دائماً تستيقظ على حب مدينة لا تشبهك، تبتعد عنك وتظل تتضاءل أمامها تحفظ عن ظهر قلب تاريخ وصولك إليها وتستعيد تنهيدة أعوام تطقطق في عظامك. ولا تحدث صوتاً تلك الأعوام، تجمعت في غيوم تساقطت على شكل قطع صغيرة لترى كل هذه التغيرات في قلبك كأنها لا تمر، لكنها تتقلص لتسمع صراخها الحاد في رأسك... كأنها ضوء بلا عمل يلاحقك، يشبه أزيز أحلام تتطاير في وهج لا يبترد ... يحدث أحياناً أن تقضي بقية عمرك وخطواتك لا تتبع ما هو خارج عينيك ولكن ماهو في داخلها، في مدينة تشبه قفزة سمكة أفلتت من صنارة صياد أحمق عند مروري أمام مخبز تنبعث منه رائحة كعك حلوة. يداهمني التوق إليها ولا أستطيع الإفلات من حنيني لشوارع وأزقة لا تتعب من تعرجاتها وإلى سماء أصادق فيها غيمة وإلى شجرة أبحث بين أوراقها عن شيء يسحبني إلى خضرة تظل تتسع لأدرك وأنا أرفع رأسي أن لا حياة باقية على الأرض التي لا يفنى فيها شيء. لافيض في المكان، أخفض رأسي، أراهم نقاطاً بيضاء أو سوداء وأتساءل عمن عساه يسقط قبل الآخر... الدروب أمامك تتشعب، تتلوى وتتناوب على شدك في صعود وهبوط، تلك القنطرة تفلت من عينيك لتحل مكانها جسور معلقة، لا تستند على حجر مما صنعته مخيلتك، لكنها مسنودة بكل الأقواس التي تظلك وتتسارع بتعرجاتها فوق شرفات وأرصفة تزداد زرقة في رمادية مدى مسائي يوصلها ببحر يربض في مخيلتك... مدينة أبدأ وصفها من نقطة ارتحالي إليها أو انعكاس وجهي القديم في ماء يتلامع فوق أرض أكثر صلابة وأنا أشير إلى حياة أكثر استقراراً، وعيون تحفر خلايا أكثر ندرة من أي شيء... وتتابع امتدادها حين تهبط نظراتي عبر مجرى مياه فلا أقوى على رفعها... بحر يفصل بين مدينتين أميل إليهما معاً... بيروت التي لم أجدها كما رأيتها في بطاقة بريدية يوم نزولي إليها أول مرة... والرياض التي تسحب معها نجوماً تأخذ شكلها من صحراء حملتها... أرى مدينتين، واحدة ترتفع فوق البحر وأخرى تنعكس مقلوبة فيه... كأن المدينة شيدت ذراتها في ماء يحمل زخارفها وأفاريز واجهاتها وسقوفها ومرايا خزانات ثياب مليئة بالأخيلة... ميناء... أرصفة... مقاهي... سلالم حجرية... زوارق مربوطة إلى شيء يطير في الهناك البارد وأنا أضع شالاً على رأسي وأمشي تحت مظلة بين شخوص يفتحون أفواهاً متعاقبة في تثاؤب وتساؤل أزليين عن التغيير، وحقنا في حياة لا تشيخ... مدينة حين تقف تحت سمائها لن تكون أكبر من رأس دبوس أمام رؤؤس أبراجها، قد تجد نفسك بعد قليل بحجم نصف برتقالة أو بحجم صخرة تطبق عليك، تدفعها إلى داخلك ... تستمر في الضغط حتى تصل إلى حلقات مدوخة... لماذا جئت الرياض؟ لماذا غادرت بيروت؟ أما زلت تبحث عن مدينة قديمة في الأسفل... تضع أذنك على الأرض فتسمع صفعة باب يغلق... أنت هنا... أنت هناك... لست هنا... لست هناك... كما لو أنك لم توجد أبداً...كأنهما مختبئتين على الدوام... ما زالت وجوه معلقة تحت تلك القنطرة وفوق تلك الساعة كأن شيئاً لن يختفي من أرواح الذين غادروا... كأنك نيزك ينجو من سقوط لا ينتهي... ما أروع أن تصعد في شكل عصفور لكن... ستكون هناك دائماً بندقية صياد!