خرج لبنان إلى العالم صبيحة أمس بصورة تكاد تكون الأبهى في السنوات القليلة الماضية... ملوناً بالأحمر والاخضر والابيض، عابقاً برائحة البخور، ومبتسماً كأن مآسي الامس القريب طواها زمن آخر. أمس، بدا كأن اللبنانيين باتوا ليلتهم على الواجهة البحرية لبيروت، فغصت بهم منذ السابعة صباحاً، وامتلأت قبل التاسعة 75 الف كرسي أُحضرت خصيصاً لتتسع للمشاركين في القداس الذي ترأسه البابا بنديكتوس السادس عشر في العاشرة صباحاً. غير أن الكراسي لم تسع كل الحشد الذي تجاوز ال 350 ألف مشارك، وفق الناطق الرسمي باسم الكرسي الرسولي فيديريكو لومباردي، معظمهم تابعوا القداس وقوفاً او جلوساً على الارض. وبدا السياسيون الذين احتلوا الصفوف الامامية، على اختلافاتهم، آخر اهتمامات المؤمنين والمشاركين، لبنانيين وعرباً وأجانب، مسلمين ومسيحيين. فما علت صور إلا للبابا، وما رفعت إلا اعلام لدول كلبنانوالفاتيكان وأعلام لسورية والعراق والفيليبين وعلم للولايات المتحدة وآخر لجنوب السودان مع لافتة كتب عليها:"نآمل زيارتكم الى الدولة الجديدة جنوب السودان. نحبك"وغيرها. وباستثناء الصلوات وهتافات"نحبك بنديكتوس"لم تصدح الحناجر التي التزمت تماماً بطلبات السكوت للاستماع الى التراتيل والكلمات، تماماً كما التزم الحاضرون أوامر المنظمين عدم التدخين التزاماً شبه تام. وبدا لافتاً في الحدث مستوى التنظيم العالي الدقة ومستوى الامتثال الشعبي لأوامر المنظمين الذين وزعوا الماء والقبعات على الحاضرين اتقاء للشمس والحرارة التي تسببت بعدد من حالات الإغماء بين المشاركين تولى الصليب الاحمر اللبناني معالجتها. الحدث اللبناني لم يقتصر على الواجهة البحرية لبيروت، فطريق الاوتوستراد الساحلي من جونية الى بيروت التي سلكها موكب البابا لم تخل من التجمعات الشعبية. اذ رفعت أعلام الفاتيكان الى جانب اقواس النصر ترحيباً بالزائر الذي أطل على المتجمعين من سيارته"بابا موبيلي"ملوحاً بيده من خلف الزجاج، فلاقوه بقرع الاجراس التي وضعت على الطرق للمناسبة، فيما الطوافات العسكرية تحلّق فوق الموكب. وتزامن ذلك مع مئات الباصات التي أقلّت المشاركين من مختلف المناطق الى بيروت. في التاسعة والثلث وصل موكب البابا الى مكان الاحتفال وسط اجراءات أمنية مشددة شملت المناطق التي سلكها الموكب، وكان سبقه اليه رئيس الجمهورية ميشال سليمان وزوجته وفاء والنائب غازي زعيتر ممثلا رئيس المجلس النيابي نبيه بري ونائب رئيس مجلس الوزراء سمير مقبل ممثلا رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والرئيس السابق امين الجميل ووزير الخارجية عدنان منصور ورئيس"تكتل التغيير والاصلاح"النيابي ميشال عون ورئيس كتلة"الوفاء للمقاومة"النيابية محمد رعد والنائب بهية الحريري والنائب مروان حمادة وعضو كتلة"القوات اللبنانية"جورج عدوان وعضو كتلة"التنمية والتحرير"النيابية علي بزي وآخرون، اضافة الى 1500 كاهن و1400 اعلامي وعدد من جنود القوات الدولية العاملة في جنوبلبنان يونيفيل. سلكت سيارة البابا الزجاجية التي رافقه فيها البطريرك الماروني بشارة الراعي الطرق الضيقة بين الحشود الذين اعتمروا قبعات عليها صوره، لمدة ثلث ساعة ولوّح بيده للحضور على الجانبين الذين حاولوا لمس السيارة او التقاط الصور للبابا المبتسم، قبل أن ينتقل الى غرفة خلفية حيث بدّل ملابسه البيضاء والحمراء بأخرى كهنوتية خضراء احضرها معه من روما وتركها بعد انتهاء القداس تذكاراً للبطريركية المارونية في لبنان. وجرى توزيع للكتاب الذي تضمن نص القداس باللغات اللاتينية، الفرنسية، الإنكليزية، العربية والأرمنية، ومكنت الشاشات الثماني العملاقة المؤمنين من متابعة تفاصيل الاحتفال. كلمة الراعي قبيل العاشرة بدقائق عدة، اعتلى البابا المسرح الذي تولت إعداده راهبات للمناسبة ملوناً بالاخضر والاحمر والابيض، وخلفه بدت أرزة عملاقة بأبعاد ثلاثية. وبعد ترانيم بالسريانية من الطقس الماروني، ألقى البطريرك الماروني بشارة الراعي كلمة أكد فيها أن زيارة البابا"تحمل رسالة السلام الذي يتوق اليه العالم بعامة والشرق الاوسط بخاصة. السلام هو مهمة المسيحيين. انهم يعتبرونه هبة من الله يجب الحفاظ عليها. ويشعر المسيحيون انهم مدعوون الى جعل السلام ثقافة حياة". وأضاف:"زيارتكم الرسولية للشرق الاوسط في زمن تعيش فيه المنطقة تحولات جذرية تهدد امنها واستقرارها، تحمل الكثير من الامل". وأمل بأن"تؤدي الاحداث الدامية والتضحيات الى ولادة هذا الربيع العربي المنشود"، وقال:"ان الارشاد الرسولي الذي ستتسلمه الكنائس رسمياً سيرسم خريطة طريق نحو هذا الربيع"، مؤكداً للبابا أن"زيارتكم هي صمام امان في زمن يشعر فيه المسيحيون بعدم الاستقرار ويقاومون بإخلاص للوعود التي قطعوها خلال عمادتهم، ليؤكدوا تجذرهم بهذه الارض على رغم التحديات الكبيرة". وتسلم الراعي من البابا كأساً مذهبة. القداس وعظة البابا واستهل البابا القداس بتلاوة صلاة البدء بالطقس اللاتيني، ثم ألقى عظة قال فيها:"أنا سعيد بوجودي معكم، في لبنان، لأسلم أساقفة المنطقة الإرشاد الرسولي لكنيسة الشرق الأوسط"، وحيّا"بطاركة وأساقفة الكنائس الشرقية، والأساقفة اللاتين من المناطق المجاورة، والكرادلة والأساقفة الآتين من بلدان أخرى". وأكد ان"اتباع يسوع يعني حمل صليبه للسير معه على طريقه، وهو طريق شاق، ليس طريق السلطة أو المجد الأرضي إنما الطريق الذي يقود حتماً إلى التخلي عن الذات. ونحن متأكدون من أن هذا الطريق يقود إلى القيامة". وأضاف أن"دعوة الكنيسة والمسيح هي الخدمة، كما فعل المسيح ذاته، بمجانية، وللجميع، من دون أدنى تمييز. وهكذا، إن خدمة العدل والسلام، في عالم لا يتوقف فيه العنف عن بسط ظل الموت والدمار، هي حاجة ملحّة للالتزام من أجل مجتمع أخوي، ولبناء الشركة". وقال:"أصلّي للرب خصوصاً كي يمنح منطقة الشرق الأوسط خداماً للسلام والمصالحة فيتمكن الجميع من العيش بهدوء وكرامة. إنها شهادة أساسية، على المسيحيين أن يقدموها هنا، بالتعاون مع كل الأشخاص ذوي الإرادة الصالحة. إنني أدعوكم جميعاً للعمل من أجل السلام... كل على مستواه وحيث يتواجد". وشدد على أنه"يجب أن تكون الخدمة أيضاً في قلب حياة الجماعة المسيحية نفسها. إن كل خدمة وكل مهمة داخل الكنيسة، هما قبل كل شيء خدمة لله والأخوة، هذه هي الروح التي يجب أن تنعش جميع المعمدين، لا سيما من خلال التزام فعال تجاه الأكثر فقراً والمهمشين، والذين يتألمون، للحفاظ على الكرامة غير القابلة للمساس لكل شخص". وزاد:"يا من تتألمون في جسدكم أو في قلبكم، إن ألمكم لا يذهب سدى. المسيح قريب من جميع المتألمين. إنه حاضر بينكم. فلتتمكنوا من أن تجدوا على دربكم إخوة وأخوات يظهرون بشكل ملموس حضوره المحب الذي لا يترككم". واختتم العظة داعياً ان"يبارك الرب لبنان، وليبارك كل شعوب منطقة الشرق الأوسط الحبيبة، ويمنحها عطية سلامه". تسليم نسخ عن الإرشاد الرسولي وبعد مناولة البابا الرئيس سليمان وعقيلته و30 شخصاً اختارتهم الكنيسة، ألقى الامين العام للسينودوس نيكولا ايتيروفيك كلمة شكر قبل ان يسلم البابا نسخاً عن الارشاد الرسولي الى بطاركة الكنائس الشرقية الكاثوليكية ورؤساء المجالس الأسقفية الكاثوليكية في تركيا وإيران. وقال البابا:"بعد التوقيع على الإرشاد الرسولي لكنائس الشرق الأوسط، يسعدني أن أسلمه لجميع الكنائس الخاصة من خلالكم، يا أصحاب الغبطة وأيها الأساقفة الشرقيين واللاتين في الشرق الأوسط"، مضيفاً انه"بتسليم هذه الوثيقة، والبدء في دراستها وتطبيقها من جانب جميع العاملين في الكنيسة، رعاة وأشخاصاً مكرسين وعلمانيين، ليجد كل فرد فرحة جديدة للاستمرار في رسالته، مرتكزاً الى الشجاعة والقوة اللتين سيحصل عليهما، ليبدأ في تطبيق رسالة الشركة والشهادة"، وتمنى أن"يصبح هذا الإرشاد مرشداً للتقدم في الطرق المتنوعة والمعقدة، لتثبيت الشركة في الإيمان والرجاء والمحبة في بلادكم وفي كل جماعة". على المجتمع الدولي والعرب اقتراح حلول بعد ذلك، صافح البابا البطاركة والكرادلة والأساقفة، ثم ألقى كلمة مقتضبة قبل صلاة التبشير الملائكي، قال فيها:"نتضرع للسيدة العذراء لتساعد كل شعوب المنطقة وبخاصة الشعب السوري. تعرفون المشاكل التي تعصف بالمنطقة. فالآلام كثيرة، لا نزال نستمع الى صراخ الارامل والايتام والنساء والاطفال هم اول الضحايا. لماذا هذا الكم من الموت"، ودعا المجتمع الدولي والدول العربية الى"اقتراح الحلول التي تحترم حقوق الانسان". وتابع:"احترام حقوق الانسان من الحقوق الضرورية وبخاصة حرية ممارسة الشعائر الدينية. ليس من السهل ان نحترم الآخر ونحبّه اذا كان مختلفاً جداً، لكن هذا ضروري من اجل ان يحل السلام. اتمنى ان يحل السلام في هذه المنطقة، وأن يفهم الجميع اننا إخوة. ونحن بمعية الاساقفة والكرادلة نود ان نتضرع للعذراء لحماية الشرق الاوسط. اتمنى ان تتحلوا بالايمان لتعيشوا معاً كإخوة". وفي الختام، صافح البابا سليمان وعقيلته، وغادر على متن"بابا موبيلي"عائداً إلى مقره في السفارة البابوية 0على وقع تصفيق وهتاف الحاضرين، وبدا لافتاً انه أنزل الزجاج العازل ولوّح للمشاركين. فيما بقي المؤمنون في الساحة متوزعين على 5 مذابح على كل منها 15 كاهناً للمناولة. اللقاء المسكوني واستكمل البابا لقاءاته مع المرجعيات المسيحية المشرقية بلقاء مسكوني عصراً مع البطاركة الأرثوذكس ومطران أورشليم وأساقفة لبنان الأرثوذكس وممثل الكنسية البروتستانتية في لبنان، في مقر بطريركية السريان الكاثوليك في دير الشرفة درعون، وفي حضور بطاركة الشرق الكاثوليك والوفد البابوي. ولدى وصوله الى الدير بسيارة"بابا موبيلي"، استقبل بالزغاريد ونثر الورود، وازاح الستار عن لوحة تذكارية تؤرخ لزيارته الدير الذي اسسه قبل 200 سنة كاهن عاش الاضطهاد وهرب مع ايقونة العذراء الى تركيا ثم الى العراق والى صحراء سورية واستقر في جبل لبنان. واستقبل بطريرك السريان الأنطاكي مار أغناطيوس يوسف الثالث يونان البابا، وقال"على رغم التطورات المهمة في المنطقة، أتيت إلى لبنان كأب للجميع"، ولفت إلى أن"الانجيلية الجديدة تستوجب هوية جديدة أمام التحديات وفي محيط الاكثرية الدينية التي نعيش وسطها"، مشيراً إلى أن"البابا دعا المسؤولين الى وضع حد للاضطهاد ضد المسيحيين وهم اليوم مجموعة دينية في الشرق الاوسط تتعرض لأكبر عدد من الاضطهادات بسبب إيمانها"، مضيفاً:"نعترف بنقاط ضعفنا ونطلب حرية ممارسة الدين ونطالب الدول الديموقراطية بأن تدافع عن طموحاتنا بالعيش بكرامة، ونعدك أننا سنبقى شهوداً للرجاء والأمل وسنكرر الرجاء في الله والمعرفة معرفة العالم". ورد البابا بكلمة عبّر فيها عن سروره لوجوده"هنا في الشرق الاوسط"، وقال ان تفكيره"يذهب الى الكنيسة القبطية في مصر"، مجدداً دعوته الى"البقاء في المنطقة والتحلي بالرفاه"، وقال:"اصلي من اجل كل الكنائس وكل المجموعات في هذه المنطقة"، وأكد"مد العون واعطاء شهادة حية عن ايماننا"، وشدد على"اهمية التوحد"وقال:"اسلم كل كنائس لبنان والمنطقة الى العذراء كي تحميها ولكي نتخلص من كل عنف ولكي تصل هذه المنطقة الى الصلح والسلام". وفضل البابا الانتقال بالسيارة نفسها الى مطار بيروت، وسارت خلفه سيارة الرئاسة الاولى، واصطفت على جوانب الطرق جموع شعبية لوحت له مودعة. مراسم الوداع وكانت الترتيبات الأمنية تستكمل في هذا الوقت لإقامة مراسم وداع البابا في مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، وفي السادسة والنصف مساء أقيم للبابا وداع رسمي في مطار رفيق الحريري الدولي، بمثل ما استقبل به، شارك فيه الرئيس سليمان وزوجته وأركان الدولة إلى جانب الراعي والبطاركة ووزراء ونواب وأعضاء السلك الديبلوماسي ورجال دين من مختلف الطوائف. وألقى سليمان كلمة ودع فيها البابا، ورد البابا بكلمة شكر فيها شعب لبنان وسلطاته على الاستقبال. وغادر البابا لبنان على متن طائرة تابعة لشركة طيران الشرق الأوسط من نوع"ارباص 320"تحمل الرقم المتسلسل 5000، عائداً إلى روما.