كانت أخبار الفساد المستشري في جسد نظام العقيد القذافي، تملأ المواقع الإلكترونية، ويتحدث بها عدد كبير من الليبيين وغيرهم خلال السنوات الماضية. لكن ما تكشّف بعد سقوط النظام، وهروب القذافي وأبنائه وزبانيته من قصورهم وقلاعهم ومنتجعاتهم، بيّن الحجم الكبير لهذا الفساد سياسياً ومالياً وأخلاقياً. فالوثائق والصور والمشاهد والاعترافات التي ظهرت للعيان تنطق بهذا، ولا تحتاج إلى بذل جهد قليل أو كثير لمعرفة المستوى المتدني أخلاقياً الذي كانت تعيش فيه عائلة القذافي ومن معه من المنتفعين والمرتزقة. لقد أمضى القذافي اثنين وأربعين عاماً وهو يتحدث عن الثورة، وعن القيم الثورية، وعن مجتمع اللجان الشعبية، وعن مبادئ الكتاب الأخضر، وعن محاربة الطبقية والجشع والرأسمالية والفساد الأخلاقي والمالي، والادعاء بالنزاهة والبداوة بينما هو وعائلته والغونَ في الفساد والحياة المترفة حتى النخاع، والشعب الليبي الكريم يعاني أشدّ المعاناة من ويلات القمع والبطش والمنع والخوف والحاجة، وبلده يملك الثروات الهائلة والأراضي الشاسعة والإمكانات الكبيرة. إن قصص الفساد السياسي والمالي والأخلاقي التي واكبت فترة تسلط القذافي وزمرته على ليبيا وأثرت بدسائسها ومؤامراتها في مناطق عدة من العالم، ستبقى درساً تاريخياً يجب أن يتعلم منه المسلمون أولاً، ثم بقية شعوب العالم، كيف يتسلط الطغاة بالكذب والدجل والدسائس والأقنعة المتعددة، وكيف يسقطون وتسقط أقنعتهم عندما تستيقظ الشعوب وتثور لاسترجاع حريتها وكرامتها وأوطانها المسلوبة. لقد كشفت ثورة 17 فبراير (شباط) عورات ثورة الفاتح من أيلول (سبتمبر). فما أقبحه من مشهد تنكره النفوس القويمة والعقول السليمة، وقبل هذا ترفضه تعاليم الإسلام السمحة. فخلال سنوات حكمه أعدم القذافي وأبناؤه وزبانيته الآلاف من أبناء الشعب الليبي الصابر، وعندما تهاوى نظامه أمام زحف الثوار الأبطال، أحرق المساجين وأطلق يد المرتزقة لتقتل وتغتصب وتنهب وتدمر في حالة جنون رهيب ووحشية بشعة، وفرّ هو وأفراد عائلته والمحيطون به، فرار الجبناء ليمارسوا حرب العصابات وسط بعض المدن معرّضين سكانها للأذى، لكن مدى الظالمين قصير مهما طال، ويد العدالة طويلة مهما قصرت، وسينال كلّ من ارتكب جريمة ضد هذا الشعب الكريم جزاءه العادل، ويلقى مصيره المحتوم. عندما قام القذافي بانقلابه العسكري المشبوه في الأول من أيلول عام 1969 على الملك الصالح إدريس السنوسي، رفع الغوغاء من المخدوعين بشعارات ذلك الانقلاب المضللة أصواتهم قائلين: «إبليس ولا إدريس». ولما أبلغ الملك إدريس بهذا، قال: «اللهم آمين». وقد حصل بالفعل أن حكم إبليس ليبيا اثنين وأربعين عاماً ذاق خلالها الليبيون صنوف العذاب والقهر والإذلال من نظام طاغ مستبد لا عقل له متورط في العمالة والخيانة والتآمر على الوطن وعلى الأمة. نأمل أن يتمكن الليبيون من تحرير كامل بلدهم من بقايا فلول القذافي، وأن تتوحد كلمتهم لبنائه على أسس عادلة ينعم فيه الشعب الليبي بالحرية والكرامة والعيش الرغيد. ويبقى أن يتعظ المسلمون كافة بما جرى ويجري في عالمهم، ليبدأوا مسيرة الإصلاح الشامل والحكم العادل وحماية سيادة الأوطان وكرامة المواطنين وحفظ حقوقهم، حتى لا يكونوا في مؤخرة ركب الحضارة الإنسانية، وتكون أوطانهم ساحة للمستبدين وهدفاً للطامعين والمتآمرين. * أكاديمي سعودي