"كيف يتم تحقيق السلام العادل والثابت بين اسرائيل والفلسطينيين؟"، هذا هو السؤال - الجواب القريب غير المقصود والذي يعبّر عن سذاجة لا حاجة لمعالجتها هنا. وفي الحقيقة فقد تعددت الاسئلة - الأجوبة مع تعدد الأطراف المشاركة في "العملية السلمية" وتغيرت الأجوبة - الاسئلة مع الزمن، خصوصاً ان العملية السلمية هي اولاً عملية - Process في طبيعتها ومتغيرة في صيرورتها. والعملية السلمية ليست مطلقة في جوهرها بل خاضعة لديناميكية ما تنجزه ومتأثرة بما لم ولن تحققه. وهي ليست هلامية او متخيلة، وانما اكثر العمليات تأثيراً على الواقع السياسي والاجتماعي. لكنها في الوقت نفسه متشكلة استراتيجياً وتاريخياً بناء على معطيات محلية واقليمية ودولية. ومما يزيد من تعقيد اعطاء السؤال/ الجواب الوافي هو ان "العملية" تفتقد مرجعية صلبة وأسساً واضحة تتعدى القرار 242 والتفسير الاسرائيلي الاميركي له متفقاً عليها. ومما يضيف تعقيداً الى تعقيدها انها تعني اشياء كثيرة، ومتناقضة احياناً بحسب كل طرف مشارك، في حين انها طورت لغة مشتركة ومصطلحات خاصة بها يرددها الفلسطيي بسذاجة احياناً ويكررها الاسرائيلي ويؤكد عليها او يحسن صياغتها الاميركي، مما يصعّب عملية تفكيكها من اجل فهم مركباتها ومقوماتها. فتصبح اعادة الانتشار بدلاً من الانسحاب والانفصال الفيزيائي والاستيطان البراغماتي والقانوني احياناً والألفبائية المناطقية: منطقة أ وب وج و"محمية طبيعية"، ومن ثم "الأمن الاسرائيلي" القومي؟ الفردي؟ او "الرعاية"، "الوساطة" "الحيادية" الاميركية. هي مصطلحات تتغير بحسب الظرف والموضوع حيادية في قضية الاستيطان وتحديد اعادة الانتشار، مثل الشفافية والتبادلية والمواعيد المقدسة وغير المقدسة… كلها مصطلحات خاصة بقدر ما هي متغيرة في معانيها واستعمالاتها. وتغيب اللغة المعترف بها دولياً والمؤتمنة في المواثيق والمعاهدات وقرارات "الشرعية" الدولية ؟ تغيب عن العملية السلمية، ويصبح خطاب "المرحلية" بخصوص التسوية النهائية او بخصوص الدولة والسيادة والحدود والأمن، وهي قضايا ومصطلحات تحمل ارثاً تاريخياً وقانونياً هائلاً من نهاية القرن التاسع عشر، يصبح خطاباً مميزاً في تقلباته وتفسيراته حتى انه حيّر الأوروبيين وصدم الفرنسيين الذين يفتخرون بدقة لغتهم القانونية وغير القانونية ويعولون على النص القانوني وعلى وضوح الاتفاقيات وتفصيلها. الا ان نجاح الولاياتالمتحدة بسلخ القضية الفلسطينية عن الأممالمتحدة واخراج النزاع العربي - الاسرائيلي من بوتقته الدولية بعد افراغه من المركبات القانونية التي عرفت به، ان كان ذلك قرارات مجلس الأمن ام مؤتمر جنيف الرابع وبنوده المتعلقة بالاحتلال، هذا النجاح مكّنها من نقل ادارة الصراع وادارة حلّه من القطاع العام - الدولي، الى القطاع الخاص - الاميركي حيث قوانين اللعبة لا تعتمد الشرعية الدولية بل الضمانات الاميركية. هذا على رغم ان واشنطن تملك اكبر عدد من الأسهم في القطاع العام - الدولي ان في مجلس الأمن او في المؤسسات المالية الدولية، الا انها فضّلت نقل ادارة النزاع وادارة سبل حله الى مزرعتها الخاصة التي اطلق عليها احياناً اسم واي بلانتيشين ثم تغير الاسم الى واي ريفير بسبب ما يعنيه الاسم واي بلانتيشن من اخضاع الاميركيين لأعدائهم من طريق الاتفاقات. وهكذا اصبحت المرجعية اميركية وعناوينها اوسلو، وواشنطن والقاهرة وشرم الشيخ وواي ريفر بعد طابا وإيرتز وباريس. وأخذ "الراعي" الاميركي يتصرف في مزرعته كما يتصرف كل صاحب عمل، يقسّم الوظائف والادوار، ويعطي الضمانات السرية والعلنية التي تشكل العمود الفقري والحماية لكل طرف من الاطرف. وهذه ايضاً اختلفت مع مرور الزمن، فهناك "ضمانات بيكر" و"ضمانات كريستوفر" و"ضمانات اولبرايت"، كما ان هنالك "ضمانات بوش" و"ضمانات كلنتون". راعي "العملية" لا يتورع عن تغيير قوانينها والعبث بروزنامتها، خصوصاً اذا كان حليفه الاستراتيجي غير راضٍ. وهذا الحليف هو الحصان الرابح الذي تضع واشنطن رهانها عليه مع كل سباق في التسوية. وهكذا تصبح اعادة الانتشار رهينة التأويلات وضحية ممارسات الطرف الأقوى في العملية، لأن العملية بمجملها خاضعة لقانون القطاع السياسي الخاص الاميركي الاسرائيلي… انتخابات، اقتصاد، علاقات دولية… الخ متأثرة بحساباته الخاصة ومشروطة بموازين القوى الاقليمي والدولي او بالأحرى مسيّرة بحسب الخلل في هذه الموازين. لكن هذه الثرثرة بخصوص كثرة التعقيدات لن تغني ولا تحول دون ضرورة الاجابة عن السؤال: اذا كانت العملية السلمية هي الجواب، فما هو السؤال؟ لا يدعي احد في اسرائيل او في الولاياتالمتحدة ان العملية السلمية تشكل بمجملها حلاً عادلاً او اجابة وافية للنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي او حتى للاحتلال. ولا يبني العرب آمالهم عليها لتحقيق امنهم واستقرارهم ولا يعتبرها الفلسطينيون استجابة لصلواتهم. لقد جاءت العملية السلمية لتجيب عن اسئلة مختلفة سنحددها في ثلاث فترات وبين ثلاثة اطراف: الولاياتالمتحدة، اسرائيل والفلسطينيون. المرحلة الاولى: مرحلة مدريد وهي لم تدم طويلاً. سألت واشنطن، او ادارة بوش بالتحديد، نفسها: كيف يمكن استثمار الانتصارات العسكرية في الخليج والانجازات الاستراتيجية مع نهاية الحرب الباردة، في الشرق الاوسط وكيف يمكن استغلال الهيمنة الاميركية في عالم القطب الواحد لفرض ارادتها على النزاع العربي - الإسرائيلي وتثبيت ادارتها المنفردة لعملية الحل... فجاء مؤتمر مدريد وبدأت العملية السلمية كإجابة مبدئية عن السؤال الكبير: كيف يمكن الانفراد في استغلال الفرصة السانحة لإعادة انتاج العلاقات الاميركية - الشرق أوسطية تحت عنوان باكس اميركانا؟ اسرائيلياً، وفي حكومة إسحق شامير - موشي إرينز بالتحديد، صيغ السؤال بشكل مختلف: كيف يمكن استغلال الحمامة الاميركية والاستثمار في العلاقة الاستراتيجية مع واشنطن لفرض مفاوضات ثنائية مع الأطراف العربية خارج اطار جنيفوالأممالمتحدة؟ وكيف يمكن سلخ منظمة التحرير عن القضية الفلسطينية في المفاوضات وزجها في الوعاء الأردني - الفلسطيني بعيداً عن اعتراف بها او بما تهدف اليه؟ وفي منظمة التحرير وعند الفلسطينيين عامة أبرز السؤال كيف يمكن احتواء مخلفات الحرب الباردة بعد خسارة الحليف الاشتراكي ومعالجة أو بالاحرى دفع فاتورة الموقف في حرب الخليج الثانية؟ وكانت الاجابة تتضمن القبول بشروط اللعبة الجديدة من خلال تشكيل "وفد الداخل" لخوض المفاوضات بعيداً عن تونس وقيادة منظمة التحرير. التقت الاهداف الثلاثة وتشابكت الأسئلة عند العملية السلمية التي شكلت لفترة انتقالية نوعاً من جردة الحساب لمخلفات حرب الخليج والحرب الباردة، استعرضت فيها اسرائيل خبثها وواشنطن عضلاتها... وأكدت فيها قيادة منظمة التحرير غريزة البقاء لديها. الا ان عضلات اميركا تغلبت على خبث شامير، وجاءت الضربة القاضية برفض واشنطن اعطاء اسرائيل ضمانات للعشرة بلايين دولار التي احتاجت اليها لتوطين مئات الألوف من المهاجرين الروس. تغيّرت الادارة في واشنطن وتغيرت الأولويات، لكن السياسة بقيت على ما هي في الشرق الأوسط ولو بأقل طموحات وأقل عجرفة وثقة بالنفس بتغيير الشرق الأوسط. وتغيرت الحكومة في اسرائيل وتغيرت الأولويات فعمل العسكري رابين مع السياسي بيريز لأول مرة بتقاسم وظائفي بهدف البقاء في السلطة والحفاظ على مكتسبات العلاقة مع واشنطن والتي اخذت تهددها سياسة ليكود في الفترة السابقة. وخرجت منظمة التحرير من جلدها وقبلت بكل ما فرضته اسرائيل عليها املاً بالخروج من عزلتها ومحنتها... وإفلاسها السياسي والمالي. وجاء اوسلو عنواناً جديداً للعملية السلمية وإجابة عن سؤال جديد ومن نوع آخر: كيف يمكن ان تنجز المفاوضات حلاً يضمن احتواء القضية الفلسطينية ويكفل تجزئتها الى قضايا وجدولتها في روزنامة طويلة الأمد ويخرجها من وعائها العربي والدولي ويضع منظمة التحرير الغارقة والمفلسة تحت المجهر الأمني والسياسي الاسرائيلي بضمانات اميركية غربية ودولية؟ هذا هو السؤال الذي طرحه الاسرائيليون على انفسهم في أوسلو وهذا ما اعتبروه مقبولاً من واشنطن - كلينتون التي اخذت على عاتقها الوقوف الى جانب اسرائيل ودعمها وتقويتها من دون اللجوء الى نظام اقليمي جديد يعتمد احلافاً استراتيجية مع العرب، كما حاولت ان تفعل ادارة بوش مع هؤلاء الذين وقفوا معها في حرب الخليج. واعتبرت واشنطن ان عملية اوسلو ستشكل النواة الصلبة لنظام اقليمي جديد يعتمد العلاقة الاستراتيجية مع اسرائيل والمفاوضات السياسية العربية معها بأسلوب اوسلو، الثنائي، الأمني، المرحلي وأحياناً السري وبضمانات اميركية. وهكذا تصبح "العملية السلمية" مركّزة ادارة الازمات والمرجع السياسي للعرب او الاسرائيليين في كل مرة قامت بها اسرائيل بانتهاك حقوق الانسان أو توسيع الاستيطان، حتى انها أصبحت البديل من الأممالمتحدة ومجلس الأمن والوعاء العربي، التضامني او الشكلي. وفي هذا الاطار تلعب واشنطن دور الحَكَم وتشغل مكان الأغلبية في مجلس الأمن. وتأتي العملية السلمية اجابة عن السؤال الاميركي الجديد: كيف يمكن الحفاظ على الانجازات الاستراتيجية والانتصارات العسكرية وإرث بوش - بيكر السياسي مع خفض سقف التوقعات العربية ورفع معنويات الاسرائيليين وإعطاء الفلسطيني بعض الأمل وبعض المال وبعض الاحترام حتى يكون هنالك ما يخسرونه اذا ما لم يلعبوا بحسب قوانين اللعبة الجديدة التي تسمح او سمحت اصلاً بدخولهم الى المناطق المحتلة؟ اما القيادة الفلسطينية فسألت نفسها: كيف يمكن اللعب على هامش العلاقات الاميركية - الاسرائيلية واستغلال الفروقات السياسية بين نظرة واشنطن الشرق أوسطية ونظرة اسرائيل الأمنية، وبين مصالح واشنطن السياسية والاقتصادية في المنطقة وتوسيع الاستيطان الاسرائيلي، من اجل تحسين العلاقات مع الغرب وفتح صفحة جديدة مع الولاياتالمتحدة وتحسين شروط اللعبة السياسية وتقوية الوجود القيادي الفلسطيني على الأرض الفلسطينية حتى يكتمل الالتئام بين المجتمع في الداخل والقيادة الآتية من الخارج وجمع ميزانيات ومساعدات تعطي العمل الفلسطيني المزيد من الطاقة التي تمكّنه الاستمرار على طريق الصراع مع اسرائيل ولو على حساب غض النظر عن خروقات كبيرة وبتنازلات - أحياناً تاريخية - وفصل مسألة الاحتلال عن قضية الشعب ولاجئيه. ومرة أخرى وجدت الأطراف الثلاثة في "العملية السلمية" الاجابة عن اسئلتها الأهم والتي تغيّرت في طرحها مع مرور الوقت ومع تحقيق الكثير في كل مرحلة. لكنها أتت هي ايضاً بجديد وفرضت أسئلة جديدة. فإذا اكتملت الانجازات الاميركية والاسرائيلية وحتى الفلسطينية من "المرحلية" في العملية السلمية، فهل حان الوقت لجردة حساب ولتسوية شاملة تحسن استغلال الفرصة المتاحة للتوصل الى حل تاريخي بين الاسرائيليين والفلسطينيين؟ هذا السؤال أخذ منحى مهماً مع دخول حكومة نتانياهو سنة 1996 التي رفضت ان تعطي الفلسطينيين في "المرحلي" اذا ما لم يتعهدوا لها بسقف طلباتهم ومتطلباتهم السياسية في الوضع "النهائي". وكان يومها الوزير الروسي أناتولي شيرانسكي أكثر المعارضين شدة لاستمرار المفاوضات المرحلية من دون ضمانات في ما يخص الوضع النهائي، أميركية كانت أو/ وفلسطينية. اما السلطة الفلسطينية فاعتبرت انه لا بد من تطبيق ما اتفق عليه أولاً حتى يبدأ الحديث عن "النهائي". وشكلت هذه المرحلة ليس تراجعاً فحسب بل وعملت على عكس الادوار بين سلطة فلسطينية طالبت بتسوية شاملة وحكومات اسرائيلية اصرّت على المرحلية في التفاوض وفي التنفيذ، الى حكومة اسرائيلية تطالب بمفاوضات لتسوية تاريخية خلال أشهر مع تعهدها عدم الاعتراف بالسيادة الفلسطينية او القبول برجوع اللاجئين او تعويضهم واصرارها على القدس عاصمة وضم المستوطنات... الخ وسلطة فلسطينية ترفض الولوج الى "النهائي" قبل إتمام "المرحلي" من اعادة انتشار وبناء مطار ومعبر آمن... الخ. وتدخلت واشنطن مرة اخرى في "واي ريفر" ولاحقاً في "شرم الشيخ" لجسر الهوة بين "المرحلية" و"النهائي". وإذ فشلت واشنطن مع حكومة نتانياهو الا انها نجحت مع حكومة باراك، ما أدى الى ربط عضوي وروزناماتي بين "المرحلي" و"النهائي" والبدء في اتمام "المرحلي" وفي التفاوض على "النهائي". لكنها انجرت وراء تهديدات نتانياهو بوقف "المرحلي" وتهديدات عرفات بإعلان الدولة اكثر مما سألت نفسها ما هي المصلحة الأميركية في المرحلة الجديدة وعلى ماذا تجيب العملية السلمية. وهذا أيضاً ما جرى مع اسرائيل والفلسطينيين حين دفعتهم ديناميكية العملية السلمية الى اتخاذ مواقف من دون التفكير جلياً عن ماذا ستجيب العملية السلمية في هذه المرحلة، فأخذ كل منها يعلن مواقف مبدئية وغير "قابلة للتغيير" على حد ما يدعي في ما يخص قضايا "الحل النهائي": القدس، اللاجئون، الاستيطان، السيادة/ الحدود والمياه. ولكن، وبسرعة تبين انه في ما يخص الاسئلة التي صاغها كل من الاطراف عن الوضع النهائي، لا تشكل العملية السملية القاعدة المشتركة للإجابات عنها. وتسأل حكومة باراك: كيف يمكمن ان نحصل على اكثر ما يمكن ونعطي الفلسطينيين أقل ما يمكن ضمن صفقة تاريخية مبنية على نظرة امنية اسرائيلية؟ ويسأل الفلسطينيون انفسهم، بعد ان نالوا من اعتراف الاميركيين ما يستحقون وأكثر، وبعد ان بسطوا نفوذهم الأمني او الاداري على 40 في المئة من الضفة الغربية و60 في المئة من قطاع غزة: كيف يمكن ان نسترد ما خسرناه في حرب 1967 وان نعوّض ما خسرناه في حرب 1948 وان ننطلق الى الأمام اقتصادياً وسياسياً في اطار دولة سيادية في الضفة الغربية وقطاع غزة عاصمتها القدس؟ اما ادارة كلينتون فتسأل نفسها: كيف يمكن احراز انتصار ديبلوماسي كبير في السنة الأخيرة لفترة كلينتون الثانية وعشية الانتخابات الاميركية لتعويض البرت غور عن فضائح كلينتون الجنسية، وكذلك نقش اسم اميركا على حجر الزاوية في مرحلة البناء ما بعد السلام؟ كيف يمكن ذلك وليست هنالك ارادة اميركية ومقدرة البيت الأبيض محدودة في سنته الأخيرة، خصوصاً على صعيد الميزانيات؟ من دون ميزانيات؟!! وهل يعقل ان يصل الاسرائيليون الى اي اتفاق من دون تعويضات هائلة، فإذا كلفت اعادة الانتشار بلايين الدولارات فكم ستكلف التسوية الشاملة؟ وهل هنالك اجابة اميركية او دولية عن مسألة الفلسطينيين - اللاجئين وغيرهم - من دون تعهد مالي وضمانات سياسية؟ وكيف ستتدبر واشنطن هذا والعالم ابعد ما يكون عن مزاجية العطاء سواء في أوروبا أو الخليج او حتى في اليابان وغيرها. الكلام في اسرائيل، خصوصاً في قضايا مثل المياه والاستيطان والأمن وإعادة الانتشار لا يقل عن عشرات البلايين، والأمر لا يختلف او يجب الا يختلف كثيراً عند الفلسطينيين. لكن الميزانيات هي حجر العثرة الأول، ويبقى ان احتياجات كثيرة وتساؤلات كبيرة بل وأسئلة كل من الاطراف في هذه المرحلة الجديدة لا تجيب عنها العملية السلمية التي نعرفها حتى لو وضعت لها ادارة كلينتون عنواناً جديداً مثل "كامب ديفيد". فقضايا القدس والاستيطان والسيادة لا تحل في اشهر. وليست هنالك رؤية او حاجة اسرائيلية او فلسطينية مشتركة يمكن ان تسمح بالقفز عليها او تأجيلها ! او احتوائها. فهذه بمجملها وكل واحدة منها على حدة تشكل تناقضاً بين الموقفين الاسرائيلي والفلسطيني، وهوة كبيرة امام التوصل الى حل تاريخي. لم تستطع العملية السلمية أن تغيّر من مواقف الاطراف بشأن القضايا المحورية، ولم تنجح الاطراف هذه المرة في جعل العملية السلمية الطريق الوحيد امامهم او على الأقل، اقل كلفة لهم في المرحلة الصعبة وعند المنعطف الهام. فكيف الأمر وليست هنالك ارادة اميركية ولا ميزانيات او ضمانات مقابل أية تنازلات من الطرفين؟ بكلمات أخرى تغيب اليوم النظرة الاستراتيجية الاميركية الشاملة والطارئة بعد ان سلّم العرب منفردين ومجتمعين أمرهم لواشنطن، وبعد ان تبين ان حلاً سورياً اسرائيلياً على قاعدة "وديعة رابين" في طور التحقق. وتغيب الارادة السياسية في نهاية عهد كلينتون. وتبين ان حكومة باراك الأمنية غير قادرة أو غير راغبة في معالجة موضوع السلام على انه افضل السبل وأقصر الطرق الى الأمن المتبادل على المدى البعيد، وان الأمن وحده والهيمنة الاسرائيلية مضافة اليه لن يحقق السلام. وكذلك فان توجه باراك الذي يقول: "نحصل على اكثر ما يمكن ونعطي اقل ما يمكن" والذي من المفترض ان يكون ذكياً في أية معاملة تجارية او "ضرب" تجاري من نوع الصفقة لمرة واحدة، الا ان هذا التوجه قصير النظر عندما يتعلق الأمر بشعبين متداخلين ومتصارعين على قطعة أرض صغيرة يعتبر كل منهما ان كل حجر فيها مقدس او لا غنى عنه. اسرائيل، بكلمات اخرى، ليست مستعدة لتسوية شاملة ونهائية والعملية السلمية بعنوان "الحل الدائم" لن تجيب عن اسئلتها ولن تحقق امانيها لا على المدى المتوسط ولا البعيد. اما الفلسطينيون فالاجابة عن اسئلتهم حول السيادة والدولة والصمود ليست مطروحة في المفاوضات ولا في "العملية السلمية" بالتحديد، وانما هي جزء من صراعهم السياسي وقدراتهم الانتاجية ووحدتهم الوطنية وقوة مؤسساتهم وطاقتهم على الصمود في مواجهة الضغوط الاسرائيلية والاميركية. ومع دخول مفاوضات الوضع النهائي فإن العملية السملية التي انجبتها اتفاقات اوسلو غير صالحة ولا تجيب عن اسئلة الأطراف المعنية، فإما التغيير وأما صراع سياسي استراتيجي طويل المدى. * كاتب فلسطيني.