{ على رغم أعوام هو بوم التي فاقت الثمانين، فهو سريع البديهة، نشيط للغاية، دقيق في اختيار كلماته. اعتنق الإسلام عام 1939 وكان عمره 13 عاماً، وخاض غمار الحرب العالمية الثانية مع 16 شاباً ألمانياً مسلماً آخرين، لم يرجع منهم أحد سواه. بعد عشر سنوات من اعتناقه الإسلام أصبح إماماً لمسجد العاصمة برلين، ويعتبر نفسه مقصراً لأنه في حين كان الألمان مقبلين على الدين الإسلامي، كان المسلمون في برلين منشغلين بخلافاتهم المذهبية، فقصَّروا في الدعوة، وضيعوا هذه الفرصة الذهبية. عمل في السلك الديبلوماسي الألماني في سفارات بلاده في عدد من العواصم من بينها الرياضولندن وإسلام أباد، وكان مسؤولاً عن المدارس الألمانية في الرياضوجدة والخرج، بصفته الملحق الثقافي الألماني في المملكة، ثم أصبح بعد سنوات كثيرة المدير الإداري لأكاديمية الملك فهد في بون، فعرف دماثة أخلاق المسؤولين السعوديين في التعامل مع مدارس بلاده، ثم صدمه تعنت بعض المسؤولين الألمان الذين اعتبروا الأكاديمية"مستنقعاً لا بد من تجفيفه". حصل على وسام الشرف الألماني والباكستاني، وتقلد من قبل منصب نائب رئيس المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا، فكان تتويجاً لعمر طويل في خدمة الإسلام. ترجم معاني القرآن الكريم بأكمله إلى اللغة الألمانية، ولكنه توصل إلى قناعة بأنه ليس هناك نص بلغة غير العربية قادر على الاقتراب من النص الإلهي، فقرر عدم نشره على الإطلاق، على رغم إلحاح الكثيرين عليه. يقول إن الإسلام قادم لا محالة إلى ألمانيا وغيرها، ولكنه يوضح أنه يقصد الإسلام بمعناه الواسع، أي العودة إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، وترك الفجور والانحلال الأخلاقي وضياع القيم، والانصياع بدلاً من كل ذلك لأوامر الله تعالى. وأخيراً يقول إن مسلمي ألمانيا يعانون من التفرقة حالياً، ويواجهون صعوبات، بل وصفهم بأنهم"أيتام"يحتاجون إلى دعم إخوتهم في العالم الإسلامي. وفي ما يأتي نص الحوار معه: عملتم في السفارة الألمانية في الرياض، ملحقاً ثقافياً مسؤولاً عن المدارس الألمانية في المملكة، ثم عملتم مديراً إدارياً لأكاديمية الملك فهد في بون، فما أوجه التشابه والاختلاف في المهمتين؟ - بداية أود أن أعرب عن سعادتي للتنامي الكبير الذي تشهده العلاقات الثقافية والأكاديمية بين البلدين، في إطار برنامج الملك عبدالله للمبتعثين المميزين، الذي كان الأساس لقدوم دفعتين من طلاب التخصصات الهندسية والحاسب الآلي إلى ألمانيا، وهو أمر يثلج صدري. ولكنني أود أن أشيد بالسلطات التعليمية السعودية التي لم تكن أبداً حجر عثرة أمام المدارس الألمانية في الرياضوجدة والخرج، لم تكن مطالب السلطات السعودية تعجيزية، بل كانت منطقية، بل وبديهية، مثل المطالبة بتدريس اللغة العربية في هذه المدارس. لقد كانت كل المشكلات تجد لها حلاً، من خلال كرم الجانب السعودي. وأكاديمية الملك فهد... ماذا عنها؟ - الأكاديمية التي تحمل اسم المغفور له بإذن الله الملك فهد، مدرسة جيدة جداً، لكنها أصبحت للأسف ضحية للخوف من الإسلام، ضحية للإسلاموفوبيا في ألمانيا. لقد وصل الأمر إلى أن يتحدث مسؤولون في مدينة بون عنها، باعتبارها"مستنقع لا بد من تجفيفه"، هذه هي اللغة التي يستخدمها البعض في تسمية مدارسنا ومؤسساتنا الإسلامية، إنه لأمر مؤلم حقاً، لا بد أن يكون مؤلماً. إنني قلق على الأكاديمية، لقد قامت الأكاديمية بالوفاء بكل الشروط التي وضعتها الإدارة الحكومية في كولونيا، وفي حكومة ولاية شمال الراين وستفاليا، كل الشروط جرى استيفاؤها، لكن عدم سماح السلطات التعليمية للتلاميذ من حاملي الجنسية الألمانية بالالتحاق بالأكاديمية، سيحقق ما قالوه من أنه"سيتم تجفيفها". هل تتوقع أن زيارة خادم الحرمين الشريفين لألمانيا قبل أشهر يمكن أن تنعكس على حياة الألمان المسلمين إيجاباً؟ - أعرف أن الملك عبدالله يأتي للتحدث عن القضايا التي تشغل بلده وشعبه، ولكن بحكم مكانته المميزة كخادم للحرمين الشريفين، فإنني أتوقع أن يكون تحدث ولو بصفة غير رسمية عن الوضع غير السار ? للأسف - للمسلمين في هذا البلد، ويكفي الإشارة إلى الخطط التي يقترحها بعض السياسيين الألمان من أن يتم تسجيل كل الألمان الذين يعتنقون الإسلام. لقد أصبحنا تقريباً"أيتام"، نحتاج إلى المزيد من الدعم لمطالبنا وحاجاتنا، ليس ما نحتاج إليه دعاة من الخارج، ولا إلى التدخل في تطور أبحاث القضايا الفقهية في المحيط الإسلامي في أوروبا عموماً، وفي ألمانيا خصوصاً، بل من خلال التحدث مع المسؤولين الألمان عن العقبات التي تواجه بناء المساجد في كل مكان، وعن حملات التفتيش التي تتم لمؤسسات إسلامية لا غبار عليها في ساعات الفجر الأولى. إن الإسلام هو دين السلام، وله إسهامات جليلة في تطوير أوروبا لا تقل عن فضل المسيحية واليهودية، بل لقد ذكرت في ندوة في برلين أخيراً أنه"لولا الإسهام الكبير للعلم الإسلامي من عرب وفرس وهنود في تطوير العلوم والتقنيات، لما أمكن الهبوط على سطح القمر". لا بد من توضيح أن مسلمي اليوم، الذين لا يتقدمون الصفوف في مجال العلوم، هم ورثة حضارة إنسانية عريقة، وهو أمر يتناساه البعض في هذا البلد، بل إنهم ينكرونه عن عمد. كان الألماني الذي يعتنق الإسلام يصبح محط ريبة من سلطات بلاده، ويواجه العناء والصعاب من أهله وزملائه في العمل، بل وأحياناً مع المسلمين بالميلاد، فما هو الدافع القوي الذي يجعله يتحمل كل ذلك؟ - ينظر بعتاب شديد أنا لا أحب الحديث عن نفسي، ولكنني مضطر لذلك الآن، لقد اعتنقت الإسلام عام 1939، عندما كان الحكم النازي سائداً في ألمانيا، وهو حكم ديكتاتوري، ولم يكن محابياً للإسلام، على عكس ما اعتقده العرب آنذاك، بل وما يعتقده بعض العرب حالياً، لقد كان هذا خطأ كبيراً وقعوا فيه، ويمكن الإطلاع على المراجع المعتمدة الكبرى، لإدراك أنه كان وهماً كبيراً. أذكر أن أبي حزن كثيراً عندما أبلغته باعتناقي الإسلام، وقال إنه لن يكون لي حظ في إمبراطورية الألف عام، كما كان النظام يطلق عليها. لقد اعتنقت الإسلام ومعي ألمان آخرون، لأننا وجدنا أن الإسلام هو الأقرب للطبيعة الإنسانية،"فطرة الله التي فطر الناس عليها"، إننا لم نبدل ديننا بل رجعنا إلى الدين الحق الذي فطرنا الله عليه، لم يقم جيلي بأبحاث فلسفية متعمقة قبل اعتناق الإسلام، بل كفاه أن يتعرف على التوحيد، الذي هو الأقرب للعقل والروح في آن واحد. بصراحة لم يكن أمامنا من خيار، سوى اعتناق هذا الدين، مهما كانت الصعوبات التي يفرضها النظام النازي. تعلم وأعلم جيداً أن الله وحده هو الذي يهدي إلى الحق،"إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء"، وهذا هو المبرر الوحيد لقيام 17 شاباً ألمانيا باعتناق هذا الدين، دخلوا جميعاً بعد ذلك ساحة المعركة، فلم يعد منهم بعد الحرب العالمية الثانية سواي، بقيت وحدي على قيد الحياة. إننا لم نمارس"التقية"، ولم نخف إسلامنا أبداً، فقد كانت قلوبنا تفيض حباً لدين الله، وما كنا نتوقف عن الحديث عنه، ربما كنا سذجاً لا نعرف حجم المخاطر التي يعرضون أنفسهم إليها، ولكن ها هو تاريخ الألف عام لم يدم سوى اثني عشر عاماً، وبقيت في الإسلام قرابة السبعين عاماً، بفضل الله. إن عودة الألمان للدين الحق، ولا أقول ترك دينهم، يرجع إلى وضوح صورة التوحيد والتعاليم الإسلامية كافة، ولا أعني بذلك هيمنة العقل على العقيدة، فالأصل في قضايا الإيمان، أن نؤمن بها، لأنه حين يعجز العقل عن الإدراك، يساعدنا الإيمان في توسيع آفاقنا لإدراك ما لا تدركه عقولنا. لا تفعل مثل العلماء! يقول بعض معتنقي الإسلام الجدد، إنه من الأفضل التعرف على الإسلام خارج بلاد المسلمين، حتى لا يؤثر السلوك السلبي لبعض المسلمين، وإساءة استخدامهم لنصوص القرآن، في نظرة غير المسلمين لهذا الدين. فهل تشارك في هذا الرأي؟ - من الخطأ الكبير التأثر بأتباع الدين للحكم عليه، فلا حسن أخلاق المسلمين يقربني من الدين، ولا سوء أخلاق بعضهم ينفرني من الإسلام على الإطلاق، فكلنا بشر فينا الخير وفينا الشر، ويمكن أن نرتقي بأنفسنا، ويمكن أن ننحط إلى أسفل السافلين، ومن قبيل الخيال أن نتصور أنه بإمكاننا العيش في عالم من الملائكة، لذلك الأفضل أن يبدأ كل إنسان بإصلاح نفسه، وإذا شاهدنا قصوراً عند بعضنا البعض، فعلينا أن نعقد النية على إصلاح ذلك الوضع. لقد كنت أصلي خلف إمام من البوسنة، يؤم المسلمين في أحد مساجد لندن، وفي حديث معه في إحدى الجلسات، قال لي:"افعل ما يقوله لك العلماء، لكن لا تفعل مثلما يفعلون". طبعا يؤسفني جداً إساءة استخدام البعض للنصوص القرآنية لتبرير أفعالهم، وهو أمر أدينه بشدة، ولكنه لا يؤثر في إيماني بديني. لقد قرأت مئات الكتب وقضيت أربعين عاماً بين المسلمين، وسمعت الكثير من الآراء الدينية، والتفسيرات المتعددة من أكثرها تطرفاً إلى أكثرها تسامحاً، ولست أوافق على كل ما أقرأه أو أسمعه، لأنني موقن أن الحقيقة المطلقة عند الله وحده، وما عدا كتاب الله، فكل الآراء قابلة للبحث والتمحيص. هل تعتقد أن يستمر الحوار الإسلامي - المسيحي في عهد هذا البابا الألماني؟ - ربما تدفع مقولاته في محاضرته إلى عمل الجانبين على إنقاذ الحوار، وتعطيهما دفعة، ولكن تعتريني الشكوك في قدرة القيادة الروحية للكنيسة الكاثوليكية على ذلك. هل يحصل المسلمون في ألمانيا على معاملة الألماني غير المسلم نفسها؟ - لقد حدث شيء يؤسفني في ألمانيا، وهو أن المسلمين أصبحوا يتعرضون للتمييز، صحيح أن الأمر لم يصل إلى اعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية، أو كأناس منحطين. كما كان يحدث في العهد النازي، لم يصل الوضع إلى هذا الحد، ولكنني أشك أن نكون كمسلمين نحصل على الحقوق نفسها مثل غيرنا من مواطني هذه الدولة. ما أجمل حادثة وقعت لك كمسلم؟ - كل يوم يمر عليّ كمسلم هو يوم جميل، ولكن أسمى إحساس شعرت به، كان عند رؤيتي الكعبة من بين الأعمدة، وأنا مقبل عليها للمرة الأولى، لقد انسابت دموعي، وشعرت بإحساس جارف عميق مستديم، وعلى رغم أنني قمت بحوالى 30 إلى 40 رحلة حج وعمرة حتى الآن، فإن هذا الإحساس يتكرر في كل مرة، ولا يقل وهجاً ولا تأثيراً. وما أسوء إهانة تعرض لها بسبب دينك؟ - لقد مرت عليّ إهانات كثيرة، ولكن الله حباني بطبيعة تجعلني أنسى بسرعة كل ما يقع عليّ من إساءات على يد الآخرين، لذا لا أشعر ببغض تجاه أي شخص، بل أحاول مرة بعد مرة أن أضع نفسي مكانه، لتفهم سبب تصرفه، ولكنني كثيراً ما أفشل في ذلك. إنني أحمد الله على هذه الهبة بأن أنسى ما يفعله الآخرون لي.