حذّر مهتمون بقضايا "الدم" في المنطقة الجنوبية من ظاهرة ارتفاع الديات "التي يخشى أن تتحول إلى عرف جائر". وقال شيخ إحدى القبائل ل "الحياة": "إن سماسرة الدم استغلوا قضايا قتل لمصلحتهم الشخصية، ما أحبط كثيراً من مساعي العفو". ويأتي هذا في وقت يرى مراقبون أن أبناء المناطق الجنوبية توارثوا "الملفى" باعتبارها "عادة اجتماعية تحقق التكافل والتآلف بين أفراد القبيلة وتستهدف إرضاء ذوي القتيل، وإذهاب التشفي من أنفسهم". وأوضح هؤلاء المراقبون في حديث مع "الحياة" أن الوفود من الوجهاء تحرص خلال لقاء أسرة القتيل في منزلها على اختيار العبارات المؤثرة المبنية على قوة البلاغة وجودة الفصاحة لتأكيد التعاطف مع مصابهم، وامتصاص رد فعلهم الغاضب، ما يدفعهم أحياناً إلى التنازل عن المطالبة بالقصاص والعفو في مقابل مبلغ مادي مجز، أو مجاناً ابتغاء العوض والمثوبة من الله. ويصف شيخ قبيلة بني ظبيان عثمان بن صقر في حديث مع "الحياة" "الملفى" بالعادة الاجتماعية المتوارثة عبر الأجيال، والهادفة إلى تفعيل دور القرابة من خلال مواقف النصرة والحد من سفك الدماء، مشيراً إلى أن الشفاعة الحسنة محمودة شرعاً وعرفاً باعتبارها وسيلة لتحقيق العفو، وتفادي الأزمات الثأرية بين القبائل والقرى. واستعرض آلية الملفى المتمثلة في جمع الأعيان وذوي الوجاهة من الشخصيات الفاعلة لتتولى التعزية والمواساة أولاً، ومن ثم يأتي دورهم في التنسيق بين أهل المقتول وقرابة القاتل وتحديد موعد للملفى. وأضاف: "لكل قبيلة طريقتها في الوفود على أولياء الدم والجميع يعول على رضا قرابة الميت وقبولهم بالملفى عليهم، لتبدأ القبيلة اللافية بترتيب أوراقها من خلال جمع مبالغ وتأمين بعض المواد العينية ومنها الماشية والرز والسكر والشاي والفواكه، لتنطلق إلى بيت أسرة المصابين أو القتلى، إذ يلقي شيخ القبيلة أو عريف القرية خطبة اعتذارية يشير فيها إلى العلاقة التاريخية بين القبيلتين والقريتين والأواصر الاجتماعية الرابطة بينهما". ويتابع: "يتم التركيز خلال الخطبة على استعداد أعضاء الوفد تقديم كل ما يرضيهم من مال أو رد اعتبار معنوي"، لافتاً إلى منهجية "الدخالة" إذ يلقي جماعة من ذوي القاتل أشمغتهم وعقلهم ومشالحهم بين يدي والد المقتول والمستقبلين من جماعته ولا يرفعونها غالباً إلا بعد إعلان التنازل لتبدأ قبلات الحضور تنهال على رأس العافي في مشهد عاطفي مؤثر. وأوضح أن من عبارات اللافين الشهيرة في الجنوب "نحن اللحم وأنتم السكين" و"ولدكم الحي وولدنا الميت" و"فصّلوا ونحن نلبس" و"أتينا من غيظكم لرضاكم". وحذر ابن صقر من استغلال بعض السماسرة لقضايا القتل وجمع مبالغ من محسنين يصعب استعادتها وتوظف في مصالح شخصية بعيداً عن هدفها الأصلي، مؤملاً بأن تحقق الشفاعات الحسنة مقاصدها، إذ كثيراً ما تذهب الجهود المبذولة في العفو أدراج الرياح. فيما يقف عريف قرية بشير خبتي الدميني موقف الرافض للديات المبالغ فيها، والعروض المادية المكلفة، معوّلاً على الأحكام القضائية في تجاوز ممارسات قبلية تهدف إلى تعطيل النص الشرعي، والاستعاضة عنه بالعرف الجائر أحياناً. وقال الدميني ل "الحياة": "أخشى أن تتحول الديات المرتفعة إلى عرف جائر كونه يكلف أهل القاتل فوق طاقتهم، ما يضطرهم للتنازل عن كل ممتلكاتهم والجلاء من قراهم والتخلي عن بيوتهم وأراضيهم. وطالب بتقنين قضايا الديات عبر لجان إصلاح ذات البين، مضيفاً: "أن حكم الله أعدل من حكم البشر". من جهته، أبدى الناشط الاجتماعي غرم الله الصقاعي أسفه من تعاطف المجتمع مع القاتل وتغافله عن مصاب ذوي المقتول، مشيراً إلى أن ثراء بعض الأفراد يدفعهم إلى الاستهانة بدماء الأبرياء. واستشهد الصقاعي خلال حديثه مع "الحياة" برجل "مقتدر" قتل ابنه أشخاصاً في حادثة سير "وحضر الدفن وفي جيبه شيك مصدق بمبلغ الدية متجاهلاً كل الأعراف والقيم ومشاعر الحزن المسيطرة على ذوي المتوفى"، مشيراً إلى أن دماء الأبرياء لا تغني عنها كل أموال الدنيا. ودعا إلى إعادة النظر في آلية تسديد الديات عبر مؤسسات الدولة "ليمكن الحد من التجاوزات وحفظ كرامة أطراف قضايا القتل". فيما عدّ عضو لجنة إصلاح البين في منطقة الباحة عبدالرحمن أبو رياح الوجهاء في القبيلة أشخاصاً مؤثرين في مسار القبيلة الاجتماعي، إذ بهم يتحقق الإصلاح في المجتمع بالوسائل الممكنة التي تحفظ مكانتهم وتحقق نتائج إيجابية. وأضاف ل "الحياة" أن "العديد من ذوي السجناء المحكوم عليهم بالقصاص في قضايا القتل يسلكون السبل المتاحة كافة لاستعطاف أصحاب الحقوق الخاصة واللجوء إلى أصحاب الوجاهة والمكانة العالية في القبيلة من شيوخ قبائل ووجهاء ممن لهم تأثير في حل العديد من القضايا الحقوقية". ولفت إلى أن الوجاهة كثيراً ما تحقق هدفها في الصلح، مؤكداً دور أفراد القبيلة في تحقيق السلم الاجتماعي خصوصاً في قضايا الثأر. ووصف ما يقوم به الوجهاء في القبيلة والقرية بالشهامة العربية الأصيلة، "كونهم ينطلقون من مبدأ السعي بين الناس بالإصلاح"، مشيراً إلى أن الغاية تبرر الوسيلة خصوصاً في مجال البحث عن العفو، "وهذا لا يعني طلب مبالغ طائلة من أهل القاتل". وقال إن بعض أصحاب الحقوق الخاصة يفرضون دية مرتفعة، لأمرين: إما لتعجيز ذوي القاتل وتكون النتيجة القصاص، وإما لتحقيق الاستقرار المعيشي لعائلتهم. وأبدى تحفظه على مطالبة بعضهم بالاستغناء عن الوجاهة، "إذ لا يمكن بحال من الأحوال تهميش دور أشخاص فاعلين يحضون باحترام وتقدير المجتمع القبلي في حل القضايا والحد من تمادي أضرارها". محكوم بالقتل : "الصك" استغله "أقارب" لتحقيق ثروة أوضح السجين"ص م ز 36 عاماً"المحكوم بالقصاص في قضية قتل أن بعض أقربائه استغلوا صك الحكم لتحقيق ثروة، وبعض أبناء عمومته نسخوا صوراً من الصك الصادر عن محكمة الباحة أثناء وجوده في السجن"وانطلقوا لجمع مبالغ من المحسنين وإيداعها في حساباتهم الخاصة، وإنفاقها على حاجاتهم الأسرية ومتطلباتهم اليومية"، مشيراً إلى أن الصك كان يقضي بتنفيذ حكم القصاص فيه ما لم يدفع الدية التي اشترطها أولياء الدم للتنازل وهي مليون ريال. وأضاف:"فعلوا هذا وتجاهلوا وضعي النفسي المتدهور نتيجة خوفي من عدم انفراج كربتي". ولفت إلى أن قرابته النفعيين"تجولوا بصك حكمه في مناطق سعودية عدة، ومروا به على مؤسسات حكومية، ومدارس، ورجال أعمال، ومشايخ قبائل للتكسب لأنفسهم على حساب قضيته". ورأى أن بعض ضعاف النفوس يحوّل مصائب الآخرين إلى فوائد ومكاسب شخصية،"ما يؤكد مقولة مصائب قوم عند قوم فوائد". واعتبر أنه"لولا مبادرة أحد المحسنين بدفع الدية بعد نشر قصته في صحيفة الحياة للبث في السجن أعواماً إضافية، ولربما انتهت حياته بالقصاص".