الأم ... من هنا يبدأ الحب وهنا ينتهي. يلتصق بنا حب الأم أكثر من أسمائنا، وعلى رغم ذلك ننسى أحياناً حبها ولا ننسى أسماءنا. وفي كل مرة ننسى قدر الأم وحاجتنا المتزايدة إليها، تصفعنا الحياة وتعيدنا مرة أخرى إلى حضنها أطفالاً أصغر من السابق. أنا أسكن خارج الرياض ووالدتي تسكن في الرياض وفي إحدى المرات كان لدي موعد في طرف مدينة الرياض، ولا أعلم بماذا كنت أفكر عندما قررت أن لا أخبرها عن قدومي للرياض، وأن أذهب مباشرة لموعدي و أعود من دون زيارتها.. تفادياً للزحام ووجود مواعيد لدي في وقت لاحق من ذلك النهار، وأيضاً معرفتي المسبقة بأن زيارتي لها ستربك جدولها البالغ الرتابة... كلها أعذار ومبررات اختلقتها وصدقتها. الحرص على وقتي ووقت والدتي هو ما دفعني لاتخاذ القرار الخاطئ، وفي الطريق تعطلت السيارة وتنبهت لفداحة خطأي عندما وجدت نفسي وسط هدوء مريع مع مهندس باكستاني كان من اللطافة بأن تبرع بإيصالي إلى الرياض بسيارته الصغيرة التي بالكاد تتحرك. فكرت - وأنا أرى الشاحنات الكبيرة تتجاوز سيارتنا الصغيرة - يالها من أحجية عجيبة علاقتنا بالوقت، قبل لحظات كانت الدقائق أغلى من أن أشتري بها رؤية والدتي والآن أنا أقبع في سيارة صغيرة تتقاذفها الرياح الخفيفة وهي تزحف ببطء وكأنها صنعت خصيصاً من أجل الاستهزاء بالوقت، وأسوأ من ذلك أنه يتوجب علي الشعور بالامتنان لأن البدائل كانت أسوأ. تذكرت أنه قبل أشهر عدة كان لدي أربعة مواعيد في أماكن مختلفة من الرياض، وعلى رغم ذلك ذهبت مباشرة إلى والدتي وتناولت القهوة معها وتزودت بدعواتها وذهبت لمواعيدي، وفي الساعة التاسعة والنصف كنت قد فرغت من كل المواعيد في ما يشبه المعجزة، وأتذكر أيضاً أني أصبت كل معارفي بالملل من كثرة ترديدي لهذه القصة، وعلى رغم ذلك عند المحك نسيتها وتصرفت وكأنها لم تحدث لي. المهم أنني بعد الانتهاء من مواعيدي ذهبت إلى والدتي واعترفت لها بكل شيء وقلت لها إنني أخطأت وأن العقوبة التي حصلت عليها كانت مخففة، كانت أشبه بالقرصة الخفيفة التي توقظ النائم من غفوته. يقال إن الأم هي الوحيدة في هذا الكون التي تستطيع توزيع حبها على عشرة أطفال وكل واحد ينال كل حبها. فحب الأم جزيرة جميلة في محيط الحياة المتلاطم. في كل قصة نجاح فتش عن دعوات الأم فهي السر الحقيقي للنجاح. يقول الرئيس الأميركي ابراهام لينكولن أتذكر دعوات والدتي التي لحقت بي والتصقت بي طوال حياتي. الأمومة هي أعظم مهنة في هذا الكون من حيث العائد لأن الأجر يكون بالحب الصافي. فالأم تقول لطفلها: قبل أن أحبل بك أردتك وقبل أن تولد أحببتك وقبل أن تصل بساعة كدت أموت من أجلك وهذه هي معجزة الحياة. فقرار الأم بالإنجاب هو قرار مؤثر لأنها تقرر وبشكل نهائي أن تسمح لقلبها بالتجول خارج جسدها. ترنيمة الأم في المهد تبقى حتى اللحد، لأن أعظم أكاديمية في العالم هي حضن الأم. يعرف أحدهم كنزة الصوف بأنها نوع من الملابس الشتوية يرتديه الطفل عندما تشعر الأم بالبرد. لماذا ننسى حب الأم والشباب يزول والحب يتلاشى وأوراق الصداقة تتساقط، فيما يبقى حب الأم متقداً يجدد مشاعر الأمل إلى الأبد. يقول جورج اليوت أعتقد أن حياتي ابتدأت باستيقاظي وحبي لوجه أمي. في كل منزل هناك ينبوع متجدد من الحب والبركة اسمه الأم، كل شيء آخر يبدو تافهاً عندما يقارن بالأم، ولعل المصطفى صلى الله عليه وسلم اختصر كل ذلك عندما قال الزم رجلها فثم الجنة. البر بالأم ليس مجرد طريق نسلكه للتعبير عن الوفاء ورد الجميل وبحثاً عن الأجر والمثوبة، بل هو أكثر من ذلك بكثير، هو الشعور الغامر بأن حاجتنا للأم تكبر مع تقدمنا بالعمر. فهي ينبوع الخير والبركة المتجدد الذي لا يتوقف عن العطاء. فالأم حتى عندما تمرض فهي تختار الألم فقط لتتيح الفرصة لطفلها بأن يحظى ببعض مشاعر السعادة والرضا عن النفس إذا قدم لها بعض المساعدة، هي فقط ترشده لأقصر الطرق وأسهلها لإضافة قليل من البركة على حياته. فقانون البركة مرتبط بالأم تماماً مثل ارتباط قانون الجاذبية بالأرض. فالبركة فراشة ترفرف حول زهرة العمر الأم. [email protected]