دفع بقطيع البعير ناحية الديار، قبل ان تأوي الشمس الى المغيب، وتتوارى خلف الهضاب والكثبان الرملية، المنتشرة بها النباتات البرية. انهال عليها ضرباً لدفعها نحو مرابض الحي. فالمرعى بعيد والطريق مقفرة، والخوف يقف له بالمرصاد، في عيون الذئاب الجائعة. قرص الشمس، بدأ يتحوّل الى اللون الأحمر القرمزي الوهاج ولكن الوقت يكفي للوصول الى الديار، قبل الغروب. عندما وصل الى حظيرة البعير، وقف السيد المطاع على بوابة الحوش الكبير، الواسع المترامي الأطراف، بدأ في عد البعير العائدة من المرعى. كل يوم يحصيها بصوت مسموع: واحدة، اثنتان، ثلاث... وكلما عبرت من البوابة واحدة الى الداخل، زاد العدد... حتى توقف عند الحادية والخمسين بعيراً. صاح الرجل البدين: "ناقص واحدة يا مرهون... أين الثانية بعد الخمسين؟ إنها الشاردة أعرفها جيداً، وهي من نياقي! ناقة بكر، ذلول، بيضاء الوبر. أين تركتها للذئاب الجائعة وعدت"؟ وقف "مرهون" الراعي أمام صاحب البعير، منكس الرأس حزيناً، ينتظر الأوامر، قال له في حزم: "لا تعد الى هنا، إلا ومعك الشاردة". أجاب الخادم: "أمرك مطاع يا سيدي". وانطلق الى جوف الفيافي والقفار، والشمس تأذن بالمغيب وصوت الآذان يعم مرابض الحي، والسيد يتابعه بنظرات قاسية غضبى، والصحراء شاسعة والليل لا يرحم، والناقة التائهة لا أثر لها، أين هي يا مرهون؟ لا تعد إلا وهي معك. الصحراء كفنك إن عدت من دونها، طعام الذئاب لحمك، ان لم تعثر على الشاردة! هيه يا مرهون. هذه الناقة الحرون، دائماً تشرد عن الجماعة، منذ ان دخلت بيت السيد المطاع، دوماً من صغرها تشرد، عند بئر المياه، أثناءالسقاية تشرد، وفي المرعى تشرد. وأبحث عنها، في كل مرة، حتى أعثر عليها، وأعود بها. يصيح السيد مسروراً: "عثرت على الشاردة. دائماً عيناك عليها، اياك ان تختفي من أمامك في المرات المقبلة". ولكنها اختفت! هذه المرة لا أثر لها. والعمل يا مرهون؟ الصحراء شاسعة. ساكنة. في هذا الوقت تصحو الذئاب وتخرج من أوكارها للبحث عن طعامها، أخشى ان يعثروا عليها قبل وصولك إليها، وتضيع معالمها في أمعاء الذئاب الجائعة، كما ضاعت زوج الشيخ وهجرته. اختفت في الفيافي والقفار، بلا رجعة. ولا احد يعرف الاسباب. ولا أحد استطاع ان يسأل الرجل المهيب عن أصغر زوجاته، أين اختفت، فمن يسأل السيد المطاع؟ هو فقط الذي يطرح الاسئلة، ونحن لا حق لنا سوى الأجوبة. أين الناقة يا مرهون؟ ربما أكلتها الذئاب الضاوية، وأصبحت كالمرأة التي ابتلعتها الرمال، كومة من العظام النخرة، تحت وهج شمس لا ترحم. أين الشاردة؟ أين المرأة الصغيرة؟ أين الناقة التائهة؟ الرمال مقبرتك يا مرهون إن لم تعد بها! أخذ يطوي الصحاري يصعد التلال، يهبط الأودية، يسير في المدقات الجبلية، وبين الصخور. لا أثر للشاردة. اختفت الناقة. مثلما اختفت الزوجة الصغيرة. كلتاهما أضحت طعاماً للذئاب الجائعة التي تبحث عن الفرائس والطرائد في صحراء مقفرة، خالية من أي أثر للحياة... هيه. لا بد أنها ذهبت الى مورد الماء. وواصل سيره. توقف عند أول بئر صادفته. كانت جافة. لا أثر لورود الإبل عليها. عليه ان يجد في البحث عنها، قبل ان تبتعد بعيداً، وتدخل بحر الرمال، هذه المنطقة القاحلة الهالكة، المملوءة بالجن، عليه ان يجدها، إنها الناقة المحببة لدى سيده ومحال ان يتسامح في فقدها، يكفيه ان فقد الزوجة الصغيرة، يكفيه العيون التي كانت تنطق بالاسئلة الآن، ستكون الناقة والزوجة معاً، كلتاهما شردت في بحر الرمال. ارتفع عواء من قلب الرمال، أخذ يتردد في جوف الليل. احتمى بجوار صخرة ضخمة واستراح. والعواء لا ينقطع، عواء متواصل، لا ينقطع حتى مطلع الفجر. بدأ يحس بالجوع والعطش، صارت الشمس حارقة كاوية. وسار في الصحراء يبحث عن طعام وشراب. ونسي الزوجة والناقة. ظل سائراً شارداً هو الآخر في بحر الرمال، وهو على قناعة بأنه لا يوجد - خلفه - في القرية الجبلية النائية، من يسأل عنه، أو يهتم بأمره وخبره، ويخرج للبحث عنه. * كاتب عُماني.