلفة كلياً عما نراه في الظاهر. وهذه القاعدة يستوي عندها الجميع: مدرس الجامعة والفنان واللص والشرطي والقاتل المحترف، اذا اختا ر كل منهم "بروازاً" يحيط به ويخفي حقيقته عن الآخرين. ولحظات الكشف هذه تأتي بشكل عفوي، من دون ان يكون هناك ضرورة فنية تستلزم خلع القناع وتحطيم البرواز. لكن السؤال يبقى عالقاً رغم كل شيء: هل ما كشفته هذه الشخصية او تلك هو الحقيقة، ام انه مجرد برواز آخر؟! في مسرحيته الثانية "الحصان"، تحقق الدكتورة أميمة القناوي أقصى درجات النجاح الوظيفي، اذ تبلغ منصب "وكيل أول الوزارة". وبعدما بلغ بها "الحصان" قمة الجبل يلتقطها المؤلف في لحظة نموذجية، بمناسبة تلبيتها الدعوة الى تسجيل حديث في التلفزيون. هكذا نكتشف انها وحيدة، هاجر ابناها الى اميركا حيث أقاما وعملا وتزوجا. ومن حولها كل لوازم الوحدة: التليفون وجهاز التسجيل وأدوات الزينة و"الديكتافون" الذي يربطها بزوجها المقعد في الغرفة الأخرى، وغير ذلك من أدوات مراجعة الماضي واستعادة الذكريات. وتتراكم التفاصيل الصغيرة الدالة على تلك الازدواجية، حتى تتخذ الدكتورة قرارها بالاستقالة من عملها وبوضع حد لحالة الازدواجية التي تعيش ولا شك ان الذين شاهدوا هذا العرض، يتذكرون جيداً اداء سناء جميل المميز في انتقالها من لحظة شعورية الى اخرى بتلقائية وسلاسة.... البطل صانع أقنعة لا عجب اذاً ان يكون بطل "الجائزة" بدوره صانع أقنعة. فهذا ال "ماكيير" فنان الماكياج في مسرح الدولة، حصل على الجائزة التشجيعية، ونحن نعيش معه - هنا ايضاً - اللحظة النموذجية: كلنا ينتظر ان يتسلم بطلنا جائزته من مسؤول كبير. قيل اولاً انه رئيس الهيئة، ثم قبل انه الوزير، ثم رئيس الوزراء وفي النص اشارات الى امكان حضور رئيس الجمهورية نفسه!. الاستعدادات تجري على قدم وساق، وتتصاعد الحركة وحدة التوتر حسب أهمية المسؤول المعلن عن قدومه. وليس مهماً بعد ذلك ان يقوم رجال الأمن بابعاد "الماكيير" الذي يتم كل هذا الاحتفال من أجله، لأنه لا يحمل تصريحاً بالدخول في النص يلقى القبض عليه ويتهم بأنه ارهابي!. في نهاية الامر، يبدو العمل الذي نحن يصدده أشبه بال "مونودراما" عرض ممثل واحد. صحيح اننا نرى على المسرح مهندسة مسؤولة عن اعداد الحفل، وعاملين ينفذان اوامرها، ورجلي أمن لا يلبث عددهما ان يزداد... الا ان هذه الشخصيات تبقى "ظلالا، كان يمكن الا نراها". حتى المهندسة التي تشغل حيزاً بارزاً على الخشبة، لا أهمية فعلية لها، ولا يكاد حضورها يضيف شيئاً الى ايقاع العمل. وما تقوله في مونولوجها عن افتقاد المساواة بين الرجل والمرأة يقوله البطل على نحو آخر. طوال ساعة كاملة ينفرد بنا مرسال عبد البر السحيمي، ويصحبنا في رحلة الى عالمه الداخلي وذكرياته: من طفولته في الصعيد مثل الدكتورة أميمة الى عمله في حانوت حلاق، مروراً بجوانب من عمله في فن الماكياج، وعلاقته بأبيه وأمه وحبيبته... لكن أهم ما يرسخ حضور الشخصية ويشكل خصوصيتها وملامحها المميزة، تلك الافكار التي يصر السحيمي على نقلها الينا حول هذه المسألة او تلك. ولعل هذه نقطة الضعف الرئيسة في النص، فالمؤلف اعار البطل وعيه هو وفرضه عليه. كل تلك الافكار بشأن التفرقة - منذ التنشئة الاولى بين الرجل والمرأة، وبخصوص معاناة المواطن في رحلته اليومية، وحول الديكتاتورية: كيف تبدأ في التربية الاولى، وكيف تتكون، وحول النظم في العالم الثالث حتى قضية البوسنة والهرسك تجد لها مكاناً هنا! وسواها... كلها نابعة من مواقف المؤلف اكثر من انتمائها الى وعي الشخصية. أصداء من سعد الله ونوس ومحاولة المؤلف في الجمع بين هذا النثار من الافكار، ضمن اطار واحد يتمثل في فكرة "التنكر"، لا تبدو كافية ولا مقنعة. ناهيك عن كون هذه المحاولة تحمل اصداء من فكرة سعد الله ونوس عن ضرورة التنكر ووظيفته في "الملك هو الملك" 1989، فتأتي كأنها مجرد تنويع عليها راجع بشكل خاص "فاصل 2"، لافتة: حكاية عن تاريخ التنكر وسر الجماعة السعيدة. كان أمام المؤلف فرصة ثمينة كي يقدم الينا وعي "الماكيير" وأفكاره، لا وعيه هو وأفكاره، لكنه اضاعها وعمد الى التفلسف. وأنى لانسان بسيط عمل صبياً لحلاف بعد ان ترك التعليم مبكراً، أن يتحدث عن "التنكر في الشكل"، و"التنكر في المضمون" والفرق بينهما، الخ. وربما كانت هذه المناقشة، على اية حال، من لزوم ما لا يلزم. فالأهم هنا، يكمن في مكان آخر. ان المونودراما، او عرض الممثل الواحد، يرتبط نجاحها او اخفاقها بأداء الممثل سلباً او ايجاباً. فهي، على وجه العموم، لون نادر من ألوان العرض المسرحي، يسعي الى تعويض المتفرج ما يفتقده من حيوية الصراع، وتعدد الشخصيات، وتباين الرؤى والمواقف، وصولاً الى تلون الاداء وانفساح العالم... وغيرها من العناصر الموافرة في نص مسرحي متكامل. أي فهم للمونودراما؟ وليس امام المونودراما سبيل لتعويض هذا كله الا من خلال الممثل الواحد. غير انها في مسرحنا تستخدم لهدف آخر، فإذا بها مهرب للمخرجين والمديرين من عناء توفير طاقم متكامل من الممثلين. كما انها تتيح فرصة ثمينة لتدليل الممثل و"تأطيره"، ووضعه وحده طول الوقت في "النقطة الذهبية" من خشبة المسرح. هكذا نرى عدداً كبيراً من الممثلين - مجيدين وغير مجيدين - يتعاطون مع هذا الفن، من المنطلق الضيق الذي اشرنا اليه. هناك بعض الاستثناءات لحسن الحظ، منها الاداء المميز الذي قامت به سناء جميل في مسرحية "الحصان". ولكن كم لدينا ممثلة من طراز سناء جميل؟ ولا بد من الاشارة هنا، الى كون المونودراما تشكل في احيان كثيرة، عقبة في وجه المخرج، وقيداً يحد من قدراته الابداعية. فهو لا يملك سوى قطعة واحدة على رقعة الشطرنج لا يهم ان كانت بيدقاً ام ملكاً ام بينهما!. لذا لم نر في هذا العرض سوى لمحات قليلة متباعدة، تنم عن وجود المخرج محسن حلمي، وتحمل بصماته. وهذه اللمحات لا تتجاوز مشاهد الاب والأم، ومشاهد الاستعراض العسكري، ثم احذية رجال الامن التي تملأ اعلى المسرح... الفيشاوي والنجومية السهلة ويبقى العرض كله، كما ذكرنا، رهيناً بممثله الواحد. فهل هناك فرصة اثمن امام الممثل كي ينفرد بجمهوده جاء من أجله، فيؤدي ادواراً متباينة لا تتاح له في عرض يشاركه فيه آخرون؟ لكن فاروق الفيشاوي، رغم كونه خريج معهد مسرح، ليس ممثل مسرحية بقدر ما هو "نجم" سينمائي وتلفزيوني. فهو يلجأ الى تقنيات اداء تختلف اختلافاً اوضح من ان يشار اليه مع متطلبات الخشبة وأحكامها. ولهذا ربما، لم يقف الفيشاوي على الخشبة الا في بعض عروض المسرح التجاري. وقد اجتهد الفنان المذكور في ارضاء جمهوره، واستطاع بحضور جذاب ولياقة معقولة، ان يجعلنا نقضي ساعة من دون ضجر الامر الذي اصبح نادراً في مسرحنا!. وتنقل، بخفة، بين مختلف الأدوار: الأب، الأم، المدير، الحلاق، مذيع العرض العسكري، اساتذة المعهد، المواطن العادي... وكي يزيد من متعة جمهوره غنى له، ورقص مرتين، فاتسم اداؤه كله بطابع "اللازمات" و"الكليشيهات" لا الجدة والابتكار. وأنى لممثل مجهد، مثقل بالعمل، ان يفعل غير ما فعل ال فيشاوي، معتمداً على حضوره وعلى جاذبية النجم التي يتمتع بها، مطمئناً الى كون الجمهور جاء من أجله، وسيكون سعيداً في تقبل أي شيء يقدم اليه. وتبقى ملاحظة أخيرة، تساعد على فهم جوهر هذه التجربة ووضعها في اطارها. فالعرض مقدم انطلاقاً من منطق "مسرح التلفزيون". أي ان جل ما يسعى اليه مبدعوه، في تقديرنا، ان يعرض بضع ليال يتم خلالها تصويره، ثم ينفض سماره.