منذ السنوات التي أعقبت هزيمة 1967، كنت أستشعر تغيراً ملموساً حدث في استجابة الأنواع الأدبية إلى الواقع الكابوسي الذي عاشته بعد هذه الهزيمة، وتحت تأثيرها. ومن الواضح أن السلطة التي تسببت في هذه الكارثة أدركت أن عليها أن تفتح باب الحرية المقموعة هوناً حتى لا يحدث انفجار لا يبقي عليها، ولذلك اتسعت الحرية المتاحة للكاتب، خصوصاً في مصر، لكي ينفّث عن الغضب والحزن الذي أخذ يغلي داخله، نتيجة وقع كارثة لم يتوقعها ولم يتخيلها، ولهذا انفتح الباب أمام الكتاب الكبار ليكتب الحكيم عن"سائق القطار"و"السلطان الحائر"، وأن ينتقل نجيب محفوظ إلى كوابيس المشهد العبثي بعد الهزيمة في"تحت المظلة"وقمع المثقفين الشباب في"الكرنك"وأمثالها وتغاضي النظام الناصري عن قسوة النقد الساخط الذي أظهره جيل الستينات الذي صهرته الهزيمة وأنضجته حرارتها. تجاوز نقد نجيب محفوظ في ما بعد"الكرنك"ويوسف إدريس في"العملية الكبرى"إلى التعرض المباشر للقمع الوحشي لما حدث في السجون الناصرية، مازجاً بين الأقنعة والرصد التصويري في الفارق الذي مايز بين صنع الله في"تلك الرائحة"وجمال الغيطاني في"الزيني بركات"... وأضف إلى ذلك محاولات إبراهيم أصلان الماكر الذي كان يبدو بعيداً من السياسة مع أنه في القلب منها، ومحاولات محمد البساطي ويحيى الطاهر عبدالله بصياغته فانتازيات العنف القبيح، ومعهم بهاء طاهر وعبدالحكيم قاسم وغيرهم وكان واضحاً أن هذا الجيل يريد كتابة إبداع من نوع مختلف، إبداع يسلّط عدساته على الأسباب التي أدّت إلى الهزيمة، والعوامل التي يمكن أن تؤدي إليها مرة جديدة، ما ظلت الأسباب والعوامل على ما هي عليه. وكان واضحاً، على نحو تدريجي، لي على الأقل، ولغيري في أغلب تقدير، أن هناك تغيراً حدث في علاقات التراتب بين الأنواع الأدبية، في موازاة ما حدث في استجابة هذه الأنواع للواقع، فقد بدأ الشعر يفارق مكانته التقليدية ويفسح السبيل لفن القصة بعامة والرواية بوجه خاص. صحيح أن الشعراء الكبار، نزار قباني ومحمود درويش وأدونيس والبياتي وصلاح عبدالصبور وحجازي، ظلوا على جماهيريتهم التي وصلت إلى درجة استثنائية، جعلت نزار قباني يلقي قصائده السياسية مثل"هوامش على دفتر النكسة"على جماهير غفيرة، ملأت أكثر من مرة استاداً للكرة في تونس وغيرها، وهو أمر ينطبق على شعر محمود درويش نفسه، ولكن مع ذلك بدا المشهد الأدبي الإبداعي مغايراً، سواء في استجابته إلى الواقع، أو إلى علاقات الأنواع الأدبية بالمتلقي الذي أخذت الرواية العربية الصاعدة، تلفت انتباهه شيئاً فشيئاً في المناخ الأدبي المترتب على 1967. وكان من الطبيعي أن تتغير العلاقات التراتبية بين الأنواع الأدبية في ظل هذا الظرف التاريخي المتحول الذي فرض نفسه على استجابة الأنواع إلى الواقع، وعلى العلاقة بالمتلقي الذي صار يفرض احتياجاته الجديدة، وعلى تراتب الأنواع الأدبية نفسها وعلاقاتها الذاتية وبقدر ما فرض المتلقي حاجته إلى فهم العالم الكارثي الذي وجد نفسه فيه، والأسباب التي أدّت إليه، والعلاقات الاجتماعية السياسية والاقتصادية التي أصبح يعيش فيها، والتي تغيرت جذرياً بعد ست سنوات لا غير في حرب 1973، وظهور الطفرة النفطية وما أعقبها من متغيرات قلبت الموازين المتوارثة، ومعها عوامل موازية وملازمة أدخلت الأمة العربية في زمن مختلف، شهد نتائج كامب ديفيد، وقيام الجمهورية الإسلامية في إيران، وفي موازاتها ظهور تأثير إسلام النفظ، والتحالف الأميركي المصري - السعودي للقضاء على الوجود السوفياتي في أفغانستان وانقلاب السادات على الناصرية وتحالفه مع جماعات الإسلام السياسي، كل ذلك وغيره خلق مناخاً قرائياً ودوافع إبداعية فرضت ظهور الرواية وما لازمها من أنواع السرد الذي احتل موضع الصدارة في المشهد الأدبي العربي. وقد دفعني إدراكي لذلك إلى الانتباه الحادث في مجال الرواية التي أصبح يقبل عليها القراء بوجه خاص، طالبين الفهم وإدراك تفاصيل التحول التي أصابت كل مكان في العالم العربي كله وكانت البداية من مصر ولبنان وسورية والعراق، ولكن هذه البداية سرعان ما امتدت إلى العالم العربي كله، وتزايدت صعوداً مع تزايد اتساع الهوامش الديموقراطية التي أفسحت في المجال لدول الأطراف فظهرت الرواية المغربية والجزائرية المكتوبة باللغة العربية بعد أن ظلت محصورة في اللغة الفرنسية بسبب الاحتلال الفرنسي وما فرضه من وضع إبداعي خاص بالكتب الفرنسية في الجزائر بدرجة أعلى وتونس بدرجة أدنى وظلت قوة الدفع تمتد إلى أن شملت أقطاراً خليجية، على رأسها السعودية التي تصاعد إيقاع إبداعها الروائي إلى أن وصل إلى ما وصل إليه اليوم، مكملاً ما حدث في اليمن والإمارات والبحرين وغيرها، وذلك إلى الدرجة التي شمل فيها الإبداع الروائي كل الأقطار العربية، لكن بما يتناسب مع الكثافة الإبداعية والبشرية في كل قطر وتراثه في فن الرواية على السواء. هكذا انتهى بي الاجتهاد إلى إطلاق"زمن الرواية"على هذا الوضع المتحوّل الذي تكاملت نتائجه مع تدافع الإنتاج الروائي وصعود تميزه الكمي والكيفي، ونتيجة وعيي بأننا نعيش في"زمن الرواية"أصدرت عدداً خاصاً من"فصول مجلة النقد الأدبي"بالعنوان نفسه، وأذكر من الذين ساهموا فيه على الراعي الذي سبق أن وصف الرواية العربية بأنها"ديوان العرب المحدثين"وجبرا إبراهيم جبرا الذي كتب، مؤكداً أننا نعيش زمن الرواية العربية حقاً ومحمد برادة، اضافة الى عدد كبير من أعلام النقد الأدبي الذين رحل عنا الكثير منهم، ولا يزال عدد منهم بيننا، متعهم الله بالصحة وطول العطاء ورحم من رحل... وعندما انتقلت إلى أمانة المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة، ابتدأت سلسلة مؤتمرات بعنوان"ملتقى القاهرة للإبداع الروائي"وأهدينا الدورة الأولى لنجيب محفوظ الذي وصل بالرواية العربية إلى العالمية بحصوله على نوبل سنة 1988 وكان الفائز بجائزة الملتقى الأول عبدالرحمن منيف رحمه الله، وذلك بعد منافسة طويلة مع الكاتب الليبي إبراهيم الكوني. ويبدو أنه آن الأوان لتوضيح نهائي لبعض اللبس حول مفهوم"زمن الرواية"، والحق أن"زمن الرواية"يشمل بالضرورة"زمن القصة القصيرة"الذي يلزم عنه ويصاحبه، ذلك أن كلا النوعين يمثل طرفي المتصل السردي أو القصصي الذي تقع الرواية في أقصاه بينما القصة القصيرة في الطرف المقابل، أعني أن لحظة السرد أو القص واحدة في الجوهر، ولكنها مغايرة في المظهر، فإذا تكاثفت هذه اللحظة واكتنزت دلالاتها وطرحت الكثير من المعاني بالقليل من الشخصيات والأحداث، كنا في طرف القصة القصيرة التي تقترب من الشعر في أحيان غير قليلة، وذلك لكثافة لغتها وتركيزها على نقطة بعينها في الزمان أو المكان أو الأحداث. وكثافة لغتها تدني بصلتها بالشعر إلى حال من الاتحاد، وتجعل منها ابنة اللحظات المكتنزة أو المشهد المثقل بالدلالة. أما إذا تطاولت اللحظة السردية وتعددت الشخصيات والأحداث وتعقدت العلاقات بينها في تتابع ينبسط على الزمان الذي يتغير، والأماكن التي تتحول، والدلالات التي تتعاقب وتتراكم كمياً وكيفياً، مع تعدد الأصوات أو توحدها في زمن استرجاع يسعى إلى الفهم، فنحن ندخل عالم الرواية التي تنبسط تفاصيلها أمام القارئ مخاطبة فيه قدرة الفهم والتعرف على العلل والأسباب التي تؤدي به إلى الفهم الذي لا يفارق لحظات متشابهة أو متخالفة من المشاعر والانفعال في مدى السردي الروائي، ولذلك فإن كلمة السرد أو القص تؤكد اللحمة الوثيقة بين فنين، قد تحتاج البراعة في كل منهما إلى ملكتين، أو قد يمنح الله الموهبة للبعض فيجمع بينهما، لكنني لا أعتقد أن هذا ممكن بالقدر نفسه من النجاح في كل الحالات، ودليلي على ذلك نجيب محفوظ ويوسف إدريس، لقد كتب كلاهما الرواية والقصة القصيرة، ولكن رواية نجيب محفوظ ظلت الفضاء الأنسب لقدراته الإبداعية، مع عدم التقليل من قيمة قصصه القصيرة التي كان بعضها القليل"بروفات"لروايات مثلما حدث لقصة"زعبلاوي"التي كانت نواة لرواية"الطريق"وعلى النقيض تماماً يوسف إدريس الذي تتلألأ روائعه في القصة القصيرة بالقياس إلى رواياته التي لا أنكر قيمتها، ولكنها لا تصل إلى مستوى قصصه القصيرة في درجات القيمة الإبداعية. والأمر نفسه ينطبق على مقارنة بسيطة بين زكريا تامر وحنا مينه في سورية، وذلك في موازاة تميز بلزاك، مثلاً، عن غي دي موباسان وكلاهما كتب روايات وقصصاً قصيرة، فهناك من تصل كثافته السردية إلى رهافة تدني بها من الشعر، وهناك من تمتد موهبته السردية في سعيها إلى الفهم المتأني من خلال تعاقب الأحداث والشخصيات المتصارعة أو المتوازية... وهكذا. هذا المتصل السردي الأفقي يتعامد عليه متصل سردي رأس، يتوزع طرفاه ما بين السيرة الذاتية ورواية السيرة الذاتية وتقع بينهما تدرجات لا تفارق المتصل نفسه، وتتراوح ما بين المذكرات والاعترافات أو الكتابة عن فترة بعينها من الحياة قد تكون فترة التكوين التي تقودنا إلى"رواية التكوين"أو فترة منفى في"رواية منفى"أو فترة اعتقال قسري، أدى إلى"رواية السجن"التي أصبحت ظاهرة دالة في زمن الرواية العربية مع السبعينات وفي منحنى البحث عن أسباب هزيمة 1967، ويمكن أن نضيف إليها رواية هجرة المقموعين إلى بلاد الثروة النفطية التي أنتجت نمطاً بعينه من كتابة الرواية يقع ضمن متصل السرد الرأسي المتقاطع مع المتصل الأفقي الذي يصل، بقدر ما يباعد، ما بين الرواية والقصة القصيرة. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فلماذا نستخدم صيغة"زمن الرواية"بدل"زمن السرد"أو حتى"زمن القصص"، المبرر هو أنني أستخدم"زمن الرواية"على سبيل المجاز المرسل للدلالة بالأكبر على الأصغر، وبالأصل على الفرع، وبالأشهر على الأقل شهرة، فالرواية كما قال نجيب محفوظ بحق هي شعر الدنيا الحديثة، والفن الأدبي الأكثر استجابة إلى مطالب الفهم والتعرف على العلل والأسباب التي تؤدي إلى الأزمات الكبرى والكوارث الكبري، خصوصاً في لحظات التحول التاريخي كتلك اللحظة الكابوسية التي نعيش فيها بعد سقوط الأيديولوجيات والسرديات الكبرى.