باكراً، وقبل ان تجتاح حمى"المونديال"عروق اللبنانيين، تحوّل منزل الياس"سفارة"لدولة البرازيل. الوالد المتطرف في عشقه للمنتخب"الأقوى"في العالم، برأيه، رفع العلم البرازيلي على شرفة منزله قبل شهرين من"الافتتاح الكبير"، واشترى تباعاً"عدّة الشغل"الحماسية، وأول مكوّناتها جهاز تلفزيون جديد ذي شاشة عملاقة، كلّفه الوقوع في التقسيط، بكل طيبة خاطر وبلا تردد. لكن ما لم يحسب"زعيم"العائلة حسابه، هو مواجهته حركة"تمرد"داخل منزله، بعد انقلاب ولديه رامي وجاد على انتمائهما البرازيلي ليلتحقا، من دون سابق إنذار، بالمعسكر الإيطالي. فقط رانيا، ابنة الخامسة عشرة، بقيت وفية لخيار والدها، فانفردت في إطلاق حملة تشجيع للمنتخب"الأسمر"بتعليق صورة عملاقة للاعب البرازيلي ادريانو في غرفتها. وهكذا، يتصارع علما"البرازيل"و"إيطاليا"على شرفة الياس وداخل سيارته، فيما تجنّدت الوالدة"الحيادية"لتلعب دور"شيخ الصلح"بعد كل مباراة ستفرز رابحاً وخاسراً. يسخر اللبنانيون من"نكتة"مفادها ان القانون يحظر رفع علم على أسطح الأبنية والشرفات أو الأعمدة... باستثناء العلم اللبناني، إلا بقرار من وزير الداخلية. والأمر ليس نكتة أو مزاحاً، لكن"تسونامي"المونديال جعله كذلك. قد يقبل مؤيدو الأحزاب والتيارات السياسية في لبنان الاستغناء عن أعلام الأحزاب المتعددة الألوان، تحت ستار احترام القانون، خلال مشاركتهم في التظاهرات أو الانتخابات، لكن الأمر يبدو من رابع المستحيلات عندما تدخل"الكرة"على الخط. العلم اللبناني وضع في الدرج فاسحاً المجال أمام"هجمة"لا سابق لها لأعلام دول العالم بكل ألوانها وأشكالها."اجتياح"سبق له ان عرض عضلاته خلال الانتخابات البلدية الماضية، التي سبقت افتتاح مباريات كأس العالم بشهر واحد، حين زاحمت أعلام الدول المشاركة في"المونديال"صور المرشحين وأعلام الأحزاب اللبنانية... فكانت الناخب الأكبر في الصناديق البلدية. "صراع السفارات"ليس حالة استثنائية في منزل الياس. هو القاعدة في منازل كثيرين من اللبنانيين، الأمر الذي فرض"إجراءات غير عادية"لتجنب حدوث صدامات غير مستحبة بين اهل البيت الواحد. والخيارات تصبح أصعب عندما تنحصر لائحة المباريات بين كبار المنتخبات. تبدي كارلا، أم الخمسة أولاد، خشية من احتمال مواجهة"كسر عظم"في النهائيات. فالعائلة منقسمة الى معسكرين: برازيلي وألماني، وهذا يعني ان"نصف"أفراد عائلتها، سينام على وسادته في ليلة المونديال الأخيرة وهو يذرف الدموع، هذا من دون استبعاد حصول مشاحنات كلامية قد تنقل"شغب"الملاعب الى منزلها. قصة"الغرام"بين اللبنانيين وبطولة كأس العالم قديمة قدم اللعبة، إلا ان تغيّر النمط المعيشي والاجتماعي في بيروت نحو مزيد من"ديموقراطية التعبير"من جهة، وثقل الأزمات السياسية المتلاحقة من جهة أخرى، حوّلا"الكرة الساحرة"الى واحة لتنفيس الاحتقانات والهروب من الروتين، فيما يكتسب التنظيم الجماهيري لحضور هذه المباريات المزيد من الخبرة مع السنوات، الى حد دفع بعض المتابعين لشؤون هذه اللعبة الشعبية الى توجيه نصيحة"ذهبية"لمن يرغب في حضور"مونديال"مثير، واختصاراً للمسافات، بالتوجه الى بيروت... لا جنوب افريقيا! غير أن ما يحدث عملياً خلف كواليس"المونديال"، يدعو فعلاً للاستغراب، حيث ان لبنان الذي لم يحجز مقعداً له بعد على خريطة مباريات كأس العالم التي تتم كل أربع سنوات، تبرّع ليوزع مواطنيه، ليس بالتساوي طبعاً،"كتلاً بشرية"مؤيدة لأهم منتخبات العالم متخلياً خلال شهر كامل عن"جنسيته الأصلية"ليتحول الى بلد"متعدد الجنسيات": برازيلي وإيطالي وألماني وأرجنتيني وإسباني وفرنسي وأنكليزي وكوري وأسترالي... والمثير أكثر"الروايات المشوقة"التي يتناقلها اللبنانيون حول"التسونامي"الحماسي للمشجعين الذين يحتلون المقاهي والمطاعم والساحات الكبرى والمنازل: شقيق يتقمّص شخصية اللاعب الألماني فيليب لام، ليستفزّ شقيقه"البرازيلي"لوسيو، والإيطالي يكشّر عن أنيابه أمام صديق الطفولة"شفاينتز تايغر"الذي أصبح المانياً، والعاشق يهجر حبيبته على مدى ثلاثين يوماً لأن"الواجب يناديه"، و"التزريكات"تبلغ مداها لتدخل الشقاق بين الأقرباء والأصدقاء... وحدهم أصحاب المطاعم والمقاهي يحرصون على تأكيد"حياديتهم"أمام الزبائن خوفاً من الصاق تهمة الانحياز بهم، فيرفعون أعلام كل الدول المشاركة في"المونديال"... لأن"مزاج الزبون"فوق كل اعتبار. نشر في العدد: 17247 ت.م: 24-06-2010 ص: 25 ط: الرياض