يوزع هذه الأيام على النساء المتسوقات في أسواق المملكة كتيب بعنوان"ما أغلاك عندنا"، فحواه أن المرأة كلها عورة، وأن الحجاب الشرعي المفروض هو تغطية الوجه كاملاً. وفيه تحذير من النقاب، ووعيد بأن كل امرأة كاشفة الوجه مآلها إلى النار. إن قضية الخلط بين معاني الحجاب والخمار والجلباب أصبحت شائعة، حتى أن كلمة حجاب أصبحت تطلق على هذه المفاهيم الثلاثة من دون تفريق. في القرآن الكريم توجد ثلاث آيات حول هذا الموضوع، آيتان في سورة النور، وآية في سورة الأحزاب، الأولى وردت بلفظ الحجاب، والثانية بلفظ الجلباب، والثالثة بلفظ الخمار، ولكن مقصد اللفظ في كل آية مختلف تماماً عن الأخريين. الحجاب: معناه الساتر، يقال: حجب الشيء يحجبه حجباً وحجاباً: ستره، إذا اكتن من وراء الحجاب. حجب بينهما: حال، والحجاب: ما حال بين شيئين. أي أن الحجاب لغة هو التعبير عن بُعد مكاني، يميز عتبة بين منطقتين متميزتين، وحجب الشيء هو عملية تقسيم الحيز أو الفضاء إلى قسمين اثنين يتم إخفاء أحدهما عن الآخر. قال الراغب الأصفهاني:"الحجب والحجاب هو المنع من الوصول". إذاً الأصل في الحجاب أنه جسم حائل بين جسدين. ولا يكون الخمار حجاباً، فالحجاب أعم من الخمار. ويمكن الاستنتاج أن كلمة"حجاب"لا تعني الفصل بين جنسين مختلفين، بل هو لفظ مطلق، وربما يكون بين ذكرين اثنين. إن كلمة"حجاب"لم ترد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة فقط، وسميت الآية ب"آية الحجاب". وإن الحجاب الوارد في الآية الكريمة: وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجاب هو الستر الذي تجلس خلفه المرأة المحجبة. والاحتجاج المقصود في هذه الآية الكريمة، أن يكون حديث الرجال الأجانب لنساء النبي"صلى الله عليه وسلم"من وراء حجاب، فلا يرون شخوصهن، فإذا حدثت الرؤية، عندها يجب عليهن أن يحجبن وجوههن فضلاً عن بقية البدن. أي ان المعنى الأصلي للاحتجاب هو حماية نساء النبي من لقاء الرجال الأجانب من دون حجاب، والابتعاد بشخوصهن تماماً عن أبصار الرجال. وهذا ما فهمه عمر بن الخطاب"رضي الله عنه"من المقصود بالحجاب. فعندما توفيت حفصة ابنته زوجة الرسول سترها النساء عن أن يرى شخصها، وأن زينب"رضي الله عنها"، جعلت لها قبة فوق نعشها ليستتر شخصها. وأن ما يؤكد ارتباط الحجاب بالمكان، هو أن آية الحجاب نزلت في بيت الرسول"صلى الله عليه وسلم"لحكمة أرادها تعالى، كي تبين خصوصية وقدسية البيوت. والحجاب أول ما أمر به الرسول"صلى الله عليه وسلم"كان حجاباً من قماش أو ستار، أسدله النبي بينه وبين الرجل الذي وجد على عتبة غرفة زواجه من زينب، فنزلت الآية الكريمة لتبيان الآداب العامة والخاصة بالرسول"صلى الله عليه وسلم". مهما يكن من أمر، فالإجماع على أن لفظ الحجاب المقصود نزل في نساء الرسول لا خلاف عليه. ويدل على خصوصية نزول هذه الآية في نساء الرسول"صلى الله عليه وسلم"، عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: وافقني ربي في ثلاث: قلت يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى... وقلت: يا رسول الله، إنه يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب! فأنزل الله آية الحجاب... الحديث. أكد الإمام ابن حجر خصوصية الرسول"صلى الله عليه وسلم"عن بني البشر، بقوله:"وفي الحديث ? يقصد حديث نزول آية الحجاب ? من الفوائد مشروعية الحجاب لأمهات المؤمنين. قال عياض: فرض الحجاب مما اختصصن به ? يقصد أزواج النبي"صلى الله عليه وسلم"? فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين.. الحاصل أن عمر"رضي الله عنه"وقع قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي، حتى صرح بقوله له"صلى الله عليه وسلم"احجب نساءك... فقال له عمر: يا رسول الله لو اتخذت حجاباً، فإن نساءك لسن كسائر النساء، وذلك أطهر لقبولهن". وهو دليل على أن الحجاب نزل في نساء الرسول"صلى الله عليه وسلم"خصوصاً. عن أنس بن مالك رضي الله عنه:"إن النبي"صلى الله عليه وسلم"لم اصطفى لنفسه من سبي خيبر صفية بنت حيي، قال الصحابة: ما ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد؟ فقالوا: إن يحجبها فهي امرأته، وإن لم يحجبها فهي أم ولد"... الحديث. وحديث زواج الرسول"صلى الله عليه وسلم"من ريحانة بقوله:"فأعتقها رسول الله"صلى الله عليه وسلم"وتزوجها، وكانت من نسائه يقسم لها كما يقسم لنسائه، وضرب رسول الله عليها الحجاب". نلاحظ في هذه الأحاديث، وغيرها الكثير، التركيز على جملة"وضرب عليها الحجاب"، لأنه لو كان هذا الفعل اعتيادياً في بقية النساء لما كرره الرواة في كثير من أحاديثهم عن زوجات الرسول"صلى الله عليه وسلم"، إن حديث عائشة رضي الله عنها:"كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات"... الحديث، والذي استند اليه كثير من القائلين بوجوب ستر الوجه فيه دلالة كبيرة على أن تخصيص الحجاب كان لنساء الرسول"صلى الله عليه وسلم"، لأن عائشة لم تكن تقصد إلا نساء الرسول، اللاتي كن برفقتها وبجوارها، واللصيقات بها. والدليل ما جاء في"صحيح البخاري"عن عبدالرحمن بن عوف، قال:"أرسلني عمر وعثمان بأزواج رسول الله"صلى الله عليه وسلم"، فكان عثمان يسير أمامهن فلا يترك أحداً يدنو منهم ولا يراهن إلا من مد البصر، وينزلان في فيء الشعب ولا يتركان أحداً يمر عليهن". وفي رواية الوليد بن عطاء قال:"كان عثمان ينادي، ألا يدنو إليهن أحد ولا ينظر إليهن أحد"... الحديث. وفي حديث أم معبد قالت:"فنزلن بقديد قريباً من منزلي، اعتزلن الناس وقد ستروا عليهن الشجر من كل ناحية". هذه الروايات وغيرها تبين خصوصية حديث عائشة،"رضي الله عنها"، بأن النهي عن النظر كان لنساء الرسول"صلى الله عليه وسلم"من دون غيرهن. ولم يذكر مؤرخو السيرة النبوية أن هناك من النساء من كن برفقة الرسول"صلى الله عليه وسلم"في حجة الوداع، وفي ركب أمهات المؤمنين من النساء، غير زوجاته أمهات المؤمنين، رضي الله عنهن وأرضاهن، وإمائه، وهذا دليل على صحة رأي من قال بتخصيص الحجاب لنساء الرسول"صلى الله عليه وسلم"وليس العكس، ومن أنكر ذلك فعليه إثبات من هن النساء اللواتي كن ملاصقات لعائشة غير زوجاته أمهات المؤمنين"رضي الله عنهن وأرضاهن". حديث أم سلمة،"رضي الله عنها"، أنها كانت عند رسول الله"صلى الله عليه وسلم"مع ميمونة قال:"فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه، وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب"، فذلك الصحابي الأعمى ابن أم مكتوم الذي أمر النبي أزواجه بالاحتجاب عنه، هو نفسه الذي أمر فاطمة بنت قيس بقضاء عدتها في بيته حين طلقها زوجها، بقوله:"اعتدي في بيت ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى". قال ابن حجر:"إن حجة النبي"صلى الله عليه وسلم"منع نسائه من الدخول على ابن أم مكتوم لعله كان منه شيء ينكشف ولا يشعر به". ويلاحظ أن النبي لم يطبق على فاطمة ما كان قد طبقه على أزواجه. فضلاً عن أن المعتدة تكون أحكامها مشددة أكثر من غيرها في مثل تلك المسائل الفقهية. كما أن ما يؤكد خصوصية نساء الرسول"صلى الله عليه وسلم"بالحجاب هو السماح لهن بالجهاد قبل نزول آية الحجاب. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي"صلى الله عليه وسلم"ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم، وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان"، بينما في المقابل رفض النبي"صلى الله عليه وسلم"الإذن لهن بذلك بعد نزول آية الحجاب، فعن عائشة، رضي الله عنها، قالت:"يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور". بينما سمح لغيرهن في الجهاد في غزوة حنين وغيرها. وإذا تتبعنا الأحاديث الصحيحة فيمن ضرب عليهن الحجاب، لا نجد إلا أسماء زوجات الرسول"صلى الله عليه وسلم"رضوان الله عليهن، ولا يوجد حديث واحد صحيح يشير إلى أن النساء عامة كن يحجبن وجوههن عن الرجال. وإذا علمنا أن الأحاديث الشريفة السالفة الذكر وغيرها تبين بجلاء خصوصية حجب وجوه نساء الرسول"صلى الله عليه وسلم"عن الرجال، ففي المقابل هناك أحاديث كثيرة تشير إلى أن النساء عامة كن سوافر الوجوه، فمعظم الأحاديث النبوية تشير إلى أن الرسول"صلى الله عليه وسلم"كان يعرف وجوه النساء اللاتي يكلمهن، ويناديهن بأسمائهن، وقد أحصيت 112 حديثاً يتضمن كشف النساء لوجوههن في زمن الرسول والخلافة الراشدة. ولنأخذ على سبيل المثال حديث ابن عباس"رضي الله عنه"قوله:"أن امرأة استفتت رسول الله"صلى الله عليه وسلم"في حجة الوداع يوم النحر، والفضل بن عباس رديف رسول الله... فأخذ الفضل بن عباس يلتفت إليها ? وكانت امرأة حسناء ? وتنظر إليه، فأخذ رسول الله"صلى الله عليه وسلم"بذقن الفضل فحول وجهه من الشق الآخر". * باحث في الشؤون الإسلامية.