إن جزءاً من طبيعة وتكوين شخصية الدكتاتور، أنها شخصية إنكارية، في لحظات تكتشف فيها بعد عقود من الهيمنة والاستبداد الطويل أن مركزها بدأ يهتز وقدراتها النافذة بدأت تتعطل. ولذا لا غرابة أن يصاب في لحظة الصدمة الاولى بحالة من عدم التصديق، مع ميل كبير لترويج نظرية المؤامرة لم يكن تهديد العقيد القذافي بتحويل ليبيا إلى جمرة ملتهبة تحرق وتدمر الشعب الليبي ومقدراته أمرا بعيد الاحتمال، فها هو يفعل بكل ما أوتي من قوة. هذه النزعة المتورمة بالوهم حد التكذيب وبين صراخ الشارع الليبي الذي يوقظ من به صمم... هذه التناقضات الفاجعة بين ذكاء مدمر وظفه العقيد لحبس ليبيا اربعة عقود في قبضته، وبين تجاهل وتجهيل مستمرين يصلان حد الشك بانغلاق تلك الشخصية على وهم مخادع للذات منكر للوقائع.. هذا ما يقود الى القلق من حرب مجهولة الافق والتطورات، وما يثير الاستغراب هذا الموقف الدولي المتردد والملتبس في التعامل مع هذا النزيف الدموي والتدمير الواسع لمقدرات الشعب الليبي. وصلت رياح التغيير الى ليبيا التي أغلقها القذافي اربعة عقود بوهم الجماهيرية. إلا ان رياح التغيير التي هبت انعتاقا من قبضة نظام العقيد كانت لسوء حظ الليبيين تضرب في بلاد أفرغها العقيد سوى من نظام صممه على طريقة تمكنه من إحكام قبضته، وتحويل مقدرات بلد غني الى حقل تجارب دفع الشعب الليبي ثمنها غاليا. تحويل ليبيا الى صومال جديد او موطئ قدم لفلول القاعدة لم يكن مجرد فزاعة فقط، ولن يكون محسوبا على ثوار ليبيا الذين حملوا السلاح دفاعا عن انفسهم ورغبة في التخلص من نظام ظل جاثما على صدورهم اربعة عقود. المفارقة اليوم ان نظام العقيد نفسه هو من سيجلب هؤلاء من خلال حالة احتراب داخلي مفتوحة على كل الاحتمالات، وليصبحوا جزءا من مشهد النفق المظلم الذي يريد ادخال ليبيا فيه حتى تصبح اوهام الفزاعات حقيقة، كما أصحبت فلول المرتزقة جزءا من حرب العقيد على الشعب الليبي. كلما طال أمد القذافي في ممانعة التغيير، واذا تُرك له استخدام كل ما في جعبته من اسلحة ووسائل ومناورات.. فإن الكارثة ستكون كبيرة. هناك حرب مفتوحة في بلد استيقظ على حلم تغيير سلمي فإذا به تحت وطأة كابوس دموي. ليبيا ليست مصر ولا تونس هذه حقيقة، إنها في قبضة العقيد مفرغة من أي مؤسسات لها دور في ظروف تهتز فيها اركان الدولة ويصبح الحفاظ على الوطن واستباق التدهور الكبير حتميا وجزءا من خيارات اللحظات الصعبة. تصميم نظام على شاكلة نظام العقيد هو الذي مكنه من توظيف إمكانات ليبيا التي سيطر عليها لعقود في مواجهة شعب انتفض في وجه القهر والتجهيل والتعطيل الطويل. إفراغ ليبيا من مؤسسات الدولة القوية، وتهميش مؤسسة الجيش، وانعدام مؤسسات المجتمع المدني، وهلامية التكوين السياسي تحت عناوين الشعبيات ونظام اللجان الثورية، وتوظيف البعد القبلي ضمن تحالفات يجيد حبكها القذافي تحت خيمته الشهيرة... هذا الفراغ الكبير هو الذي أسس عليه القذافي نظاما يعفيه من تبعة واستحقاقات المنصب الرسمي، ولكنه يمنحه كل الامكانات للسيطرة على ليبيا من خلال دور القائد الذي يملك المال ويسيطر على اجهزة امن الدولة وكتائب الجيش الخاصة والعلاقات الخارجية. من يردد أن العقيد معمر القذافي شخص يعاني من لوثة، واهم، وربما تستخفه تقليعات العقيد الغريبة. الشخصية المصابة بلوثة وحالة من جنون لا يمكن ان تصمم نظاما كهذا ولا يمكن ان تسيطر على بلد مترامي الاطراف طيلة هذه الفترة، ولا يمكن ان تبرع في ممانعة التغيير حد التهميش المنظم. القذافي شخصية تتمتع بذكاء كبير، ولكنه ذكاء مدمر، فهو موجه لخدمة طموحات زعامة مستبدة من نوع مختلف، ذكاء يوظف قدراته للسيطرة على شعب كامل مقابل ان تظل اسطورة القائد الذي لا يبرح خيمته حالة تماهٍ بين الامة، والزعيم، بين المجد والقائد، بين الوطن والعقيد. ينقل بشير هلال في مقالته «القذافية وقد غدت ركاما» والمنشورة بصحيفة الحياة، عن الأستاذ الجامعي والطبيب النفسي «جيرولد بوست» دارس الملامح النفسية لعدد من الزعماء ومؤسس «مركز تحليل الشخصية والسلوك السياسي». حيث يقول لصحيفة لوتان السويسرية في عددها الصادر بتاريخ 21 مايو 2010 عن القذافي: «ليس مجنونا بالتأكيد، ثمة ظرفان لا يعود فيهما عقلانيا تماما: عندما ينجح فيغدو استفزازيا ومتضخما، وعندما يفشل فيميل الى خلق الازمات، وهذه سمة الشخصية النرجسية الشديدة الغرور، والتعامل الحازم معه هو العلاج الوحيد لإيقافه عند حد معين». وربما لو أضاف، وعندما تضيق عليه دائرة البقاء تتجسد لديه النزعة النيرونية ( فإما ان احكمكم او اقتلكم ). إن كثيرا من الخارجين عن القانون يتمتعون بقدر كبير من الذكاء، وقد يصعب اكتشافهم بسهولة، فهم بارعون في توظيف ذكائهم ومواهبهم. وفي هذا السياق استعيد ايضا حالة تطاول أولئك الذين وضعهم القدر في منصب او موقع يحاولون من خلاله السيطرة على مقدرات كيان او نفوذ مركز دون ان يتمتعوا بذلك القدر من الذكاء او الفطنة، لذا فهم يلجأون لإحاطة أنفسهم بأحزمة من الانتهازيين الاذكياء. وكم يجسد هذا المشهد بلغة فاجعة مفكرٌ مثل عبدالله القصيمي وهو يتحدث عن لعنة الاستبداد. إذ يقول: «لا يجلد اعصابي كمشهد الذكاء منطرحا تحت اقدام الغباء ممجدا له ومثنيا عليه» . وفي كلتا الحالتين سواء أكانوا اذكياء ام أقل ذكاء، فالشخصية المستبدة تحيط نفسها بهؤلاء، كما تحيط نفسها بكثير من الهتافين محدودي الذكاء. إن جزءاً من طبيعة وتكوين شخصية الدكتاتور، أنها شخصية إنكارية، في لحظات تكتشف فيها بعد عقود من الهيمنة والاستبداد الطويل أن مركزها بدأ يهتز وقدراتها النافذة بدأت تتعطل. ولذا لا غرابة أن يصاب في لحظة الصدمة الاولى بحالة من عدم التصديق، مع ميل كبير لترويج نظرية المؤامرة، وهو يتقن فن التجاهل لكل النقاط المعتمة في نظامه المستبد، إلا انه وهو المدرك لطبيعة تكوين النظم واستدامتها، يظل يوجه رسائله للأقوى وكذلك المتضررين من احتمالات سقوط نظامه باستخدام كل الفزاعات التي يمكن توظيفها من اجل مزيد من فرص التعامل مع الموقف. المشهد الليبي، ينذر بخطر كبير على الشعب الليبي، وهو لا يخرج عن ثلاثة سيناريوهات محتملة لمسار الاحداث. إما ان ينتصر الثوار ويحسمون الموقف، ولا توجد مؤشرات يمكن الاطمئنان لها توحي بهذا. وليس من الممكن ان يحدث دون تدخل دولي يعطل آلة القذافي العسكرية، أو أن يُترك الليبيون لمصيرهم ولمعركتهم غير المتكافئة مع قوات نظام مدجج بالأسلحة الثقيلة والطائرات والاموال، وسيدفع حينها الليبيون الاحرار كلفة باهظة من دمائهم وشبابهم وقدراتهم... وبهذا تعود ليبيا لعصر جديد من القمع والاستبداد، وربما لم تشهده حتى من قبل. أما الاحتمال الثالث، فهو ان تدخل ليبيا حربا طويلة بين الثوار وقوات العقيد دون قدرة على الحسم، وهذا من شأنه إطالة امد حياة النظام والحرب في آن، وفي هذا الوضع ستتحول ليبيا الى مختبر كبير لتدخلات دولية واقليمية وتنظيمات سرية وربما تحولت إلى مشروع تفتيت جديد على اشلاء بلد ممزق، وستكون حينها ضربة موجعة لأحرار ليبيا، ووصمة عار في جبين الانسانية ودعاة الحرية، وسيترتب عليها درجة كبيرة من الفوضى والوحشية. ومن المثير للغرابة وأحيانا حد الاشمئزاز، أن يحذر اليوم بعض القوميين في المشرق العربي او من يتعيشون على هذا التيار، من التدخل الأجنبي بأي شكل كان حتى لو كان من اجل حماية الشعب من آلة النظام المتفوقة في التدمير، ولا يعنيهم ان يقتل الشعب الليبي وتسحق انتفاضته الوليدة، وتذوي احلام الحرية والتحرر من ربقة الاستبداد. إنهم يشوهون ثورة وليدة ترنو للحرية والكرامة وتقرير المصير، من خلال ضخ المزيد من تهويلات التحذير من الاستعمار الجديد. إن مثل هؤلاء لا يعنيهم ان يفني النظام المستبد شعباً أعزل خرج ليطالب بحريته، إنهم غير معنيين بالدماء والاشلاء وكرامة الحياة، انهم جزء من ثقافة الاستبداد التي تفضل استدامته طالما كان التدخل الدولي عودة جديدة للإمبريالية إلى ارض العرب، وتهديدا لكيان الأمة. هذه الأمة التي يتوسلون او يتسولون باسمها ولو على جثة آخر ليبي!!. اتركوا ليبيا لليبيين، هم وحدهم الاقدر على تقدير موقفهم، ارفعوا وصايتكم عن قرارهم بالاستعانة بالقوات الدولية او سواها. وإذا لم يسع المثقف العربي ان يدافع عن القيم الكبرى للإنسان، فليس أقل من ان يلوذ بالصمت... لا ان يدعم جهود نشر الفزاعات لاستدامة نظم الاستبداد والفساد..