لم يكن إصرار الباحثة في التراث الدكتورة لمياء باعشن على تدوين مجموعة حكايات"التبات والنبات"بالعامية المحكية الحجازية، التي طرحتها أخيراً في ستة أجزاء تحوي 101 حكاية شعبية، لم يكن إصرارها إقليمياً أو انحيازاً للهجة الحجازية بقدر ما استشعرت من العامية تأسيساً تأصيلياً لتمثلات شعبية، أنتجها الحراك البشري في منطقة الحجاز بواعث متوارثة تحاول فهم ظواهر الحياة السسيوثقافية، إبان فترة غارت قبل نحو 50 سنة. غير أن تلك اللهجة العامية التي دونت بها الحكايات والموجودة واحدة من وسائل التواصل المجازية، تشكل مدخلاً الى حركة التفاعل الاجتماعي آنذاك. فالحكاية الشعبية، في حكايات"التبات والنبات"، تنصرف الى أدب العامية التقليدي مجهول المؤلف، أو ما يسمى"بالأدب الفولكلوري"، حيث يتجلى دافع المحافظة والخشية من الاندثار وراء تجميع وتدوين هذه الأيقونات النادرة، ومن ثم بناءها كشواهد حية عن حياة مدنية آخذة في التشكل، فتتحدث بلسانها وتنقل أحاسيسها وترصد أفكارها وتقاليدها بلغة شعبية نسوية طريفة لا تخلو من غنج محبب. ويتحقق وفقاً لذلك تشييد الحكاية اللغوي والتراكيبي كمفتاح لحقائق نفسية اجتماعية عميقة، وكعلامات تكشف عن ثراء معرفي غزير بمكنونات الحياة، وهي فوق هذا وذاك مؤشر لأنماط فكرية متداخلة في مرحلة قصرت فيها وسائل الإعلام والاتصال. جمعت باعشن الحكايات ودققتها وأعدتها خلال عشر سنوات عن سيدات راويات عتقتهن السنوات الطوال بأديم البيئة الحجازية، وبكل ما شُحنت به ذواكرهن الندية من حكايات وأحاجي وأعاجيب يروينها للكبار الراشدين قبل الصغار واليافعين. السيدات الراويات وهن يمارسن فعل الحكي فيما يكون موشّى بأداء تمثيلي، يكتسي التقمص الكامل للشخصية المحكي عنها يمارسن ذواتهن المتخيلة، هكذا تكشف لمياء عن راوياتها: والدتها السيدة أميرة اللقاني، عمتها جواهر باعشن، عمة والدها رتيبة باعشن، ثم عائشة وسمية اللقاني، اعتدال نصيف، سهام فطاني، سامية خميس، الجدة مريم درويش، الخالة لطيفة كردي، السيدة فاطمة قاضي. وغيرهن ممن أصغت إليهن ونقلت حكايتهن بصدق حميمي متجرد من شعارات الغيرة على اللغة الفصحى، ليس لعدم أهميتها وإنما لتلاشي تلك الأهمية في عصر العوربة، واقتراب الثقافات العربية من بعضها وتداخلها وتواصلها وتصاهرها. ناهيك عن أصلها الفصيح الذي يؤكده أستاذ العلوم اللغوية الدكتور محمد يعقوب تركستاني،"فما من كلمة عامية إلا ولها أصل فصيح". يظهر أثر البيئة المكانية والزمانية في الحكايات التي بدورها تنقل تفاصيلات الحياة بكل معطياتها الفكرية وتكويناتها التراثية، فيجد القارئ متعة القراءة بمنطوقية مفردات لها دلالات تلتقي بالموروث الشعبي، ومصاغة ضمن قوالب قصصية تنهل من الأسطورة والحكمة والطرفة والأحجية والتراجيديا وحتى الخيالية الشفاهية، التي تجعل من القصة حدثاً كلامياً وكياناً مسموعاً مقروئاً في آن... تقول لمياء باعشن في مقدمة الكتاب الأول الجزء الأول:"أرجو أن يجهر قارئ"التبات والنبات"حتى يمكّن النص من أن يتحدث بصوته، ثم يشافه به بعيداً ليشارك في تحرير الحكايات الشعبية من قيود الكتابة الإلزامية، وتحريكها بأسلوب حكائي مبتكر يسمح لها بالانتقال عبر الزمن". هكذا تطرح باعشن بتقديمها هذا المنجز الثريپإشكالية التأويل النقدي للحكاية الشعبية، التي تدفع لإعادة إنتاج المعنى للمفردة المتوارية عن الاستخدام، وفي هذاپإثارة نحو التعرف على المعاني الجديدة/القديمة ذاتها. وهي أيضاً - الحكايات - تقترب في إحساسها الفورمولوجي من الكاركتر الحجازي الأسطوري، المتقاطع مع أبطال يجدهم القارئ في"ألف ليلة وليلة"تارة وفي"الأميرة ذات الهمة"تارة، وفي"كليلة ودمنة"تارة أخرى، خصوصاً الحكايات المروية بألسنة الحيوانات وعوالمها الفنتازية. وهي - الدكتورة لمياء - تعي أن إنجذاب الطفل لهذا النوع من الحكايات يضاهي إعجابه بأفلام"والت ديزني"و"وارنر برذرز"، بل هو إنجذاب روح الطفولة الطليقة إلى عوالم الخيال والماوراء، التي يشاهدها في"هاري بوتر"و"سنو وايت"و"سندريلا"و"باربي"وهي مستقاة من الحكاية الشعبية في ثقافات أخرى، وإدراكها الرصين بأن ما كان يحكى في الحجاز لا يقل سحرية عن هذه العوالم، بل يتفوق عليه بسبب خصوصيات تكوينية لا مثيل لها. تصدح حكواتيات"التبات والنبات": السيدات بدرية قاضي، عطرة عبدالله، فوزية عشري، بديعة طربية، أمينة قدور الشيخ، سعاد عبدالجبار، ثريا باعراقي، تحية ميمني، نجاة شقرون، امتداداً لشهرزاد من نوع آخر، في زمن وظروف أخرى، يحكين لمستمع يعي النص كصورة مجسدة أمامه بتلويناتها الدرامية:"كان يا ما كان فيه واحد فقير غلبان قاعد يشحد في السوق قوت يومه، ودخل عليه واحد تاجر مليان، لمن طل وشافه حنّ عليه وقال له: إيش رأيك تشتغل عندي صياد على الأقل تكتسب قرشك بعرق جبينك". وفي حكاية أخرى من المئة حكاية وحكاية - لا تُخفي دلالة الرقم هنا مقارنة بألف ليلة وليلة وكأن المدونة أرادت خلق موازٍ تراثيٍ لكتاب العرب الأشهر - تقص باعشن للأطفال ضمن تسع حكايات انتخبتهم في ثلاثة كتيبات معدة للأطفال ومرفق بها أشرطة كاسيت مشغولة باحترافية سردية نغمية، مدعمة بتأثيرات صوتية درامية غاية في العذوبة، تفتتحها بأنشودة طفولية:"أيام زمان كنا نتعشى من بدري، بعدين يجينا النوم وعالسطوح نجري، نلقى الفراش مفرود وله لحاف زهري وأمي تغطينا وتقول لنا تبغونا نتحكى، طيب وحّدوالله"، وتحكي. وأخيراً تؤكد لمياء باعشن في تقديمها أن"التبات والنبات"لا شأن له بأدب الأطفال بشكل محدد، فهو عمل تراثي ثقافي موجه لكل الفئات العمرية من أجل إعادة الحياة لأشكال تعبيرية أصيلة.