تنتهي عروض مهرجان أفينيون المسرحي في 29 تموز (يوليو) الجاري بعدما تحوّلت المدينة الفرنسية منذ السابع من هذا الشهر، في سورها القديم، في أديرتها وساحاتها ,في قصرها البابوي الأسطوري، إلى صالة مسرح واحدة متعددة، وإلى عيد متواصل غير عابئ بدوران الليل والنهار. فإلى جانب مهرجان ال «in» - المهرجان الرسمي -، عروض مهرجان ال «off» - غير الرسمي. هناك مئات الأعمال الفنّية - نحو1000 عمل وآلاف الفنانين الذين قدموا من أنحاء العالم، جمهور غفير من هواة المسرح، تلك هي أفينيون، تحت زرقة سماء تموز. وثمة خيط - خيط أَرْيان جَليّ - يجمع الأعمال الفنية في المهرجان الرسمي على رغم تعدد مناهجها وتنوّعها الفني. خيط أراده للمهرجان مديراه الفنّيان أرتونس أرشمبو وفانسان، بالتعاون مع الكاتب والمخرج المسرحي اللبناني الأصل الكندي الموطن، وجدي معوّض، الذي طبع هذا الموسم بسمته المميزة وشارك باختيار الأعمال الفنيّة، كونه «الفنان المشارك» (artiste associé) لهذا الموسم. هذا الخيط هو خيط السرد. السرد كموضع لمقاومة الموت، للاستمرار في الحياة على رغم الحروب ورغم العنف والهمجية، والتشرّد. السرد لإضفاء معنى على الحياة. معنى يقاوم تهافت المعاني. وإذ يطرح هذا الخيط صلة المسرح وفنونه بالواقع، يضع الحرف والكلمة في صلب فنون الخشبة أجمع. فيبرز بذلك المسرح اليوناني القديم ودوره المؤسس في صلب مهرجان يتوخّى تأصيل المسرح في عالمنا المعاصر. وجد وجدي و«دم الوعود» بدأ الأمر بعرض مسرحي ملحمي. في ساحة الشرف في القصر البابوي. التي شهدت «حذاء الساتان» بإخراج أنطوان فيتاز (Antoine Vitez) في عام 1987 كما شهدت «ميفستو» بإخراج أريان منوشكين (Ariane Mnouchkine) و«محاضرة العصافير» بإخراج بيتير بروك (Peter Brook). من الثامن إلى الحادي عشر من تموز، جلس ألفا مشاهد كل يوم، قبل الغسق، عند الساعة الثامنة ليلاً، على المدرج المعدّ في الساحة المحاطة بالجدران القديمة، وعبروا الليل والعالم برفقة شخصيّات مسرحية وجدي معوض، «دم الوعود»، متلحفين بالحلم وبأغطية من صوف أعدّها المنظّمون على كل كرسي. جلسوا ليشهدوا مسرحاً حيث الكلمة تُغني عن أي سينوغرافيا معقدّة فتبقى الخشبة في عراء شبه تام. وحده غناء الريح ولآلئ الأضواء في قيثارة - ستارة من أوتار بلاستيكية مُدّت على حائط القلعة القديم، وراء الخشبة. وحدها أيضاً بعض الألواح المنتصبة تتيح تقسيم الفضاء المسرحي. وبزغ الصباح من دون أن تكلّ الكلمة. وعند الثامنة تقريباً، تحت زرقة السماء الساطعة، وقف المشاهدون الذين ما زال معظمهم في مقعده متلحفين بأغطيتهم، مصفقين لهذه المسرحية/ العالم، ولاثنين وعشرين فناناً يتألق حضور بعضهم كالجمار الملتهبة، كذاك اللون الأحمر الذي يصبّونه على أجسادهم في المشهد الأول ثم يطبعون به قطعة القماش الأبيض على طول الخشبة، لون أحمر كأنه النبيذ على غطاء مائدة أبيض - كما تذكر المسرحية - أو لعله لون الدم على الكفن الأبيض، دم الوعود التي نحتت الأجساد ووسمت الحياة. و«دم الوعود» هو العنوان الجديد لرباعية وجدي معوض التي جمعت مسرحيّاته المعروفة، «ساحل» و« حرائق» و«غابات»، والتي يُقدّم الجزء الأخير منها - «سماوات» - للمرة الأولى من 19 تموز حتى 29 في ضاحية أفينيون، حيث حديقة المعارض. ومن المعلوم أن الأجزاء الثلاثة الأولى هذه، وإن اختلفت القصص التي ترويها، تطرح كلها مسألة الإرث والذاكرة، الإرث الأبكم الأصم الذي تتناقله الأجيال، بلا معرفة منها، حتى إذا ناء جيل الشباب بحمله أصبحت مسألة استعادة الذاكرة سبيله الوحيد للحياة. ويضجّ هذا المسرح القائم على إثارة عاطفة المشاهد، بل على إلهابها، بوَجْد شخصيّاته، وجدِها بكل المعاني الكلاسيكية للكلمة. فالوجد هو ذاك النزوع المتناقض والتوق العاشق والحاقد في آن معاً. هو الوجد بالآخر والوجد على الآخر، في حركتين متلازمتين أبداً. وقد عرضت هذه الأعمال المسرحية كلا على حدة خلال السنوات العشر الماضية على مسارح باريسية فرنسية وعالمية - منها مهرجان أفينيون حيث قدمت «ساحل» في عام 1999. إلا أن العمل المسرحي الذي شهدته أفينيون في هذا المهرجان الثالث والستين هو عمل جديد حقّاً يحدده عاملان جديدان لهما أثرهما البالغ: الأول هو أثر توالي الأعمال على وقع كل منها، والعامل الثاني هو أثر الإطار والخشبة على المسرحية. هذه المسرحيات التي قدمت في صالات مقفلة، كيف تكون إذا جابهت ظلال القلعة القديمة تحت قبة السماء اللا - متناهية؟ ويتألق الجزء الأول من «دم الوعود»، أي مسرحية «ساحل »، في أول الليل يخدمها ممثل شاب يشعّ حضوراً - وهو إيمانويل شوارتز، المؤسس الثاني إلى جانب وجدي معوض لفرقة معوض الكندية كما تخدمها كتابة جديدة إذ يقول وجدي معوض أنه أعاد كتابة نص «ساحل» مجتزئاً ما يقرب ساعة من العمل المسرحي. و«ساحل» التي عرّفت وجدي معوض للجمهور الفرنسي تروي قصة شاب نشأ في المهجر عليه أن يجد مثوى أخيراً لأبيه الذي لم يعرفه. خيط السرد هذا ينطلق من حالة تبدو أليفة للبنان المهاجر. فمن لا يعلم في لبنان المهجر مأساة المثوى الأخير: كيف الإقرار للآباء بمثوى في أرض غريبة، بعيداً من الأجداد، وكيف العودة بالجثمان إلى أرض الأجداد التي تغدو يوماً بعد يوم أرضاً غريبة للأبناء؟ وإذ تقدّم «ساحل» تشابك الخيال الجامح مع الواقع كتلك المشاهد التي يرقص فيها الحلم مع الموت رقصة العدم مع العدم، يلاحظ أنّ الجزء الثالث من «دم الوعود»، «غابات»، فقد من بداهته وضرورته تحت قبة السماء، إذا قورن بالعمل المسرحي نفسه الذي قُدّم على خشبة مسرح 71 في ملاكوف. لعل عرضه في أخر الليل، أو بالأحرى عند السحر، لم يسهّل الأمور. ويأتي الجزء الأخير والجديد من «دم الوعود» كأنّه ضَحدٌ للأجزاء الثلاثة الأولى في مضمونه وسينوغرافيته، كأن مسرحية «دم الوعود» نوع من الطِباق بالمعنى البلاغي للكلمة، تجمع الشيء وضدّه. فعوضاً عن قبة السماء، صالة محكمة الأقفال، وعوضاً عن عراء الخشبة حيث يقرع جَرْس الكلمة وحده، المعلوماتية والفيديو في صلب تطور العمل المسرحي. وعوضاً عن أن يكون خيط السرد هو السعي الى المعنى، يأتي مضمون المسرحية ليؤكد مخاطر التهالك وراء المعنى. “(أ) بولونيا» لكريستوف فارليكوفسكي وشهدت ساحة الشرف كذلك مسرحية ثانية أثارت الجدل وهي مسرحية “(أ)بولونيا» لكريستوف فارليكوفسكي، المخرج البولندي والمساعد السابق لبيتير بروك ولكريستيان لوبا والذي قدّمت أعماله مراراً في المهرجان. وتتخذ «[أ]بولونيا» شخصيات المأساة اليونانية القديمة دليلا لفهم العالم المعاصر. فتدعو نصوص إيشيل Eschyle وأوريبدوس Euripide كما تدعو نصوص Hanna Krall, Jonathan Little، وJohn Maxwell Coetzee. تقابل المسرحية بين عدد من الضحايا الذين ماتوا، حبّا بالآخر أو فداء للوطن أو لجماعة بشرية مضطهدة. وتتساءل عن ازدواجية معنى هذه التضحية بل عن تعدّد معانيها وتبدأ السلسلة ب «استشهاد» أيفيجينا، أو بالآحرى بتقديم أغاممنون ابنته على مذبح الآلهة لنصرة ملوك الإغريق ضد طروادة. فتبدو إيفيجينا فرحة فخورة أن تضحي بحياتها فداء «الوطن» ثم مولولة عندما يقودها أبوها إلى الموت. وتبدو عواقب هذه التضحية مريبة، فهي بداية لتدمير العائلة كلها إذ تقتل الأم (كليتمنسترClytemnestre) زوجها أغاممنون انتقاماً لابنتها ثم يقتل الأبن أورست (Oreste) أمه كليتمنستر انتقاماً لأبيه. وغرض فارليكوفسكي هو تاريخ بولندا الحديث كما يدل على ذلك عنوان مسرحيته. المأساة اليونانية محوراً وثمة مسرحيون آخرون جعلوا من المأساة اليونانية محوراً لفهم العنف المعاصر، منهم الكاتب والمخرج الفرنسي جويل جووانو (Joël Jouanneau) الذي قدّم مسرحية عنوانها «تحت أنظار أوديب» تستعيد تاريخ عائلة اللابداسيد من قدموس الجدّ، واضع الحرف ومؤسس مدينة طيبة، إلى أوديب وأبنائه وتجعل من أوديب متشرداً ومنفياً معاصراً. ولعلّ المسرحية، مع تضمنها عناصر قوية، لا تنجح في إقناع المشاهد بضرورة إعادة كتابة مسرحيات سوفوكل وأوريبيدس إنطلاقاً من فهمها الخاص لشخصياتهم ومن لغتها المسرحية الحديثة واليومية التي يستذكر فيها الكاتب كتاباً وشعراء حديثين من بول سيلان الى هنري ميشو وت،س. إليوت وريتسوس. حتى الاعمال الراقصة اتخذت من النص محوراً. إذ قدّمت الفنانة ماغي مارين (Maguy Marin) عملاً فنياً يتردد بين الكوريغرافيا والمسرح يقرأ فيه عدد من الممثلين نصوصاً عدة بلغات مختلفة في آن معاً، مما يجعل من بعضها صدى للبعض الأخر، بينما يهيم الراقصون في أضواء خافتة على أنقاض ساحات الوغى. والنصوص تروي العنف والحرب عبر القرون، منها نصٌ لهوميروس يروي فيه موت هكتور. ومن الأعمال التي تطرّقت للعنف عمل المخرج يان لوورس (Jan Lauwers) الذي اشتهر بمسرحيته «غرفة إيزابيلا» وقد قدّم في المهرجان عملاً جديداً - «دار الأيول» - يزاوج الرقص والغناء والمسرح وينطلق من حدث حقيقي هو موت شقيق إحدى راقصات الفرقة خلال عمله كمصوّر في كوسوفو. أما المخرج السينمائي الإسرائيلي أموس غيتاي، فقدّم للمرة الأولى عملاً مسرحيّاً في مكان أسطوري أخر من المهرجان وهو مقلع حجارة بولبون، حيث قرأت جان مورو نصّاً للمؤرخ العبري فلافيوس جوزيف الذي شهد تدمير مدينة أورشليم على يد الرومان في القرن الأول الميلادي. ... وحضور لبناني واسع ولا شك أن خيط المهرجان الذي يؤصل العمل المسرحي في العالم المعاصر وعنفه وخيار فنان مشارك من أصل لبناني، أتاحا حضوراً لبنانياً مميزاً، فقد سافر المديران الفنيان إلى لبنان وكندا برفقة وجدي معوض حيث اتصلا بالفنانين اللبنانيين من فناني المسرح والسينما، وتمثل الحضور اللبناني بمسرحية «صورة - قصة رومانسية» (Photo-Romance) للينا صانع وربيع مروه التي لقيت إقبالاً واسعاً وقبولاً حاراً عند المشاهدين والنقاد. وهي عمل إبداعي جديد قوامه السردي فيلم سينمائي هو «يوم خاص» لإيتوري سكولا (Ettore Scola) تنقل المسرحية ظروفه التاريخية فتجعل منها ظروفاً لبنانية. وتمزج المسرحية الشاشة بالمسرح واللقطات غير المتحركة - الصور - بالمشاهد المسرحية الحيّة فالشاشة تتبع قصة اليوم الخاص والمشاهد المسرحية تقدم لها في حبكة سردية مختلفة. وهذا اليوم الخاص هو اليوم الذي نزل فيه لبنان برمته إلى الشارع في تظاهرتين ضخمتين متضادتين. ويقدم المخرجان عملهما على أنه تأمُّل في دور اليسار الهزيل في الحرب الأهلية وفي الأخطاء التي أدت إلى تهميشه، كما أنه تأمّل في مكانة المرأة في المجتمع اللبناني. وحضر في العروض الفنية الحية اللبناني زاد ملتقى فأقام حفلتين موسيقيتين قدم فيهما أعماله. منها «لا» وهي قطعة موسيقية مستقاة من ضجيج المدافع وصفير الصواريخ وقرقعة المباني التي تنهار في حرب. وعرضت سينما اوتوبيا Utopia يومياً فيلماً أو أكثر لمخرجين سينمائيين عالميين دُعوا لحوار مع الجمهور بعد عرض عملهم، وتمثل الحضور اللبناني بعدد كبير من الفنانين، منهم غسان سلهب ودنيال عربيد وديما الحر وجوانا حاجي توما وخليل جريج. وأخيراً، ثمة عملان يختلفان كل الاختلاف عن أعمال الفرق الكبيرة، وهما شعر محض، كل على طريقته، الأول هو رقص أسرائيل غالفان الإشبيلي، السيّد المطلق لرقص الفلامنكو، في مقلع حجارة بولبون. وهو ينطلق في عمله هذا من العنف وحرب لبنان وأوضاع العالم ليرقص على إيقاع نص رؤيا القديس يوحنا فينتهي شبحاً راقصاً في نعشه.br / والعمل الثاني هو العمل المسرحي الذي يقدمه المخرج الفرنسي كلود ريجي للقصيدة البحرية، للشاعر البرتغالي بيسوا. ولعل هذا العمل الذي يخرج عن المدارس كلها وعن المُوَض كلها من أكثر أعمال المهرجان سحراً. يقدمه كلود ريجي البالغ السادسة والثمانين من عمره كالآتي: «ساعتان [من الإلقاء]، ألف بيت شعر، ممثل واحد لا يأتي بأدنى حركة... إن المستحيل جزء من المسرح وإلا فالأفضل البقاء في المنزل». في صالة مقفلة على خشبة ليست خشبة بل هي جسر ضيق يتقدم نحو الصالة، يقف جان - كانتان شاتلين في ضوء رمادي، وفي مكان لا يعرف هل هو بحر، أرض أو سماء، يقف جان - كانتان شاتلين ويلقي بصوت مسكون شعراً يترك في القلوب أثراً عميقاً. وقد فقدت القصيدة البحرية من المكتبات بعد تقديم عمل ريجي.