صالح بن محمد بن ناصر بن مرشد آل مرشد أبو محمد ولد سنة 1318ه بمدينة شقراء ونشأ بها وتربى في أسرة كريمة فنشأ نشأة صالحة وترعرع في بيئة محافظة ولم يسعفه الحظ في تحصيل شيء من الدراسة والتعليم لانشغاله مع والده في طلب الرزق والبحث عن لقمة العيش وكسب الحلال، كان ذا همة عالية ونفس متطلعة مثالا للشاب الطموح والمواطن الصالح فأول عمل وفق له وقام به ولم يبلغ العشرين من عمره أن نذر نفسه لله تعالى عندما اجتاح شقراء وبقية بلدان نجد بعامة مرض مات فيه خلق كثير وذلك في مطلع سنة 1337ه وتعرف بسنة الرحمة أو (الصخونة) وهي ما يسمى بالوافدة الاسبانيولية وقيل إنها الكوليرا ويروى أن المرض أخلى بيوتا كاملة من أهلها فما من بيت إلا ودخله ولا أسرة إلا ونال منها فوقع الناس في خوف عظيم وهلع شديد ضاقت بهم السبل وأعيتهم الحيل وانتشر بينهم المرض وفشا فيهم الموت وكثرت الجنائز فكان يصلى في اليوم الواحد على العشرات وأصبح الناس في كرب عظيم، عندها قام صلحاء البلد وأهل الفضل ممن سلمه الله منهم - فنجا من الموت أو المرض- لمشاركة الناس ما حل بهم فكان من أبرزهم صالح بن مرشد رحمه الله نهض لهذا الخطب بهمة شماء وعزيمة صارمة فشمر له محتسبا الأجر من الله فسخر نفسه ووقته وجهده في حفر القبور، ونقل الجثث، ودفن الموتى ومواساة الناس، حتى أصبح شغله الشاغل وهمه الوحيد فكان لا يخرج من المقبرة إلا لصلاة أو نوم، قيل وكان يؤتى له بطعامه وشرابه في المقبرة مكث على ذلك قرابة شهرين ومات في هذا المرض في شقراء وحدها أكثر من 300 ثلاثمائة نفس بين صغير وكبير وذكر وأنثى إلى أن رفع الله عنهم البلاء وكشف ما حل بهم في آخر ربيع الأول من السنة نفسها . اطلعت على رسالة كتبها الشيخ محمد بن علي البيز للشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى في أشيقر حول هذا الأمر يذكر فيها بعض من توفي من أهل شقراء من حمولة آل عيسى وهي رسالة لطيفة ووثيقة هامة في هذا الحدث أجابت عن كثير من التساؤلات وبينت بعض الجوانب يحسن إيرادها كاملة بنصها للفائدة وهي بعد البسملة :- «من الابن محمد بن علي البيز الى جناب الشيخ المكرم والمحبوب المقدم إبراهيم بن صالح بن عيسى المحترم سلمه الله تعالى من كل شر وأمنه مما يخاف ويحذر آمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وموجب الخط إبلاغ السلام والسؤال عن أحوالكم لازلتم بخير وعافية على الدوام كتابكم الشريف وصل وفهمنا مضمونه وسر الخاطر حيث أفاد طيبكم وصحة أحوالكم وحنا والله من يوم جا هاالامر نسأل عنكم كل قادم من عندكم ومن طرف حنا ولله الحمد طيبين وبعافية نشكر الله ومن طرف الأخ ناصر طيب ولله الحمد معه تالي سعال إلى هالحين وهو طيب وبعافية وتذكر إن حنا نذكر لك الذي توفي من آل عيسى ذكورهم وإناثهم وهم ولله الحمد ماهم بواجد توفي من الذكور عبد الرحمن بن عبود، إبراهيم الأعرج، عبد العزيز بن خلف، عبد الله ابواحمد في نفي، ومن الإناث زوجة محيز بنت ابواحمد وزوجة حمد بن عيسى وبنتها زوجة ولد السبيعي وزوجة ناصر بن سعود وبنت عبد الله المضبوط زوجة سعد بن عبود وبنات عبد العزيز بن عبد الله الثنتين زوجة محمد بن ابراهيم وزوجة عبد الله وبنت لمحمد بن ابراهيم جذيعة وولد له صغير وبنت لشويمي بن جماز مجوز وأم عبد الكريم بن فوزان وبنت لعبد الرحمن بن حسين وتوفي عبد الكريم وعبد الله عيال ابوعباة هذولا الذي توفيوا من الحمولة والباقين ولله الحمد كلهم طيبين وبعافية ولا يسألون الا عن حالك ومن طرف محمد بن عبود أخبرناه إن الريالين وصلن هذا مالزم تعريف جنابكم الشريف ومهما يبدو من لازم نتشرف بلغ سلامنا الأخ عبد الرحمن وصالح بن عبد العزيز والابن عبد العزيز وعبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر وعبد الله بن حمد وبن عامر وعمر بن فنتوخ وكافة الإخوان ومن عز عليك ومن لدينا الاخوان كافة والحمولة يسلمون والسلام 22/3 سنة 1337ه ومن طرف الذي توفي من جميع شقراء فهو قيمة 300 إنسان منهم قيمة خمسين رجل والباقي نساء وأطفال والنساء أكثر» أه . هذا عن سنة الرحمة في شقراء وشيء من أخبار صالح بن مرشد الذي اقترن اسمه بها فلا تكاد تذكر سنة الرحمة في شقراء إلا ويذكر ابن مرشد فيها فيدعى له ويترحم عليه ولانزال نسمع من بعض كبار السن والمعاصرين والرواة لهذه الحادثة وما جرى فيها ما يبرهن عليه ويؤكده، وقد أجمع الناس في شقراء والوشم عامة على فضله والثناء عليه ومعرفة قدره والناس شهود الله في أرضه . أما عن كرمه وبذله وإطعامه الطعام فحديث ذو شجون سرت به الركبان وتناقلته الألسن فهو من ذوي الجود والسخاء والأريحية جزل المروءة غنيّ النفس يتمثل الكرم في منطقه وأفعاله يستدين ليطعم الطعام فيخلف الله عليه أضعاف ماينفق. قلت وليس بغريب عليه فقد جاد بنفسه وهي أغلى مايملك فكيف بما هو أقل . يجود بالنفس إن شح البخيل بها والجود بالنفس أسمى غاية الجود أخبرني والدي قال كان يستدين دين الفقراء ويوفى وفاء الأغنياء، وقديما قال الشاعر:- لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتَّالُ. هذا ولم يكن رحمه الله من أرباب المال وأهل التجارة والغنى ولكنه جهد المقل وقد قيل غاية الجود : الجود بالمجهود وفي الأثر (ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس) متفق عليه ومع ذلك كان كثير الاضياف مجلسه عامر وبيته مفتوح لا يأكل طعامه لوحده ولا يهنأ به لمفرده يجلس على سفرته الفقير والمسكين والغريب والعامل والصغير والكبير وذوي الحاجات وغيرهم لا يرد سائلا ولا يمنع أحدا ولا يستثقل ضيفا. فلعله ممن عناهم الله تعالى بقوله (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) الآية . وصح عنه صلى الله عليه وسلم قوله (اتقوا النار ولو بشق تمرة) متفق عليه فلله دره كم أطعم من التمر وكم جلس على مائدته من فقير ومسكين وكم دخل بيته من ضيف في وقت كان الناس أحوج ما يكون لوجبة يسد بها أحدهم جوعه ويغني بها نفسه ولو بتمرات، أومذقة لبن. حدثني والدي رحمه الله قال إذا خرج الناس من عنده صباحا بعد القهوة والإفطار يترك من يريد الغداء عنده نعليه دليلا على رجوعه فيعلم صالح بن مرشد من سيحضر منهم فيخبر أهله عن عددهم فيحسب لهم حسابهم، وإطعام الطعام من أفضل الأعمال وأزكاها عند الله تعالى نقل عن عبد القادر الجيلي رحمه الله قوله فتشت الأعمال كلها فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام أود لو أن الدنيا بيدي فأطعمها الجياع اه ذكره الصفدي في الوافي. وقال أبو حاتم البستي في روضة العقلاء إني لأستحب للعاقل المداومة على إطعام الطعام والمواظبة على قِرى الضيف لأن إطعام الطعام من أشرف أركان النَدى ومن أعظم مراتب ذوي الحِجى ومن أحسن خصال ذوي النُهي ومن عُرف بإطعام الطعام شَرُف عند الشاهد والغائب وقصده الراضي والعاتب وقِرى الضيف يرفع المرء إلى منتهى بُغيته ونهاية محبته ويشرّفه برفيع الذكر وكمال الذُخر . اه قال الشاعر فلا الجود يُفني المال قبل فنائه ولا البخلُ في مال الشحيح يزيدُ وقد وفق رحمه الله في زوجة صالحة وامرأة صابرة هي حصة بنت عيد آل عيد من فُضليات النساء أم أولاده ولم يتزوج سواها وهي من أسرة اشتهرت بالسَمت وعرفت بالوقار والتديّن، كانت خير معين له على البذل والإنفاق تصنع الطعام وتعدّه بأنواعه وتقوم بأعباء بيتها وأبنائها دون كلل أوتقصير تقضي جُلّ وقتها في هذا الأمر من أول النهار إلى آخره، في وقت شحت فيه الموارد وقلت فيه الإمكانات ومع ذلك قامت بواجبها أتم القيام وأكمله . حدثني ابنها سليمان قال تركت النار أثرا بالغا في وجه والدتي ونحرها ويديها لكثرة مكثها أمام التنور والمقرصة لصنع القرصان والخبز والمراصيع وغيره من الأطعمة الأخرى، فرحمها الله وغفر لها . وذكر لي والدي رحمه الله وكان من المعجبين بخُلقه وكرمه قال دخل اثنان سوق شقراء فوجدا رجلا من أهل البلد فسألاه عن نوى التمر( العبس) يريدان الشراء فدلهما على بيت ابن مرشد وكان بيته قريبا من السوق فلما دخلا عنده وإذا بالناس من أهل الحاجة والفقراء وغيرهم على سفر التمر يأكلون ويشربون فأكلا ثم خرجا من عنده محرجين فصادفا صاحبهما الذي دلهما عليه وقالا له سألناك عمن يبيع النوى وأرسلتنا إلى رجل كريم يطعم الطعام ويقري الاضياف فقال لهما أنتم تسألون عن أحد عنده عبس ولا أعلم أحدا أكثر عبسا من صالح بن مرشد ولو سألتم عمّن يبيعه لأخبرتكما، ، ، وحدثني ابنه سليمان قال كان والدي لاتهمه الدنيا ولا يدخر منها شيئا يأتيه المال كثيره وقليله فما يهنأ له بال ولا يقر له قرار حتى يفرقه في أهله وأقاربه وذوي الحاجة، قال وقع التثمين على بيتنا في حليوة بشقراء وعوّض عنه بمبلغ نصف مليون ريال تقريبا فاستلمته وجئت به في كيس فقال اجلس فجلست قال اقسم لوالدتك كذا وأخيك فلان كذا وفلان كذا الخ قسّمه قِسمة إرث قال حتى لم يبق منه إلا ثمانية أو تسعة آلاف ادخرها لحاجته الخاصة قال وباع أرضا بثلاثمائة إلف وعمل بها ماعمل في الأولى انتهى كلامه، قلت ومن يقدر على مثل هذا العمل إلا القلائل ممن جعل الله غناه في قلبه ونزع منه حب الدنيا والتشبث بها . وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود قوله (لاحسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلّطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) متفق عليه . وقد عاش رحمه الله عزيزا كريم النفس قضى معظم حياته في الكدح والعمل والبيع والشراء طرق كل السبل وعمل في التجارة بأنواعها والنقل والبناء والمقاولات وغيرها وكان ثقة عند الجميع نزيها في معاملته صادقا في بيعه وشرائه، بقي على ذلك إلى أن ضعفت قواه وتقدمت به السن فلم يعد يقدر على مكابدة السفر والبيع والشراء ثم أقعده المرض والكبَر ومع ذلك آثر المشاركة والخروج للناس وعدم العزلة فاتخذ مكانا قريبا من السوق لبيع الأخشاب والحطب تسلية لنفسه يجلس فيه يشرف على عُماله ويأتيه من يريده للسلام والحديث معه وكنت أذهب مع والدي إذا جئنا لشقراء للسلام عليه، وكان رحمه الله وقورا كثير الصمت بعيدا عن الغيبة والخوض في أعراض الناس وانتقاصهم متواضعا متدينا يتقدم للجمعة ويبكّر لها ويحافظ على صلاة الجماعة ويحث أبناءه عليها وربما أغلظ عليهم فيها وكان يقوم الليل ويواظب عليه مع زوجته فيصلي ماشاء الله أن يصلي فإذا أذن للفجر أذانه الأول ذهب للمسجد حدثني بذلك ابنه سليمان، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله (أيها الناس أطعموا الطعام وأفشوا السلام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام .) رواه الترمذي وصححه الألباني . قلت ولا أظن أنه أخطأ شيئا من هذه الخصال رحمه الله وغفر له . أبناؤه وذريته : - لصالح بن مرشد أربعة أبناء وهم محمد (رحمه الله) وناصر وسليمان ومنصور وأربع بنات، أما ابنه محمد فقد توفي في حياة والده اثر حادث وقع له في مدخل شقراء عام 1391ه فكانت مصيبة كبيرة على أبيه وأهله وفاجعة حلت به صبر لها واحتسب أجرها عند الله وكان أثيرا عند والده له مكانةٌ وحضوةٌ محبوبا عند الناس ذا خلق وسمت وسماحة وأما الكرم والمروءة ونفع الناس فقد أخذ منها بحظ وافر فأسف الناس لموته وفقده الكثير، ذكر لي ابنه المهندس عبد العزيز بن محمد المرشد مايدل على ذلك، أما عن وفاة جده الشيخ صالح فقد ذكر لي عنه أمرا عجبا فيه برهان على صلاحه وحسن خاتمته والأعمال بالخواتيم قال :- في آخرعمره ألم به مرض في القلب لازمه بضع سنين وتلقى العلاج داخل المملكة وخارجها وفي آخر أيامه اشتد عليه المرض فغاب عن الوعي فترك بعض الصلوات وقبل وفاته بيوم أفاق ورد الله عليه شيئا من عافيته فقضى ماترك من الصلاة وسأل عن أبنائه وطلب حضورهم وكان بعضهم في شقراء فجاءوا لزيارته في الرياض ففرح بهم وسعد برؤيتهم وبدا عليه شيء من الصحة والسعادة قال وفي فجر اليوم التالي استيقظ من النوم وطلب التيمم وكان لايستطيع الوضوء وعندما فرغ منه وكبّر للصلاة وشرع فيها قُبضت روحه وهو ساجد لله تعالى في يوم السبت الموافق19/11/1406ه ونقل إلى شقراء للصلاة عليه ودفن في مسقط رأسه، قلت مات على أحسن هيئة وقدم على الله في أعظم صور التذلل والخشوع والانطراح بين يدي الواحد الأحد وفي الحديث (أقرب مايكون العبد من ربه وهو ساجد) رواه مسلم فلله دره عاش حياته في أحسن حال وخرج منها وهو على أحسن حال، وترك وراءه دعاء الناس وحسن ثنائهم وهم شهود الله في أرضه وقد أورث ذريته حسن الأثر وجمال السمعة وطيب الأحدوثة وهي والله المغنم بعد رضى الله وتقواه رحمه الله وغفر له وأنزله منازل الأبرار.