تجاوز السبعين من عمره فاشتاقت نفسه إلى أن يرى آخر فلذات كبده المقيم على حدود بلاده منذ 20 سنة، عسكرياً متفانياً لا يعرف التردد ولا التواني، وبه ما بأبيه من لهف، فهو يشتد شوقاً نحو لقاء أبيه البعيد عنه في صحاري نجد حيث تظله السماء، ويرتع إلى جانب شويهاته، ويخاطب الله من دون حجاب، مطارداً ذوداً هو بقية إرث السلف الصالح. حزم الابن رأيه وعفشه ليؤدي العمرة في رمضان، ويقضي أيام العيد عند أبيه، وفصّل ثياب الأولاد واشترى ذهباً لأمهم وأنفق على السيارة ما لم يجد به على الأبناء. وما إن حان وقت السفر واشرأبت الأعناق للصعود حتى صدرت الأوامر بالمرابطة، فما كان من الابن إلا أن شدّ المئزر، واعتزم الوفاء، وفكر كيف يفي للأب والوطن معاً وهما توأما الإحسان، فكانت كلها مواتية وجاءت جميعها متيسرة، فقام من فوره، وأعطى العسكري التحية وتحدث إلى قائده أن يمنح والده تذكرة طيران تأتي به إلى الابن ليقضيا العيد سوياً... أخذ الأب إلى المطار الذي يدخله للمرة الأولى، ومن موظف إلى آخر بين من يعطيه أوراقاً، ومن يفحص أوراقه حتى وجد نفسه في أنبوبة كبيرة الطائرة بين جمع من الناس ستقلع بهم إلى السماء. نادي المنادي أن توكلوا على الله واحتزموا، فما راقه الحزام وهو الذي كان على الدوام حزامه رب العباد، ومن فطيرة جعلها لقمة إلى"جغمة"لم تروِ عطشه، فإذا الصوت يقول له: وصلت يا عم وحمداً لله على سلامتك، فأخذ رأسه بين يديه مندهشاً من سفرة بين السحاب لا تستغرق دقائق حتى تحط به بين الأحباب، فإذا ابنه الذي كان منذ لحظات تفصله عنه مئات الكيلوات يقبل جبهته ويمسك بيده سائرين إلى السيارة. تذكر كيف مدّ: رحل في طلب الطعام لينة: على أطراف العراق للبحث عمّا يسد رمق الأطفال على جمال هزيلة يموت بعضها في الطريق، وتستغرق مدة الرحلة أكثر من شهر، وتكون غنيمة الإياب العودة بالمرض، والجرب وجرابين عدلا كل بعير ليست مملوءة ذهباً، بل هو قمح وذرة ربما لا تأكله البهائم هذه الأيام. وصل الأب وابنه إلى المدينة، ودخلا المعسكر بشموخ العزة وما استمداه من حركة شباب كالذئاب لا يهدؤون يدخلون مبتسمين بسواعد مفتولة وأجسام في العلو ممدودة، وعزائم صخرية تسخر بالهزائم، فانتشى الأب معلياً صدره رافعاً نظراته يخطو نحو المجلس بخطوات وئيدة تنم عن ثقة حتى أخذ متكأه وسط العسكر الذين بادروه بالتحية والسلام ثم قدموا له القهوة، واتبعوها بقدوعها من أطايب التمر وما تخللها من زاكي العود الذي عم المكان. التفت أحد الحاضرين إلى الضيف الذي بدت عليه أمارات الدهشة من هذه التشكيلة المتعددة للأطعمة بين أحمر وأبيض وأخضر، وكل الألوان الفاتحة للشهية، والدافعة للالتهام، وبادره بسؤاله عن رأيه في هذه الأصناف، وهل أرضت ذوقه؟ فضحك بملء فيه وهو يقول: إنهم يأكلون الوشيع"، فوجم الجميع، ما الوشيع... يتساءلون عن كنهه؟" ويواصل الضيف المرح حديثه قائلاً: هل تأكلون هذه الألوان كل يوم؟ فتجيء إليه الإجابة جماعية وسريعة: نعم، فيقول وهو يحدق ببصره فيمن حوله: لو كنت آكل هذا الطعام كل يوم لأصبحت في شهر ضابطاً، فتموج الصالة بالضحك المدوي! وتحل بعد الجمعة الأولى الجمعة الثانية، والضيف بين مضيفيه آنساً بهم وهم سعداء بوجوده بينهم لتستمر إقامته بعيداً عن إبله وذويه ثمانية أيام كانت كلها استعادة لذكريات سنين عجاف خلت، عايش مرها آباء وأجداد عانوا الصعاب، وذلّلوها ليتجاوزوها إلى ما أسسوه لأبنائهم من رخاء وأمان... ها هم ينعمون بظلالهما بعد أن كان الجوع مستشرياً، والأمان مفقوداً حتى ليهم الإنسان بأكل أخيه الإنسان وربما يضطر لأكل المحظور من الحيوان. وتنهمر دموع الضيف بعد أن أعادت عليه حياة اليوم التي يعيشها أهلها ترفاً وبذخاً - سيسألون عنه - حياة الأمس القاسي وهو يمضي قائلاً: كنت وصحب لي قد جمعنا الملح من صبخاء الأشعرية وتواعدنا لجلبه إلى الخرمة وفي الطريق إليها والليل قارص البرودة، أشعلنا النار لتدفئنا وتطبخ فخذ التيس الذي بقي من عشائنا البارحة، وما إن تلظت النار ولمع اشتعالها حتى لمحها ذلك المحتاج للدفء والطعام فإذا نحن بناقة جرباء هزيلة ينيخها شيخ أمعط لا ترى إلا عظامه، وينزل منها طفل أجرد يتخطرف من الجوع والهري يمسكه أبوه عن السقوط، وما إن رآه أحدنا حتى سارع لناقته يقيمها من مبركها لئلا يشاركنا الشيخ وطفله الطعام، غير أنّ الناقة الهزيلة أحست بوهج النار الدافئ فلم تعد قادرة على النهوض لما بها من حال سيئة، وصاحبها يلح في طلب السماح له بالمكث معنا مقسماً بالأيمان وحبل أم العيال أنه لا يريد الطعام، وإنما يبتغي أن يدفئ هذا الغلام ويحميه من الموت الزؤام، وحينما تركناه يجلس معنا، ورأى وجوهنا على ضوء النار مكفهرة عابسة لوجوده بيننا أراد أن يخرجنا مما نحن فيه من ضيق وصمت، وأن يسري عنا بما يفرحنا ويدخل السرور على أنفسنا، فسألنا: إلى أين أنتم ذاهبون؟! فقلنا إلى الخرمة لنبيع ونستعر ونعود بالميرة لأهلنا، فقال: قدكم وانتم تدخلون الخرمة تشوفون ابن عفنان ينادي بالطعام في ضيافة ابن لوي وليا دخلتم عنده لقيتم صحفة ما يطمرها الجعري فاشرأبت أعناقنا، واستبشرت وجوهنا، وسألناه بصوت واحد أهو رز ولحم؟ فقال: لا نفداك إنه تمر، هم ليا أكلتوه قلطوا عليكم سحلة كأنها الحاشي فقلنا بصوت واحد: أهو مرق أم حليب؟ قال: لا نفداك إنه ماء من حسو آل جبار نفداك. [email protected]