المملكة ترأس أعمال الدورة العادية الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    الأخضر يبدأ استعداده لمواجهة اليمن ضمن خليجي 26    اختتام أعمال منتدى المدينة للاستثمار    النفط يتراجع بسبب مخاوف زيادة المعروض وارتفاع الدولار    السعودية تنظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني فبرايل المقبل    لاجئو السودان يفرون للأسوأ    الجامعة العربية تعلن تجهيز 10 أطنان من الأدوية إلى فلسطين    تطوير واجهة الخبر البحرية    أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    إصدار النسخة الأولى من السجل الوطني للتميز المدرسي    القبض على شخص بمنطقة الحدود الشمالية لترويجه «الأمفيتامين»    مشروعات علمية ل480 طالبا وطالبة    "كايسيد" يعزز من شراكاته الدولية في أوروبا    جيش الاحتلال ينتهك قواعد الحرب في غزة.. هل يُفشل نتنياهو جهود الوسطاء بالوصول إلى هدنة ؟    «مستشفى دلّه النخيل» يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية بعنوان 'دور الإعلام بين المهنية والهواية    "الشركة السعودية للكهرباء توضح خطوات توثيق عداد الكهرباء عبر تطبيقها الإلكتروني"    د.المنجد: متوسط حالات "الإيدز" في المملكة 11 ألف حالة حتى نهاية عام 2023م    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ووزير الداخلية بالكويت يزور مركز العمليات الأمنية في الرياض    فعاليات يوم اللغة العربية في إثراء تجذب 20 ألف زائر    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    لا تكتسب بالزواج.. تعديلات جديدة في قانون الجنسية الكويتية    الدفعة الثانية من ضيوف برنامج خادم الحرمين يغادرون لمكة لأداء مناسك العمرة    رضا المستفيدين بالشرقية استمرار قياس أثر تجويد خدمات "المنافذ الحدودية"    تجمع القصيم الصحي يعلن تمديد عمل عيادات الأسنان في الفترة المسائية    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    إن لم تكن معي    الطفلة اعتزاز حفظها الله    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    لمحات من حروب الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ندوة العالم العربي والتحديات الثقافية
نشر في البلاد يوم 07 - 03 - 2015


زيد بن علي الفضيل

مدخل :
يواجه العالم العربي اليوم الكثير من التحديات الثقافية المفصلية، التي يمكن أن تعصف به، بل وتقوض كثيرا من مقوماته الرئيسة، التي كان لها الدور الأكبر في دفعه للبقاء متماسكا أمام كل موجات التدخل الغربي العاصف، على الصعيد السياسي والاقتصادي والعسكري خلال القرن العشرين المنصرم. إذ كانت الممانعة الفكرية، وتماسك ملامح الهوية الثقافية العربية، وتناغم سمات شخصياتها الدينية مسلمها ومسيحيها، أساسا في كل آليات الممانعة المجتمعية، التي حافظت على كيان الأمة العربية من الاضمحلال والتلاشي خلال الفترة الماضية، على الرغم من وضوح حالة الضعف والتشتت السياسي والاقتصادي والعسكري في مختلف أقطار الوطن العربي من الماء إلى الماء.

أهمية الهوية الثقافية سياسيا :
على أن ذلك قد أخذ بالتغير بشكل متسارع مع نهاية القرن المنصرم، حيث واجه العالم العربي الكثير من التحديات السياسية والاقتصادية، وصولا إلى العسكرية، وكان احتلال العراق للكويت على عهد الرئيس السابق صدام حسين في أغسطس عام 1990م نقطة فارقة في تاريخ الوطن العربي، نتج عنها كثيرا من الاختلال في المفاهيم الثقافية، التي أنتجت حالة من الشرخ الواسع بين مثقفي الأمة على وجه الخصوص، ثم جاءت أحداث غزو العراق عام 2003م، واحتلاله من قبل قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لتكرس حالة أخرى من الانفصال الثقافي بين مكونات الأمة العربية.
على أن ذروة الشرخ الثقافي بين أوساط المثقفين العرب قد تمثل في ردود الفعل المتباينة إزاء مجريات حرب تموز 2006م بين حزب الله والعدو الإسرائيلي، حيث أبان ذلك الحدث عن حجم الانهيار الوجداني المعرفي ضمن الوسط الثقافي العربي، بل وكشف عن مدى البون الشاسع بين خيارين ثقافيين عربيين.
ثانيهما: عكس واقع الاختراق الغربي للثقافة العربية، أو لنقل واقع التوجه الجديد للثقافة العربية، المتشكل بروح غربية، وبتأثير عولمي، تتحكم في خلفياته قوة خفية، في حين عمل أصحاب الخيار الثقافي الأول على المحافظة على أشلاء ما تبقى من مكونات ثقافتهم العربية، المتشكلة بروح وقيم شرقية.
ملامح التحدي الثقاسياسي :
تلك كانت أبرز مفاصل التغيير في التركيبة الثقافية للأمة العربية، ولهذا فلم يكن مستغربا أن يجري في بعض أقطاره مع مطلع الألفية الجديدة حالة من التغيير السياسي، فيما عرف بالربيع العربي، الذي وإن كانت مظاهره توحي وتعكس حالة غضب شعبي عارمة على عدد من الأنظمة السياسية المتكلسة، إلا أنها في ذات الوقت قد كشفت عن مظاهر توجه الخيار الثقافي الجديد، الهادف إلى إغراق المجتمع العربي في حالة متأصلة من الصراع الديني والطائفي والعرقي، وتجزئة أقطاره إلى مستوطنات متباينة، يتحصن فيها الأفراد بحسب توجهاتهم العقائدية والفكرية الجديدة، تمهيدا لبلوغها حالة من الانهيار الوجداني والمعرفي الكبير، الذي يستتبع معه القبول بتقسيم أوطاننا إلى أجزاء متغايرة، يحارب فيها الابن أبيه، والأخ أخيه، والقريب قريبه، والعربي العربي، فيما يبقى الكيان الخفي بمنأى عن كل تلك التداعيات، متخذا موقف الشاهد المتفاعل مع هذا وذاك، وبوسائل وصور متنوعة، ليزيد من حالة الفرقة والانفصال، التي تجعله كبيرا مسيطرا على مختلف مفاصل المنطقة العربية على وجه الخصوص.
ذلك وجه من وجوه التحديات الثقافية التي يواجهها العرب اليوم، وهو أخطر الوجوه على كيانهم الوجودي، إذ أن صقور الغرب، والعدو الصهيوني الغاصب لأرضنا الفلسطينية، قد أدركوا من واقع الدراسة والبحث أن انهيار المنظومة الثقافية للأمة العربية، أصل لانهيار مختلف منظوماتهم السياسية والعسكرية على وجه الخصوص، لهذا كان التركيز على بلوغ ذلك، وقد بدأوا في حصد نتائجهم بشكل تدريجي.
وواقع الحال فإن مجريات هذا السيناريو ليس بجديد على واقعنا العربي بوجه عام، حيث تم ممارسته باحتراف منذ مطلع القرن العشرين الميلادي، حين أعلن نجيب عازوري عام 1905م من محل إقامته بباريس عن تكوين جمعية "عصبة الوطن العربي"، داعيا إلى تأسيس خلافة عربية مستقلة يكون مركزها الحجاز.
في ذلك التاريخ لم يكن أحدا من مثقفي العرب والدولة العثمانية عموما يفكر في تأسيس عصبة عربية انطلاقا من هوية قومية، وأبعد ما كان يطرح في حينه أن يتشكل المثقفون ضمن رابطة الجامعة الإسلامية، وفق رؤية الإمام جمال الدين الأفغاني، أو يتشكلوا ضمن سياق الرابطة العثمانية، وفق رؤية عديد من الوطنيين العرب في حينه.
ثم جاء السياق السياسي بعد ذلك بوصول حزب الاتحاد والترقي للسلطة في الدولة العثمانية، ليدفع بعديد من المفكرين العرب وعلى رأسهم الشيخ محمد رشيد رضا للمطالبة بتأسيس جمعية "الجامعة العربية" عام 1910م، التي كان هدفها توحيد الجمعيات السياسية العربية في كل من سوريا والعراق لتكون جبهة واحدة في مواجهة سياسة حزب تركيا الفتاة في ذلك الوقت .
أسوق ذلك لأشير إلى أن تغيير المنظور الثقافي ضمن إطار سلطة الدولة العثمانية، قد أدى إلى القبول الوجداني بالانفصال عن الدولة العثمانية، ونتج عنه القبول بتفكيك وحدة الدولة العثمانية، وهي التي تأسست وعاشت قرونا استنادا على مشروعية الخلافة، بوصفها مشروعا ثقافيا مركزيا لكل رعايا الدولة ومواطنيها.
وبالتالي فقد كان من جراء ذلك التغيير الثقافي أن وجدت المنظومة القومية العربية لها طريقا في ذهنية الشارع العربي، ونتج عن ذلك انفصال العرب بدولتهم القومية بقيادة الشريف الحسين بن علي، التي ما لبث أن تم تجزئتها بشكل مبكر إلى أقطار عربية مستقلة سياسيا وعسكريا عن بعضها البعض، وإن كانت متحدة في وجدانها الثقافي العروبي، الذي ظل لقرن من الزمان يمثل القاسم المشترك بين تلك الأقطار.
حتى إذا أرادت تلك القوى الخفية إعادة تركيب البناء بما يوافق رؤيتها الجديدة وأهدافها للقرن الواحد والعشرين، عملت مجددا على تغيير المنظور الثقافي الحاكم لتوجه العرب السياسي، بما صار مشاهدا اليوم من إثارة للتنابز العرقي والصراع الديني والطائفي ضمن القطر العربي الواحد، رغبة في تفتيت هويته السياسية الجامعة، وتحقيقا لمراد تجزئة المجزأ كما يقال.
أمام هذا التحد السياسي ذو الخلفية الثقافية يبرز سؤالا جوهريا وهو : ألم يأن الأوان لأن يفيق المثقف العربي من غيبوبته، ليكون صانعا للحدث بدل أن يكون تابعا له، ومنتجا لفعله الذي يعبر عن توجهه وكينونته ورسالته، بدل أن يكون فعله ناتجا عن ردة فعل لحدث يتم فرضه عليه بشكل أو بآخر؟
في تصوري أن من أكثر الأشياء عجبا أننا كأمة عربية لانزال نعيش غيبوبة مركبة حتى اليوم، فبمثل ما كنا شهود مآتة في مؤتمر سان ريمو عام 1920م، نحن اليوم خارج مشهد كثير من أروقة مفاوضات إعادة رسم الخرائط المستقبلية. على أننا كباحثين ومؤرخين ومثقفين لن نجد ما سنبرر به الواقع المعاش اليوم لأجيالنا المعاصرة والقادمة.
سياقات الذهنية العربية :
تشكلت الذهنية العربية منذ عصر ما قبل الإسلام ضمن سياقين رئيسيين، أخذ الأول منها مسار المنفعة، القائم على الربح والخسارة، وهو ما مثله المجتمع المكي باقتدار، الذي تغلغلت التجارة في مختلف تقاسيم حياته الاجتماعية والدينية، حتى أنه نظر إلى الدعوة المحمدية من منظار نفعي بالدرجة الرئيسة، فكيف يؤمن سادات مكة بإله هو موجود في كل مكان، وبالتالي فما حاجة الناس للمجيئ إلى مكة، والتعبد بكعبتها المشرفة. كان ذلك هو لب الخلاف وحقيقته مع سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
أما المسار الثاني فقد قام على معيار القوة والغلبة، الذي يرتكز على ثنائية الغالب والمغلوب، وهو سياقٌ لازمَ مشهدنا العربي في كثير من سماته، وانعكس بأثاره السلبية على جانب واسع من ملامح ذهنية نخبه المتنوعة على امتداد تاريخنا القومي، ولعل معلقة عمرو بن كلثوم أحسن مثال لهذه الثنائية التي يقول في في ثناياها:
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ونشربُ إن وردنا الماء صفواً * ويشربُ غيرُنا كدراً وطينا
على أن هناك مسار ثالث لم يحظ بخاصية الاستمرار، وبالتالي لم يُشكل أي سمة في الذهنية العربية بوجه عام، إنه المسار النبوي الذي يقوم على معيار الكفاءة، ويرتكز على ثنائية القدرة ونقيضها، الجودة وخلافها، فالناس أكفاء لبعضهم البعض، يتمايزون بالقدرة والجودة العملية، مصداقا لقوله تعالى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.
لذلك كان حرصه صلى الله عليه وآله وسلم منذ الوهلة الأولى على تعزيز سياقات الذهنية المدنية في محيط مجتمعه النبوي، فكان تغييره لمسمى المكان الذي اختاره الله ليكون مستوطنا له، من مسمى "بلدة يثرب"، إلى مسمى "المدينة"، على ما يحمله المسمى من دلالات ومعان عديدة؛ كما وضحت روحه المدنية في مضامين وثيقة المدينة الدستورية مع اليهود وغيرهم، ناهيك عن كثير من الإجراءات التي أراد النبي منها تغيير مفاهيم نسق الذهنية العربية إلى الأفضل.
على أن ذلك لم يستمر بعد وفاته، حيث سرعان ما عاد الناس إلى سياقاتهم الذهنية السالفة لعصر النبوة، التي لا تزال مضامينها مستمرة بين جنباتنا حتى اليوم. وهو ما يفسر في جانب ما كثيرا من أسباب التراجع الحضاري المعاش.
من جانب أخر فلم يقتصر إشكال مسار الغلبة في الذهنية العربية على الجانب الاجتماعي والسياسي وحسب، بل امتد ليشمل كثيرا من سياقات الثقافة الإسلامية في جانبها المذهبي والفكري، حيث سادت في ثناياها مفاهيم ثقافة العنف بدل اللين، والتعصب بدل التسامح، وانتشرت في مضامين مؤلفاتها مصطلحات الخلاف بدل مفاهيم التوافق، فكان أن حفل جانب كبير منها بالكثير من ألفاظ التفسيق والتبديع، وبدل أن يصبح التدين عامل وحدة وجذب، صار بفهم خاطئ عامل فرقة وخلاف.
وللأسف فتاريخنا حافل بكثير من الشواهد على ذلك، إذ ما كسرُ ذراع مالك بن أنس، وسَجنُ أبي حنيفة النعمان، وذَبحُ الجعد بن درهم، وصَلبُ غيلان الدمشقي، وضَربُ محمد بن إدريس الشافعي بمصر، وجَلدُ أحمد بن حنبل، وحِصارُ محمد بن جرير الطبري، ومُحاكمة ابن رشد ونفيه، وصولا إلى سجن أحمد بن تيمية، واستتباعا بغيرهم، ناهيك عن ما تعرض له أئمة آل البيت من قمع وقتل، إلا دلائل على مدى تغلغل سياق مفاهيم ذهنية ثنائية الغالب والمغلوب على الذهنية العربية المسلمة. وكان من جراء استشراء ثقافة الغلبة أن تعمقت الفجوة بين أطياف وشرائح الأمة الإسلامية المذهبية والفكرية، التي لم تتوان في سبيل تحقيق مصلحتها استخدام كل أشكال العنف اللفظي واليدوي ضد الآخر.
التحدي المعرفي :
أولا / التجرد :
أمام ذلك يبرز لنا التحدي المعرفي كأحد أهم التحديات الثقافية التي يواجهها عالمنا العربي بوجه عام، ويقينا فلسنا مختلفين في صور التحدي المعرفي من حيث ضعف البنية التعليمية، وهجرة العقول العربية، وتردي كافة الخدمات اللوجستية المصاحبة لشريان المعرفة، إلى غير ذلك مما يمكن التطرق له، وعدم الاختلاف حوله.
غير أني أرى بأن أكبر تحد معرفي نواجهه كمجتمع ثقافي، كامن في مقدرتنا العلمية المحايدة على إعادة قراءة موروثنا المعرفي بشكل عام، وشجاعتنا في غربلة كثير من نتاجه.
ذلك هو مفتاح التحدي المعرفي الذي يجب أن نخوضه اليوم بكل تجرد وجرأة، وهو القاعدة الصلبة التي سنتمكن عبرها من بناء منهجنا الثقافي الأصيل، القادر على مواجهة مختلف التحديات المعاصرة والمستقبلية، خاصة مع تحطم كل الحجب، وتماهي المعلومة، وانعدام المقدرة على تشكيل أجيالنا وفق ما نريد، جراء ما نعيشه من عولمة لا خيار لأحد اليوم في رفضها أو حجبها.
ولبلوغ ذلك يجدر بنا كمثقفين أن نثير في أذهاننا سؤالا معرفيا أجده يحتاج إلى تدبر كبير وهو: أين نجد سؤال الحيرة الإبراهيمي في مكنون ثقافتنا التقليدية والمعاصرة؟
ذلك السؤال الذي نتلوه كلما قرأنا قوله تعالى :{وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين?وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين?فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي، فلما أفل قال لا أحب الآفلين?فلما رأى القمر بازغاً، قال هذا ربي، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين?فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي، هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون?إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين} (الأنعام: 76 – 79)
في هذه الآيات الكريمات يمكن لكل مثقف أن يستشعر حالة غريبة من الاستغراق في التفكير التأملي لمضمون تلك الصور الفنية، وما تحمله في طياتها من أسئلة جوهرية، يتم من خلالها تفكيك مقاييس التفكير المادي ضمن أفاق الذهن البشري المحسوس، بأسلوب تصويري محكم، ولغوي رصين، اعتمد مبناه الفلسفي على مفهوم إثارة أسئلة الحيرة والدهشة في أذهان المتحاورين، ونقض ما يتم التعارف عليه من بديهيات معرفية، فرضتها قوانين اجتماعية وأعراف بشرية، وتصورات علمية خاطئة.
في تلك الآيات وضح هذا المفهوم التفكيكي لكل المفاهيم التلقينية المحنطة في الأذهان، بتأثير من حالة الجمود الذي يذكرنا بنمط تفكير المدرسة الكهفية من جهة، ونمط المدرسة الأبائية من جهة أخرى، المتمثلة في قوله تعالى :{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءَنا، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} (البقرة:170).
لقد جاء النص القرآني ليضع قوم سيدنا إبراهيم عليه السلام أمام مرآة كاشفة، مستخدما آلية التفكير بصوت عال، ليكشف لهم جوهر الخلل في مكمن إيمانهم، الذي يقوم على عبادة المظاهر المحسوسة للكواكب، المختلفة صفاتها من كوكب إلى آخر، وبالتالي انعدام قطعية المسلمات البديهية لكل صفة محسوسة، كالكبر والبزوغ واستمرارية الوجود الظاهري. إننا ونحن نستشعر هذه المعاني العقلية والمفاهيم العميقة، لفي أمس الحاجة اليوم إلى أن نعكس هذا النمط في التفكير ضمن أفاق حياتنا العملية، وقواعد سلوكنا البشري، حتى نخرج من حالة الجمود الذهني المعاش. ولن يتأتى ذلك إلا بالعودة إلى مقاييس التفكير السليم، المستند على تحفيز التفكير التأملي، ومراجعة ما يمكن أن نتصوره من بديهيات قطعية، والتعود على إثارة أسئلة الحيرة أو الدهشة في عقولنا، والبحث في أشكال السؤال اللا مُفكر فيه.
لقد كان من نتائج تخلي المجتمع المسلم عن مضامين آليات التفكير تلك، أن تكرس في ذهن المجتمع القبول بنمط المعرفة التلقيني، الذي يستند على تكريس آلية الحفظ كنمط رئيسي في التفكير، بل وانسياق مجتمعاتنا بعد ذلك إلى تبجيل ثقافة الحفظ، في مقابل تهميش ثقافة التأمل وإعمال التفكير العقلي، حتى أصبح الحفظ سمة عالية يُوصف بها الإنسان العالم، كعلامة بارزة على مبلغ علمه، لتصبح صفة "الحافظ" بمثابة شهادة التزكية لكل من يمتهن العلم الشرعي على وجه الخصوص، في الوقت الذي غُيب فيه ومنذ فترة مبكرة مفهوم وصف "المفكر" للدلالة على من يلوك العلم ويتكلم فيه، غافلين عن أن القرآن الكريم في المقام الأول كان ولا يزال خطاب عقلاني مع الذات الإنسانية، ومع أشرف ما في الإنسان وهو العقل.
إن جوهر أزمتنا الثقافية المعاصرة كامن في الانسياق المعرفي وراء سمت معرفي منطلق من ثقافة ذهنية الغالب والمغلوب، فكان أن عمل على أطْر الناس على رأي واحد، وفكر واحد، وهو الفكر والرأي الذي يؤمن به، بحجة أن رأيه موافق لمراد الله، ومتطابق مع الحقيقة الربانية، وأنه وصحبه قد مثلوا أصل الفرقة الناجية على هذه الأرض، ولعمري فإن ذلك هو لب جوهر أزمتنا الفكرية الخانقة، وعقدته القاتلة.
هذا النموذج في التفكير هو الذي أدى إلى ضمور حالة التسامح والقبول بالآخر، وعزز من روح التشدد والتعصب المقيت، وهو ما يخالف أصلا وفرعا جوهر مراد الله البيِّن في كثير من آيات الذكر الحكيم، التي عزز الله فيها حتمية الإيمان بخاصية التنوع، بوصفها قيمة ربانية سامية، ليعيش بني البشر آمنين مطمئنين، مع احتفاظ كل منهم بقيمة ما يؤمن به ويعتقده.
والآيات على ذلك عديدة منها قوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا أمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}، وقوله تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم في ما أتاكم فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون}، وقوله جل وعلا: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}، وقوله سبحانه: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين}.
إلى غير ذلك من الشواهد النبوية التي دلَّت على حتمية التنوع كثقافة دينية قبل أن تكون ثقافة مجتمعية، فكان قبوله عليه الصلاة والسلام لليهود في صحيفة المدينة، وكان احترامه لوفد نصارى نجران وحفظ حقوقهم في وثيقته لهم، على الرغم من تراجعهم عن مباهلته، وسقوط مشروع إنكارهم لنبوته صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك فلم يعمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى التضييق عليهم، أو إجبارهم على الدخول في دينه الخاتم، لكونه قد أراد أن يعزز من روح التسامح في صفوف أصحابه، ولن يتأتى ذلك فعليا إلا بالقبول بثقافة التنوع بشكله الصحيح الإيجابي.
ثانيا / معركة الوعي :
إنها معركة الوعي التي يجب أن يهتم لأمرها جمهرة المثقفين، وسيكون من ثمارها تقليص ذهنية حروب الإلغاء، تلك الذهنية التي لم ننفك عن مراودة حيثياتها منذ أبكر العصور التاريخية للعرب، الذين خاضوا العديد من الحروب المريرة، بقيادة زعماء ظنوا بجهلهم أن بالقوة يمكن حسم كل شيء، وبسفك الدماء يسهل محو كل أمر. والحال كذلك في إطار تاريخنا الإسلامي الفكري، حيث لم يحقق أولئك الذين تقصدوا من سلف من علماء الأمة، وصولا إلى العديد من العلماء والمفكرين المعاصرين، بالإلغاء والتهميش، أيا من مآربهم.
وهو ما يجعلنا نؤمن بأهمية قيمة الوعي بالأفكار ودلالاتها ومعانيها ومآلاتها ضمن جنبات تفكيرنا، وفي تصوري فإن ذلك لن يتأتى إلا من خلال زيادة مساحة التفكير ضمن نطاقات أدواتنا المعرفية، وتكثيف منهج التحليل والتأمل والتدبر وإثارة أسئلة الدهشة والحيرة في حياتنا المعرفية، التي يمكنها أن تحفز وتستثير مكامن الوعي في دواخلنا بوجه عام، وفي حينه سندرك بداهة ألا فائدة من الانسياق وراء دعوات حروب الإلغاء التي يدعوا لها البعض، وأن الفكر لا يواجه إلا بفكر، والمعرفة بحكمتها وعمقها ودلالاتها ومألاتها الإنسانية ضالة كل عاقل .من هنا كانت إرادة بعض مثقفينا المعاصرين البحث بوعي في مكنون تراثنا الفكري، محاولين تجريدها من هالتها المقدسة، التي تكونت بفعل كثير من التأثيرات المادية والمعنوية، قاصدين النظر إليها بتجرد، والحكم عليها بمنهج علمي محايد، فكان عملهم ذاك هو عين المحذور الفادح الذي وقعوا فيه، عند أولئك الذين يؤمنون بقدسية التراكم التاريخي على علاته، ويعتقدون أهمية التواتر الزماني على إشكالاته، وينطلقون في توجهاتهم من ثقافة ترتكز على إلغاء الآخر على أي شكل كان. ولعمري فإن مواجهة أولئك ليعد من أكبر التحديات الثقافية المعاصرة.
ثالثا / العبور :
وحتى يتمكن مشهدنا الثقافي من مواجهة ذلك التحد بكل منهجية وصلابة، فإنه يحتاج إلى أن تؤمن أطيافه الثقافية المتنوعة، بحتمية رفض الاستبداد الثقافي، وضرورة تبني ثقافة المثاقفة، الهادف إلى استثمار ما لدى الثقافات الأخرى من قيم ومعطيات إنسانية وحضارية نبيلة، مما يؤدي إلى تنمية مختلف الكيانات الثقافية بشكل خلاق من جهة، وغير مضر بمقومات هوية وثوابت كل طيف على حدة، فضلا عما يمكن أن تعكسه تلك الحالة الإيجابية من روح الثقة والتسامح بين الأفراد والجماعات، لكونها ستزيل كثيرا من الأوهام، وستساعد على تفعيل القواسم المشتركة بين مختلف الأطياف، مما سيخفف من حدة التوتر وسلبيات العداوة البينية، التي عادة ما يغذيها الجهل بالآخر، والإيمان بما تكوَّن في الذهنية من أحكام سلبية مسبقة.
ولنصل إلى ذلك، أتصور أن مشهدنا الثقافي المعاصر في حاجة ماسة لترسيخ ثابت معرفي مهم في مسيرة إصلاح مفاهيم الأمة العربية الذهنية، ومسارها المعرفي، ويكمن ذلك في ما طرحه المفكر السعودي إبراهيم البليهي من ضرورة تأسيس قواعد منهجية لعلم الجهل في مفاصل مشهدنا الثقافي بوجه عام، بغية تحليل ودراسة بنية التخلف في محيطنا، لاسيما وأننا كأمة والكلام له نعيش حالة جهل مركبة تقوم على : جهل الإنسان بجهله، ثم اغتباطه بهذا الجهل، لاعتقاده بأن ما يؤمن به هو الحق والصواب المطلق والتام.
وكما هو معلوم فقد تعارف أهل العلم على أن الجهل ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
أولها / الجهل البسيط، وهو فهم مسألة ما بدون إحاطة كاملة.
ثانيها / الجهل الكامل وهو انعدام العلم بالمسألة.
ثالثها / الجهل المركب وهو فهم الأمر خلاف ما هو عليه.
وواقع الحال فإن ذلك ما نحن مبتلون به اليوم من غالب من تسنموا ذرى المنابر، وصاروا يُحرضون الناس ويُوجهونهم وفقا لأهوائهم دون معرفة بالأصول الشرعية المعتبرة عند أهل العلم، وبالتالي سوق الناس بجهل صوب مهالك شيطانية، فيقع ما يقع من قتل وسحل وتمثيل.
والسؤال: هل تقع المسؤولية على أولئك الفاعلين وحسب؟ أم أنها متعدية لتشمل مناحي مشهدنا الثقافي، الذي ارتقى المنابر فيه أنصاف متعلمين، عملوا على تأجيج الناس وتشويه نفوسهم بحكايات ما أنزل الله بها من سلطان، وأحكام تتوافق مع أهوائهم وليس مع مبادئ ومقاصد نبينا الرؤوف الرحيم.
إن قفل باب الاجتهاد بوجه عام، والحد من خاصية التفاعل الذاتي مع القرآن الكريم بالتفكر والتأمل في آياته، بحجة عدم تمكن الأفراد من قواعد العلم الشرعي، واستنادا إلى فهم محدود لقوله تعالى: {فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، قد جعل الأفراد تقرأ الكتاب بلفظه الظاهري، وتتلوه بألسنتها دون أن تعمل جهدها لأن تتدبر في معاني آياته ودلالاته، على الرغم من أن الله قد نص على سهولة وتيسير الخطاب القرآني لكل متدبر، بقوله تعالى:{ولقد يسرنا القرآن فهل من مدّكر}، والخطاب هنا لجميع الناس على مختلف حالاتهم الذهنية والمعرفية.
كما سمح ذلك ذهنيا بسيطرة علماء الدين على تفسير النص الرباني، وتقديم فهمها له باعتباره أصلا مقدما يجب على الجميع الأخذ به، بغض النظر عن مدى صوابيته من عدمه، وهو ما يتماثل مع المشهد الكنسي خلال فترة العصور الوسطى، حين احتكرت الكنيسة بعلمائها ورهبانها حق تفسير الأمر الإلهي، حتى كان تحرر المجتمع الأوروبي خلال عصر الأنوار، بإعلان حالة القطيعة المعرفية مع ذلك الموروث، كحل للتحرر من حالة الجمود والتخلف، اللذين كانا سائدين في أفاق المشهد الأوروبي بوجه عام.
السؤال: هل نحن في حاجة إلى إعلان حالة القطيعة المعرفية (الإبستومولوجية) مع موروثنا العلمي، ليمكننا بلوغ حالة التقدم الفكري المنشود، ودخول عالم الحداثة بشكل حقيقي وكلي؟ وهل بالإمكان عمل ذلك؟. إن جزءا كبيرا من إشكال الذهنية العربية المسلمة، كامن في حالة الجمود التي أصيبت به جراء عدم قدرتها منذ أبكر القرون على التحرر من قيد ثقافة السلطة، الفردية الطابع، الاستبدادية المنهج، التي تمكنت من تسيير دفة الحركة المعرفية في المسار الذي يخدم مصالحها، ويُعزز من قوتها، مستفيدة من كل المعطيات الدينية والاجتماعية والعسكرية، من واقع اعتسافها تفسير النص الديني بالشكل الذي يتوافق مع رؤيتها، وتكريسها لمفاهيم السلوك العرقي، عبر تداولها الرسمي لمصطلح الموالي مثلا، في مجتمع تُشدد قيمه النبوية على المساواة وتعميق الأخوة، ناهيك عن ترويجها في بعض الفترات لمفاهيم ثقافة الجهاد دون التقيد بقواعده الأخلاقية الحاكمة، التي شدد عليها النبي وخلفاؤه الراشدون من بعده.
في ظل هذه المعطيات تشكلت أبرز ملامح الفكر الإسلامي، وتحددت أهم معالمه الفكرية التي شغلت رعيلا كبيرا من علماء الأمة على مختلف القرون وصولا إلى اليوم، وبالتالي فلا غرابة أن نعيش في القرن الخامس عشر الهجري/ الواحد والعشرون ميلادي، نفس إشكالات القرون المبكرة، والأعجب أن يستلهم كثير من مفكرينا ذات المحددات والمعطيات التي استلهمها الأوائل في نقاشهم وتبريرهم، وكأننا في دوامة لا تنتهي، والمؤلم أن يأتي أحدهم بعد ذلك ليُنظِّر لعالم الحداثة وما بعد الحداثة في إطار مجتمع محكوم بأليات كلاسيكية صلبة، وقيود من التراكمات النقاشية سميكة، يصعب معها تفكيكها بأي شكل من الأشكال.
أمام ذلك تبرز فكرة صوابية القطيعة المعرفية مع الموروث وليس مع أصل التراث، كحل لابتداء مسيرة العبور إلى عالم الحداثة المعاصرة بمعنى أنه قد آن الآن لأن نبدأ من أول السطر، وننفض عن كاهل أذهاننا ما تراكم من أقوال وشروح وتفسيرات وتأويلات حجبت النص الرباني الأول، حتى أننا لم نستطع التفكير فيه بمنأى عن تأثير ما سبق من أقوال وشروح وتأويلات وتفسيرات بشرية. بهذا القفز الذهني يمكننا إنشاء اللبنة الأولى لجسر العبور الأول في مسيرة الحداثة الفكرية.
خاتمة :
وهكذا يمكن القول تلخيصا أن نجاح أي مشروع ثقافي يستلزم غياب أو ضعف سلطة ظاهرة التوجه الأيدلوجي، سواء في شقه السياسي أو الديني، ونماء مساحة الحرية بشكل مطلق وفق الضوابط الحقوقية، حتى يتمكن الفكر والإبداع من التألق بالصورة الصحيحة، وبالتالي ازدهار أفاق وملامح المشهد الثقافي في مختلف المجالات، وفق ما هو الحال مع حركة النهضة الغربية، التي سمحت لعلماء عصر الأنوار، التفكير والتأليف والإبداع بحرية تامة، وكما كان الحال في عصر النهضة الإسلامية، حين شكلت أفاق المدرسة العقلية بما تتميز به من رحابة فكرية، ملامح المشهد الثقافي العام، وهي التي لم تحبس نفسها ضمن أحكام عامة نابعة من رؤية عقل كلي لمجمل المتغيرات الثقافية، بل عملت على مناقشة مختلف تلك المتغيرات بذهنية تفصيلية دقيقة، وكان أن تجسدت أثاره في بروز العديد من المرافق الثقافية العامة كبيت الحكمة ودار الحكمة في بغداد والقاهرة، وظهور الكثير من العلماء المبدعين في شتى الفنون الفلسفية، والعلوم التجريبية. وفي المقابل فقد نتج عن سيطرة التوجه الأيدلوجي الأحادي، المؤمن باكتنازه لمفاصل الحقيقة الربانية، الرافع نبرة صوته بشكل حجب سماع غيره من الأصوات الدينية الأخرى المعتدلة في رأيها الشرعي ومنطلقها الفكري، نتج عنه ضمور نمو وتيرة الحراك الثقافي بشكل عام، حيث حجب عنا إمكانية تواجد مزيد الباحثين التنويريين، وجعل العديد من مؤيدي الحركة الثقافية التنويرية يُحجمُون عن إبداء كثير من أرائهم ، خشية الوقوع في شرَك المحاكمات الفكرية من قبل سلطة الولي الوصي بحسب تعبير الناقد السعودي الدكتور معجب الزهراني .
على أن الأدهى والأمر كامن حين يمارس هذه الولاية والوصاية الفكرية أشخاص محدودي العلم والمعرفة الشرعية، لمجرد أنهم قد ألموا ببعض أبجديات العلم الشرعي، أو سمعوا قولا عاما من عالم شرعي يحتمل الكثير من التفصيل، فحملوه على وجه واحد، هو الذي يتناسب مع فهمهم، وقصدوا تطبيقه بين الناس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.