يقدّم الفنانان اللبنانيان لينا صانع وربيع مروة عملًا مسرحياً مشتركاً جديداً في مهرجان أفينيون المسرحي السادس والستين سميّاه"ثلاث وثلاثون دورة وبضع ثوانٍ". وهو عمل يحمل إلى الخشبة الواقع اللبناني في تعدّد وجوهه وتناقضها. وهي المرّة الثانية يقدّمان عملًا مسرحيّاً في المهرجان. فسبق لهما أن قدّما في عام 9002 "فوتو رومانس"التي تناولت أيضاً موضوعات مستقاة من الواقع، ومنها الهجرة. وإذ يبدو عملهما الجديد، كسابقه، عملاً ملتزماً الواقع يحمل إلى جمهور أفينيون - وهو جمهور يتابع مآل"الربيع العربي"باهتمام -، تناقضات الواقع اللبناني ومآسيه، يحوز أيضاً حيّزه الفني اهتمام الجمهور في طرحه مسألة ماهيّة المسرح والحدود التي يبدأ عندها وينتهي. ومعلوم أن هذا العمل ساهم في إنتاجه مهرجان أفينيون نفسه، مع مهرجانات عالمية أخرى، وقد قُدّم في بلجيكا في مهرجان كونستن للفنون، وسيقدم في الخريف في هلسينكي وجنيف ومدن فرنسية. غياب الممثل وغياب الموت اللافت في عمل صانع ومروة هو راديكالية الطرح الدرامي، فأنت لن ترى ظلّ ممثل واحد على المسرح طيلة ساعة العرض، حتى عملهما أُشير إليه بأسماءٍ تتردّد بين العمل المسرحي وما يُسمّى الُمنشأة المسرحية Installation أو الأداء المسرحي Performance. غير أن قوّة الطرح تكمن في أنه على علاقة عضوية مع الموضوع المطروح. فغياب الممثّل يومئ إلى غياب آخر في الواقع، كأنّ الفنانين يجسّدان على الخشبة الغياب والموت اللذين يتحدّثان عنهما. ينطلق"ثلاث وثلاثون دورة"من حادثة حقيقية، حادثة انتحار شاب لبناني في ريعان العمر كان ناشطاً اجتماعياً معروفاً. والسينوغرافيا في علاقة وثيقة مع موضوع الغياب وامّحاء الفرد أو تحوّله إلى أُلعوبة بين أيدي ما يتوق مبدئياً إلى تسهيل حياته: أجهزة التواصل وأجهزة الإعلام. فأنت لن ترى أمامك على الخشبة إلا أجهزة تواصل في فضاء مسرحي مجرّد يسيطر عليه اللون الأسود يثقبه بياض نور الشاشات الشاحب: جهاز تلفزيون، هاتف مُرفق بآلة لتسجيل الرسائل الهاتفية، جهاز كومبيوتر تبدو على شاشته صفحة فايسبوك. والمسرحية تطرح أنواع الخطاب الشتى التي رافقت هذا الممات، تطرحها مرآةً لفهم الواقع، بدءاً بخطاب الشاب نفسه، فقد سجّل على فايسبوك، قبل مماته، رسالة إلى أصدقائه الألفين وكأنها رسالة"من وراء اللحد"إذا جاز لنا استعارة عبارة الكاتب الفرنسي شاتوبريان. والرسالة ليست وصيّة إنما تتوخى"الشرح"، كلمتها الرئيسة هي"الحريّة":"أموت كما عشتُ حرّاً...اكتشفتُ أنّ الحياة عبارة عن سجن...توجد حالة واحدة يمكن أن يكون فيها الإنسان حرّاً: اللا وجود...". ولا يكتفي العمل بهذا"الإخراج"الذي يصنعه الشاب لانتحاره بل يأبى الأجوبة الُأحادية:"مَن يظنّ من البشر أنّه يعلم سبب إقدام شخصٍ ما على الانتحار، يدّع ادّعاء عظيماً. فالأسباب دائماً غامضة وإن كانت الرسالة جليّة"، يؤكد ربيع مروة خلال حواري معه ومع لينا صانع في أفينيون. ويضيف:"لذا فهذا ليس موضوعنا بل ننطلق منه لنعرف حالتنا الحاضرة وواقعنا"، ذلك أن هذا الحدث كان له وَقْع الزلزال في لبنان. وتتالت التعليقات وردود الفعل تحاول أن"تعقلن"الحدث وأن تجد له معنى: التعليقات الرسمية في وسائل الإعلام، على التلفزيون بخاصة، وردود فعل أصدقائه على صفحات فايسبوك. ويأتي"ثلاث وثلاثون دورة" كأنّه عمل وثائقي- وهو في الحقيقة يتردّد بين الحقيقة والخيال - فيجمع ردود الفعل هذه ويعيد كتابتها في لغته المسرحية متوخّياً منها فهم الواقع اللبناني نفسه. والثلاث والثلاثون دورة هذه هي دورات الديسك الذي يلقي على مسامعنا، في مستهل العرض المسرحي، أغنية جاك بريل:"عند تناولي الطعام للمرة الأخيرة". و"المرّة الأخيرة"هي بالطبع المرّة التي تسبق الانتحار. والشاب في المسرحية يحمل اسماً تكثُر فيه الرموز، اسماً يعلن عن مصيره فهو"ضياء يموت"، نورٌ مآله الموت في أوج وهجه. وتتوالى التعليقات على صفحة فايسبوك جاعلة منه تارةً نوراً يضيء سبيل أصدقائه في رسالته الإنسانية التي تدافع عن الضعفاء وترفع راية حقوق المرأة، وطوراً ضلالاً محضاً، ضلال الشباب اللبناني الضائع الذي لا يَعي ما يُقدم عليه. وتتواصل ردود فعل السياسيين والإعلاميين ورجال الدين والعلماء من أطباّء نفسانيين وعلماء اجتماع، وردود فعل الأهل. فهو بطل جريء في إلحاده ورفضه للواقع الطائفي اللبناني وهو جبان وهو شهيد... وآلة التسجيل تلقي على مسامعنا صوت الصديقة الفلسطينية التي تحاور الشاب - أو تظنّ ذلك ? ، وتُعيد، كالردّة في القصيدة الزجلية، سؤالًا يُعطيه الانتحار أبعاداً مخيفة:"ضياء، أَلا تزال هنا؟" لقاء وصدام تبدو الكتابة المسرحية محكمة البنية عمادها توازن دقيق بين الشفهي والكتابي، بين العام والخاص، بين رسائل وسائل الإعلام ورسائل"الأصدقاء"، توازن أيضاً بين اللغات المختلفة ? العربية الفصحى، العامية اللبنانية، الفرنسية والإنكليزية -، والكتابات المختلفة. واللافت هو استعمال الأبجدية العربية واللاتينية معاً لكتابة العاميّة كما هو شائع الآن على صفحات فايسبوك. ويندرج العمل، كما يؤكد الفنّانان، ضمن سياق أعمالهما السابقة يتابعان فيه بلورة لغة مسرحية قد بدأا صياغتها منذ أعوام، إِنْ في أعمال مسرحية مشتركة أو كلّ على حِدة في أعمال خاصة:"حين يعمل كلٌّ منا على حدة لا يتوقف الحوار بيننا. وأعمالنا تحمل إلى الخشبة الأسئلة نفسها والتصوّر نفسه"يؤكد ربيع مروة. وهذه اللغة المشتركة"تتبلور في وضع المسرح في لقاء وصدام مع حقل فنّي آخر. ففي مسرحية"فوتو رومانس"كان اللقاء والصدام مع السينما وفي"الموظف المفقود"أتت المواجهة مع وسائل الإعلام، وفي"مَن يخاف التمثيل ؟"تأتي المواجهة مع ال Body Art. ووسائل التواصل الجديدة تضع المسرح على المحكّ وهي التي عارضناها هنا مع الكتابة المسرحية دافعين بهذه المعارضة إلى أقصاها، مِن هنا فكرة عدم وجود ممثلين على الخشبة فوسائل التواصل هذه تأتي بالحضور من دون حضور، وتطرح دور الممثل". وهذه اللغة المشتركة تندرج في إطار ما يسمى المسرح الوثائقي الذي ينطلق من الواقع ويرمي إلى فهمه وإلى دفع المشاهد إلى التساؤل عن معناه. فيغدو المسرح كأنه وسيلة للبحث عن السبيل في فوضى الواقع العارمة. هكذا يبدو بحث الفنانَين في سياق البحث المسرحي العالمي الحديث، فمعلومٌ أنّ دور الممثل - أو على الأقل دور الشخصية المسرحيّة personnage - هو في صلب التساؤلات المسرحية في القرن العشرين كما أن دور المشاهد ودور المسرح في فهم الواقع وتغييره في صميم تفكير تيارات لا يزال يتابع بلورتها فنانون عالميون منهم المسرحي البرليني توماس أوسترماير. وحين أقول لصانع ومروة إن عملهما متفائل، رغم موضوعه، كونه يحمل أملاً ضمنياً في تغيير الواقع، يجيب مروة أنهما على قناعة أن الواقع ليس قضاء وقدراً وأنه من صُنع أيدينا وأن البشر - ومنهم جمهور المشاهدين - أذكياء قادرون على تفكير مستقل رغم كل القيود والمناورات الإعلامية. ويُصِرّ الفنانان على أهميّة طرح الأسئلة في هذا المسار والمسرح فضاء قادر على ذلك، ويضيفان:"تعدد اللغات والكتابات في المسرحية يومئ إلى تعدد الحقائق وإلى ضرورة التأويل، بينما الطوائف تؤكد أُحادية الحقيقة". "والواقع معقّد، فمِن اليسار اللبناني مَن هو طائفي بلا أن يعلم، ومِن رجال الدين والطوائف مَن يخرج عن التفكير الطائفي الأحادي". وحين نتطرق إلى مسألة السرد تؤكد لينا صانع أنهما لم يبتعدا عن السرد يوماً بل إنهما ابتعدا عن التصور الذي يقدّم على المسرح"قصة واحدة متسلسلة تفسّر ما يجري بوضوح". وقد سبق للفنانين أن نقلا إلى المسرح روايات، منها في عام 1991"رحلة غاندي الصغير"للياس خوري وفي عام 0002 نقل مروة"ثلاث ملصقات"مع إعادة النظر في سرد القصة". وفي الحقيقة فإنّ غياب الممثل لا يغيّب فعلاً الشخصية المسرحية، فالكلام نفسه، في كونه كلاماً، يأتي بالمتكلّم. ورغم غياب الممثل، ثمة شخصيّة شاب ترتسم في أذهاننا في نهاية العرض تأتي بها التعليقات المختلفة، تماماً كما يأتي فعل القراءة بشخصيات حيّة كأننا نعرفها ونعاشرها من زمن بعيد. ونتساءل عند خروجنا من العرض:"أحقاً لم نر صورة ل"ضياء يموت؟"، لم تبد لنا شخصيّته مألوفة؟ ولا يخلو عمل صانع ومروة من كآبة ضمنية تنبع من سياق عملهما مع أنهما يبقيان على صلة"وثائقية"مع ما يصفانه، صلة لا تسمح لنفسها بالحكم أو التعاطف. ويخرج المشاهد في نهاية العرض مُتعباً يتجاذبه تناقض الخطابات والمعاني التي تومئ كلها إلى واقع واحد حادّ كالسكين، مؤلم كالجرح المفتوح، واقع لبنان الحالي.