لكل منطقة لهجاتها ولغاتها العامية التي تعكس العادات والمواقف، وإن نظرة اللامبالاة التي كان ينظرها الناس إلى الفولكلور حتى عهد قريب قد تركت أثراً على بعض مؤرخي الأدب ونقّاده، ومازال العديديون منهم -للأسف الشديد- يخفقون في إدراك قيمتها الأدبية إدراكاً سليماً، وإن كان هناك كثير من النقّاد العرب المنصفين الذين تمتلئ عقولهم بالثقافة والمعرفة وعدم التنكّر للموروث الشعبي مثلما تفعل الشعوب المتقدّمة في إعطاء موروثاتها الشعبية حقها من الدراسات والدعم المادي والإعلامي، فنجد أن الجهات الرسمية مع شعوبها مجتمعة في دعم الموروث مادياً ومعنوياً، فلك أن تتصوّر عزيزي القارئ أن شاعراً شعبياً وفناناً ريفياً مثل آلان جاكسون (ولد 1958) مشهورٌ في الولاياتالمتحدة الأميركية أكثر من الفنان مايكل جاكسون! في حين نجد خفوت نجم الفنان الشعبي مقابل الفنان الصاخب في مجتمعاتنا العربية، وعلى هذا قس على الأشعار الشعبية في الغرب وتسليط الأضواء عليها في الدراسات الشفاهية مقابل مهاجمة أغلب النقاد العرب والنقاد المحليين لهذا الفن باستثناء قلّة قليلة تعدّ بالأصابع سواءً ممن أسهموا بكتب مستقلّة عن الموروث الشعبي أم بكتب نخبوية ودراسات ومقالات في مجالات أخرى مثل فنّ الرواية الذي نادى كثير من نقّادها بالاسهام في إدخال الحكايات الشعبية والموروث الشعبي مثل المقولة واللهجة والعادة كأمثال الروائي والناقد العراقي عبدالرحمن مجيد الربيعي والناقد السعودي الدكتور معجب العدواني، وفي المقابل نجد هجوماً شنيعاً من قبل عدد من النقّاد ينادي بإهمال ذلك، ولا أدلّ على هذا من أطروحات الدكتور حسن الهويمل، الذي يحمل اسمه لفظة شعبية متداولة حتى الآن، وهو يحاول جاهداً في كثير مما يطرح هنا وهناك لإقناع المتلقي بمساوئ الموروث الشعبي وبالأخص الشعر الشعبي لشعراء الفصيح في حين أن شعراء الفصيح المبدعين يردّون على تلك الدراسات باقتباسات من الألفاظ الشعبية تندرج ضمن أشعارهم الفصيحة العمودية منها والحرّة..! وقد قمت بالكتابة عن بعض تلك الأمثلة في صفحة الخزامى بجريدة الرياض. لا بدّ وأن لكل رجلٍ عربي من أولئك ذكريات مع والدته أو جدّته أو أخته الكبرى أو غيرهنّ من النساء اللواتي أثّرن في حياته عبر ما يحفظن من تلك المأثورات الحكائية والأهازيج الشعبية، ولا ريب أن ترتبط المرأة بذلك عبر كثير من الدراسات العربية والأجنبية مثل ما ذكرته الباحثة والشاعرة الأميركية مارغريت راندال حينما اكتشفت في أمريكا اللاتينية أهمية التقاليد الشفوية (الفولكلور أو التراث والأدب الشعبي) والموجود في جميع أنحاء العالم بالطبع بما في ذلك وبغزارة في بلدها، ولكن ربما لأن التقاليد الشفوية في الخارج كانت أكثر قيمة من الناحية الحضارية والثقافية، فإن الشعراء الأجانب الذين التقت بهم في الستينيات كانت أقرب إليهم مما كانت لديها، إذ تقول: "لقد اكتشفوا إيقاعات الكلام لشعوبهم وضمنوها في أعمالهم، وعندما بدأت العمل في التاريخ الشفوي وبخاصة مع النساء، بدأت أيضاً فهم أهمية الرطانة والجعجعة المحلية واللهجة والإيقاع، والنبرة ومقام الصوت في عملية انتقال الأفكار الحية، وبدأت في دمج أنماط حديث الناس العاديين في شعري" أ.ه فالنساء كما قالت راندال لديهن ارتباط بالتاريخ الشفوي، ولذلك نجد نساء عربيات معاصرات أمثال: نبيلة إبراهيم وأروى عبده عثمان ونور الهدى باديس وضياء عبدالله الكعبي وحصة زيد الرفاعي وشهرزاد قاسم حسن وشيما ميزومو وغيرهنّ ممن حاولن كل بطريقتها وأسلوبها والموقع التي تحتلّه أن تحمي هذا الموروث الشعبي من الضياع، وتتعهد بحفظه وتعتني به بجمع الحكاية الشعبية الشفاهية، وبالدراسة والتحليل والتوثيق، وكذلك من النساء السعوديات الباحثات والمهتمّات أمثال: منى عابد خزندار وليلى صالح البسام وفاطمة بنت محمد الحسين وغيرهنّ الكثير ممن يستحقّن التكريم والتقدير نتيجة ماقدّمنه في خدمة الموروث الشعبي. ومن أولئك اللواتي استحققن التكريم الدكتورة لمياء باعشن، أستاذة النقد والأدب بقسم اللغات الأوروبية وآدابها بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، وصاحبة أوراق علمية في النقد الأدبي باللغة الإنجليزية، ومشاركات ببحوث نقدية في عدد من الملتقيات الأدبية في المملكة، وتدور نشاطاتها في البحث العلمي في محاور السلبيات والنظريات النقدية والأدب المقارن والأدب الشعبي، والحاصلة على شهادة تكريم من دارة الملك عبد العزيز بالرياض عام 2003م لجهودها في توثيق التراث الشفهي، والحاصلة على جائزة التميُّز من مهرجان جدة الثالث للأفلام للعام 1429ه تقديراً لجهودها في إحياء وتطوير التراث الشعبي، والدراسات الشعبية، ولها كتاب بعنوان "التبات والنبات" وهو مجموعة الحكايات الشعبية الحجازية في عامي 1997-2002م ، وقرص مدمج مسمّى "دوها، أهازيج من التراث الحجازي" العام 2007م ، المجموعة المسلسلة "الثبات والنبات" في ستة أجزاء في العام 2008م ، "الثبات والنبات" المسموعة والمصورة في ثلاثة أجزاء، أوبريت "أيام زمان كنا" للأطفال في عام 2008م، ولها أكثر من خمسة وعشرين بحثاً في التراث والدراسات النقدية واللغوية. فكما فعل الشيخ عبدالكريم الجهيمان – رحمه الله – في مجلداته "أساطير شعبية " و"الأمثال الشعبية" التي وثّق فيها حكايات وأمثلة وردت في نجد، فعلت الدكتورة لمياء باعشن في توثيق حكايات شعبية في أرض الحجاز. إن حبّ المرء لوطنه يرتبط بروابط وثيقة مع حبّه للمكان الذي ولد فيه ولصلاته العائلية كما هي المقولة الشهيرة لهانز ألفين، ولذلك نجد الدكتورة لمياء باعشن ارتبطت ببيئتها الحجازية لتقدّم شيئاً لها من خلال الرواية ككاتبة لها وناقدة، ومن خلال الموروث الشعبي في جمع الحكاية الشعبية الحجازية وتوثيقها من خلال الكتب والأشرطة المسموعة بصوتها إذ اتضح أنها تمتلك موهبة وكاريزما صوتية في التأثير على الطفل المستمع لتلك الحكايات الشعبية التي تؤصل للتراث المحكي الحجازي، خاصة إذا كانت تلك الحكايات التي تروي العادات والأفكار والأساطير مدوّنة وموثّقة ومحفوظة من الضياع من قبل امرأة أكاديمية متعلّمة بل ومثقّفة ومطّلعة على عادات وثقافات الشعوب الأخرى بلغة مختلفة؟! فبعد أن قدمت تجربتها الأولى في حفظ تراث طفولتنا، قدّمت لمياء باعشن "يا قمرنا يا مليح" ومن الأهازيج الجميلة التي جعلت مجموعة من الأطفال تشارك بها صوتياً على وزن "مستفعلن فعلن": أيام زمان كنا نتعشى من بدري بعدين يجينا النوم وعالسطوح نجري نلقى الفراش مفرود فوقه لحاف زهري وطراوة تنعشنا نسمة هوا بحري وامي تغطينا وتقول لنا: أدري "أدري" يأتي بصوت باعشن في ردّ أم على الأطفال ثم تكمل قائلة: تبونا نتحكى طيب وحّدوا ربي ثم يأتي صوت الأطفال: لا إله إلا الله وتكمل الأهزوجة بصوت المنشدة الطفلة: ... ... ... وصوتها يسري ياخذنا للماضي على بساط سحري ندخل كهوف وقصور من بابها السرّي ثم يأتِ صوت الأم: وحّدوا الله واللي عليه ذنب وخطيّة يقول: استغفر الله باعشن هي من ندّدت بعرض مسرحية للأطفال قدّمت مهرجان الجنادرية عنوانها "سندريلا في الغابة المهجورة" وذكرت أنه القحط التراثي الذي نعاني منه إلى درجة تجعلنا نحتفي في مهرجاننا المحلي الذي ينظمه الحرس الوطني من أجل الاهتمام بتراثنا وثقافتنا بحكاية مستوردة من وراء البحار، وأن هذه المسرحية لا مكان لها في مهرجان الجنادرية لا من قريب ولا من بعيد، فلا سندريلا عندنا ولا غابات، وأن احتفالنا الوطني يجب أن يبرز تراثنا وهويتنا وموروثنا الشعبي المحلي فقط، حيث أن المهرجان الوطني للتراث والثقافة الشعبية هو مناسبة عظيمة لتحديد ملامح هويتنا المحلية، يأتيه المواطنون من أنحاء المملكة حاملين كنوزهم الثقافية التي تميز مناطقهم لعرضها في شكل تكاملي عميق الدلالة على اتساع رقعة هذا البلاد وتنوع ثروته البشرية، وأن هذه المناسبة الوطنية تؤصل موروثاتنا الشعبية وتحاول الإبقاء عليها وإعادة تقديمها للأجيال القادمة. كما ذكرت أنه كان من الأجدى أن تتمسك لجنة النشاط الثقافي في مهرجان الجنادرية بأهداف المهرجان وتطالب كتاب المسرح أن يغوصوا في قصص التراث الشعبي ويحاولوا استخراج نصوص غنية يمكن مسرحتها وتمثيلها حتى يتعرف الطفل السعودي على ملامح ثروته الخيالية الشعبية بشكل حيوي ملموس، وتأمل أن يحضر أطفالنا مسرحية تحتفي بلولوة بنت مرجان وبفطيمة الغالية وغيرهما من بنات الحكايات المحلية، وأن تشرق علينا شمس يوم نرى فيه أطفالنا على معرفة وإدراك لمعنى أن يكون لهم تراث يميزهم وأبطال يخصونهم وحكايات نابعة من أرضهم. وهي ترى أن الحكاية الشعبية كائن شفاف رقيق، يقف على أبواب قلوبنا ويدق على نوافذ عقولنا، وهو يحمل هدايا ضخمة، وبين يديه لفائف كبيرة، يريد أن يسلمنا أمانات نفيسة، ودائعه تراثنا: ميراثنا الذي تركه لنا آباء آبائنا وأمهات أمهاتنا من أعماق جذورنا تأتي الحكاية: تنتظر وتستأذن فهيا ندعوها للدخول.. هيا نقرأها على السطور ونشاهدها في الرسوم، ونصغي لصوتها الأصيل الجميل فتمتلئ عقولنا حكمة ومتعة، وقولبنا انتماء ودفئاً. التبات والنبات يا قمرنا يا مليح