متزامناً ومتقاطعاً مع تجديد الخطاب الديني اليومي وعصرنته، بما يتواءم مع التغيرات العميقة التي هزت المنطقة والعالم العربي، ومن أجل جيل نهضوي جديد يفكر بذهنية إبداعية بديلاً عن الذهنية العنفية والتدميرية، يصبح من الملح تغيير مناهجنا التعليمية، ولا أقول تطويراً لأن معنى التغيير هنا لا يرادف التطوير. فالتطوير كمصطلح ثقافي وكمفهوم تاريخي قد يعني الإبقاء على الأسس اللاعقلانية أو التوفيقية أو التلفيقية العلمية أو التلقينية المتبعة حالياً في مؤسساتنا، وقد يعني الإبقاء على البنية الثقافية نفسها وآليات فعلها السلبية في المجتمع، فما نحتاج إليه هو تغيير حقيقي لهذه البنية برمتها، وإعادة الاعتبار وتوطين العقل والمنطق العقلاني والعلمي والمفاهيم الإبداعية وروح الاختيار الحر في بنية المناهج التعليمية ومنظومتها الأبستمولوجية. حاضرنا في حاجة إلى تغييرٍ للمنظومة التعليمية لا تطويرٍ لها فقط، وهنا لا نستطيع أن ننكر أن تطوراً شكلياً قد أنجز في هذه البنية على الأقل خلال العشرين السنة الماضية، من دون أن يحدث التغيير النوعي في البنية العقلية لجيلنا المعاصر. تحدثت أشكال المدارس العمرانية ? ربما- وازدادت أعدادها أفقياً، ودخلت التكنولوجية الحديثة - الحاسب الآلي على استحياء- و تغيرت بعض مناهج الرياضيات والعلوم تغييراً سطحياً وإجرائياً، أما المنهج الديني فلم يتغير كثيراً فبقي كما هو مادةً ومضموناً موسعاً ومرهقاً لذاكرة نشئنا توحيد، فقه، تفسير وحديث ولو جمعت كل هذه المادة الدينية في كتابٍ أنيق وعصري واحد تحت عنوان أكثر جاذبية التربية الدينية أو الثقافة الإسلامية مثلاً، وتطرقت للقضايا الأخلاقية والإنسانية الحيوية المعاشة لكان أكثر جدوى ونفعاً، وأضيفت في السنوات الأخيرة مادة التربية الوطنية فجاءت مهلهلة كونها كوكتيل متكرر من مادة الدين والقراءة والعلوم والجغرافيا والتاريخ ومواضيع أخرى لا تمت بصلة ولا تعمق الحس الوطني أو الانتماء للمكان والثقافة، وبقيت الأدبيات والمناهج اللغوية والنصوصية متجمدة عند نتاجات منتصف القرن الماضي وكأن الإنتاج الأدبي والفكري العربي كف أن يقدم جديده مذاك، أو كأن واقعنا العربي لم يستحدث مدارس أدبية وفكرية جديدة، أو لم يقدم لنا أدباء وشعراء ومفكرين جدد بعد أحمد شوقي أو علي محمود طه أو أحمد السباعي أو محمود تيمور أو عباس العقاد أو حامد دمنهوري مع احترامي لهم جميعاً، وغيرهم ممن رحلوا عن عالمنا في الستينات من القرن الماضي، كما توسع التعليم الخاص الذي يزعم أنه يقدم الجرعة التعليمية بشكلٍ تقني أفضل، لكنه واقعياً يضع نصب عينه العامل الاستثماري الربحي الضيق قبل أهداف الرسالة التربوية المغايرة، ولا يبدو أنه يبتعد كثيراً عن مفهوم العملية التلقينية الجامدة إياها، أو أنه تخلص من ثقافة الذاكرة والتسليم التي انبنت عليها أسس العملية التعليمية عندنا، لأنه ما زال محاصراً بقوالب وضوابط ورقابة هذه العقلية مفتقداً لحرية تحركه وتطوره وإضافاته، وما حدث جامعة اليمامة أخيراً لدليل واضح على ذلك. على أن التزامن والتقاطع هنا ضروريان في عمليتي تجديد الخطاب الديني وتغيير المناهج التعليمية لأن هاتين العمليتين سينتج عنهما بالضرورة تغييرُ للعقلية النقلية الآيلة إلى التلقينية في المنهج التعليمي، ولاشك فهذا التدامج في العمليتين سيؤتي أكله عندما يتم التخلص من ثقافة الذاكرة والتسليم إلى ثقافة الابتكار والمساءلة والحوار، ما يؤل تالياً إلى نسف أسس ثقافة العنف والإقصاء والواحدية التي هي المدماك الرئيسي في التمهيد لجرائم الإرهاب والتشدد في أبعادها النفسية والأخلاقية والفكرية، بمعنى لا يمكن تغيير المناهج التعليمية إذا ظلت أسس الخطاب الديني القديمة والمتآكلة كما هي، كما لايمكن للخطاب الديني الجديد أن يحقق تأثيره واتساع أفقه المجتمعي، إذا لم تتزامن معه عمليات تغيير جدية وجذرية في المنظومة التعليمية برمتها وفي بنية التفكير التربوي المتبع حالياً. قد يتساءل بعضنا هنا: ما الذي يربط بين المفهوم الثقافي ونظامنا التعليمي الحاضر؟ لماذا تتدخل الثقافة والمشتغلين في حقولها في النظر إلى المنظومة التعليمية وفي مفاهيم تربوية ليست من اختصاصها؟ السؤال مشروع وهو ما يدعونني إلى أن أقول: بأن الحديث عن نظامنا التعليمي وقصوره في عمليات التدامج التنموي هو حديثُ ثقافي بامتياز، ويلح على المثقف المهموم بأزمة الحاضر وأفقه التنموي المسدود وتنامي ثقافة الكراهية والتشدد في المجتمع، لأن يخوض في تحليل أسسه وهيكليته وبناءاته، كون هذا النظام التعليمي يصب بشكلٍ مباشر في استراتيجية النهوض المجتمعي تنموياً في أشكاله الاقتصادية، والاجتماعية والثقافية، ولأنه ذو تماسٍ حقيقي وفاعل بمسألة التجديد الفكري وتشكيل الذهنيات ونمطية السلوكيات لأجيالٍ قادمة، حضورها مطلوب في قلب التطورات المعرفية والعلمية المعاصرة وما ينتظر من رفدها لنهر المعرفة الكونية المتعاظم. وكون المنظومة التعليمية الحالية معنية وسبباً في ظهور معضلة عدم تحقق الاندماج والاندراج المعرفي في السياق الكوني للحضارة البشرية، وكونها المحرض العقلي والسلوكي ? إذا جاز التعبير- في تكريس أيديولوجية الاستهلاك المعرفي من الآخرين متوازياً مع استشراء أيديولوجية الاستهلاك المادي -السوقي في نسقه الاجتماعي، وكونها هنا تبدو في مستوى بنيتها الخاملة معيقة في التخلص من ثوابت الخصوصيات الثقافية المفتعلة، ناهيك عن عدم قدرتها في وضعها الحالي في الخروج من أقواس الهويات المنكمشة والحنين للماضي"التليد"، وهي هنا أيضاً متهمة في استمرار بطء العملية التنموية وتشوهاتها. إذاً فنحن بالفعل في حاجةٍ إلى سياسة تعليمية جديدة عاجلة ذات عمق ثقافي تكون بمثابة" ثورة ثقافية"على غرار ما أقدمت عليه اليابان بعد الحرب العالمية الثانية عندما خرجت مهزومة ومنهكة القوى والمقدرات، وعلى غرار أيضاً ما فعلته الصين عندما أطلقت ثورتها الثقافية الشهيرة في بداية الستينات وهاهي تحصد ثمار هذه الثورة المعرفية تقدماً صناعياً واجتماعياً واقتصادياً تنافسياً غير مسبوق في عالمنا المعاصر وذلك في تناغمٍ بارعٍ وخلاق مع خصوصياتها التاريخية وأرثها الديني العريق ومعتقدها السياسي. إن شجاعة سياسة تعليمية جديدة مقترحة كهذه واقتحاميتها ستعيد النظر بلاشك إلى كثيرٍ من ثوابت منظومتها، خصوصاً في المراحل ماقبل الجامعية - البناء التحتي بشرياً، هذه الثوابت التي أعنيها تتلخص تجلياتها وتتمظهر: في ذهنية التلقين - التذكر المتبعة حتى الآن، وفي قراءتها للتاريخ العلمي والاجتماعي والسياسي الكوني قراءة مبتسرة ومشوهة ومضللة، وفي الغياب الفادح لروح الإبداع الحر، وفي غياب ثقافة المواطنة الحقة والروح الوطنية غير المتعصبة والانتماء للمكان والواقع المعيش، وليس آخراً في غياب ثقافة الحقوق وقوانين المجتمع المدني ومؤسساته وعدم تكريس مفاهيمه في عقلية طلابنا ونشئنا الجديد وربط هذا كله بالعملية التعليمية والتنموية في آن. * ناقد وقاص.