العلاقة بين الشعر والرواية، هي العلاقة نفسها بين الأجناس الأدبية كافة، علاقة تغاير، وتعارض، وتكامل. فهما متغايران بما يتصفان به من تكوين داخلي، وهذا التكوين الذي يخالف بينهما ناتجٌ عن العنصر البنائي المهيمن في كل منهما، وهو ما اتخذه الشكليون الروس مبدأ وصف التنوع والاختلاف بين الأجناس الأدبية. وذلك في الرواية ماثلٌ في السرد، أي في الشكل الذي يوالي نَقْل الأحداث والأفعال والأقوال بترتيب ما. أما في الشعر فماثل في الاشتغال على اللغة، بما يُنْتِج لعباً على الدلالة بالانزياح، وشكلاً منتظماً صوتياً. لكن علاقة التغاير هذه بين الشعر والرواية مقترنة بعلاقة تعارض بينهما، وهي علاقة تجسد توتراً، بسبب التغاير بينهما على أرضية مشتركة، أو بعبارة أخرى بسبب انطوائهما على عناصر تَشَارُك شكلي ووظيفي وعلائقي، إلى جانب عناصر التغاير وعلى رغمها. وناتجُ هذا التوتر أو التعارض تلك الخصومة القديمة الجديدة بينهما على الأفضلية والقيمة، وعلى الفاعلية والجمالية، وحديثاً قال العقاد -مثلاً- مدللاً على هذا التعارض المتوتر: «إن قنطاراً من القصة يساوي درهماً من الشعر، وإن القصة في معدنها دون الشعر في معدنه، لأن النفاسة هي أن يساوي الشيء القليل الشيء الكثير». وقد رد عليه نجيب محفوظ، منتصراً للسرد، ومفضلاً القصة، بتوتر تدلل عليه صيغة التهوين من موقع الشعر ووظيفته، في قوله: «لقد ساد الشعر في عصور الفطرة والأساطير، أما هذا العصر، عصر العلم والصناعة والحقائق، فيحتاج حتماً لفن جديد، يوفِّق على قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنينه القديم إلى الخيال، وقد وجد العصر بغيته في القصة، فإذا تأخر الشعر عنها في مجال الانتشار، فليس ذلك لأنه أرقى من الزمن ولكن لأنه تنقصه بعض العناصر التي تجعله موائماً للعصر، فالقصة على هذا الرأي هي شعر الدنيا الحديثة. وسبب آخر لا يقل عن هذا في خطره وهو مرونة القصة واتساعها لجميع الأغراض، مما يجعلها أداة صالحة للتعبير عن الحياة الإنسانية في أشمل معانيها». ودلالة التعارض بين السرد والشعر في هذا التحاور المتوتر، واضحة من جهة الكمية أو الحجم التي يتعارض فيها الطول والإيجاز، عند العقاد، ومن جهة الوظيفة في اتصالها بالزمن؛ فالتعارض من هذه الوجهة قائم -لدى نجيب محفوظ- بين القدم والبدائية التي يصف بها تكوين الشعر، والحداثة والعصرية في القصة، ومن جهة الاتساع والتنوع؛ فالقصة تتسع لأغراض مختلفة، والشعر يضيق بها. وبالطبع فإن مدى هذا التوتر واسع من وراء العقاد ونجيب محفوظ ومعهما، وقد أوردت شواهده في كتابي «القارئ القياسي»، لكن المهم هنا أن نفهم دلالته من حيث انبناؤها على التفاضل والتراتب، وهذا في حد ذاته سبب قوي للتوتر الذي يؤكد علاقة التعارض بين النوعين الأدبيين، ويستبدلها بأي علاقة اختلافية تتيح من التقارب أو التباعد ما لا يفضي إلى توتر وتهاج. أما علاقة التكامل بينهما، فهي ناتج طبيعتهما الأدبية، فهما فنان قائمان في صيغة لسانية، ويتعاونان في الاستجابة لملكات الرغبة والتعرف والإحساس والإبداع الجمالي التي تؤصِّل الأنواع الأدبية في علاقة الوعي الإنساني بها. ولهذا لا يمكن أن نتصور الرواية خالية من الشعر كما لا يمكن أن يخلو الشعر من السرد. ففي كل سرد إبداع للمعنى ورؤيا وتأمل ووصف، وفي كل شعر إسناد زمني، والزمن هو الذي يسرِّد السرد، أعني أن السرد دوماً تنظيم لأفعال في الزمن، وزاوية الزمنية هذه هي السردية أو الروائية، وشعرنا العربي منذ الوقوف على الأطلال وحديث امرئ القيس عن دارة جلجل زاخر بالسرد. إن وجهاً من العلاقة بين الشعر والرواية في عصرنا الحديث، ينبع من قراءتهما في ضوء العلاقة بينهما في تراثنا النقدي. وهنا تدور العلاقة على محور الأصيل-الدخيل، والقديم-الجديد؛ فالرواية شكل أدبي سردي، ولكنه شكل مخصوص سردياً لا تشبهه الأشكال السردية في تراثنا، وذلك بخلاف الشعر الذي بدا أن العرب لم يعرفوا فناً سواه، واستقر له وصف عبد الله بن عباس (رضي الله عنه): «الشعر ديوان العرب»، لتتداوله القرون بما يؤكد ما يتضمنه من وجهين: الوصل بين الشعر والأمة-العرب، وبين الشعر والديوان وهو سجل الكتابة ومدونتها التي تغدو ذاكرة وأرشيفا ثقافياً، وهذان وجهان سارا مسار المديح والإعلاء من شأن الشعر في وجْهَة التأكيد على الرسمي والنخبوي والتوجيهي. لكن هناك علاقة أخرى في تراثنا بين الشعر والسرد تدور على محور الشعبي-الرسمي، والهامشي-المركزي، والعامي-النخبوي؛ فالشعر لم يعد يقول إلا قليلاً عن العرب الذين تطورت دلالة هذه اللفظة عليهم في ظل امتداد الدولة الإسلامية، فأصبحت –إجمالاً- في مؤدى دلالة الناس أو الشعب أو مواطني دولة الخلافة. وهنا أصبح الشعر رسمياً ومركزياً ونخبوياً لأنه غالباً في دائرة السلطة الزمنية راغباً أو راهباً، وليس هناك شاعر كبير أو مذكور في سياق الفحول بحسب مصطلح القدامى لا يمثل تلك الصفات الثلاث. وأتصور أن دلالة الشعر على ديوان العرب لا تصدق بالمعنى الذي يناسب سياق الوصف له عند ابن عباس إلا في العصر الجاهلي، ليس لأن الشعر فيه هو الفن الوحيد ولكن لأنه الفن الوحيد الذي ضمن الرواة بحفظه شفاهياً نصيته، تلك النصية التي هي وجه مديحه عند ابن عباس لأنه يستعين به على تفسير القرآن. أما السرد فكان -على عكس ذلك- شعبياً وهامشياً وعامياً؛ فهو شعبي لأنه متصل بخيال الجماعة وتجربتها، سواء افتقدنا المؤلِّف (وهذه هي الصفة الاصطلاحية أكاديمياً لوصف الأدب بالشعبي) وهي صفةُ كثيرٍ من السرد القديم الذي تفرَّق في ألسنة الرواة والكتب الجامعة من الأسمار والأخبار والخرافات وقصص الأمثال... إلخ أو اجتمع في مطولات سردية، تحكي ملاحم العشق والبطولة وأعاجيب الخيال الشعبي، أم كان المؤلف مُعلَناً ومعيَّناً بفرديته لأن الشعبية عندئذ هي ناتج الموضوع والمحتوى السردي ووجهتهما. وهو هامشي لأنه يتناول الهامش الإنساني والحواشي اليومية الكادحة والمبتذلة بعيداً عن مركزية الثقافة والسلطة الزمنية. ومثل ذلك وصفه بالعامي، فقد كان خارج سلطة الحقل العلمي اللغوي والأدبي. إن الاهتمام بالسرد في تراثنا -خارج سلطة النخبة ومركزية المؤسسة الزمنية- يكشف عن مشكل أساسي في تراثنا من جهة الوعي بالذات-الهوية، ومن منظور المعرفة البلاغية والنقدية الأدبية. فالسرد مُحاصَر لأنه ينمِّي حاسة النقد الاجتماعي الثقافي، ويَرْقَى بالوعي تجاه الذات، ويُنْطِق البؤساء والمقموعين... إلخ والمعرفة التراثية الأدبية والبلاغية لم تستطع مجاوزة المفردة والجملة أو البيت الشعري إلى الكلِّية التي يحتاجها السرد من حيث هو حبكة أحداث. لذلك احتفلت الثقافة العالمة في تراثنا بالشعر وتوالت الكتب والمؤلفات التي توثِّقه وتجمعه وتدونه وتختار منه وتشرحه وتؤرخ له وتنقده، بما أدى إلى تضاعف الإحساس بهامشية السرد ومركزية الشعر في الثقافة العربية. وهذا الوعي بالتراث انسحب حديثاً على منظور العلاقة بين الشعر والرواية؛ فما يزال الموقف الشعري يرى أهميته بناء على تاريخه الطويل، ويرى هوان الرواية ودونيتها من الزاوية الأدبية التراثية نفسها التي تحتقر الهامشي واليومي والواقعي. لكن الموقف الشعري نفسه تغيَّر جوهرياً بالنزوع إلى الهامشي واليومي والواقعي، وقصيدة النثر خصوصاً كانت حفية بهذا الفضاء، وهو ما رأيناه علامة امتياز لبعض شعراء قصيدة التفعيلة، منذ الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وهذا يعني أننا بصدد علاقة جدلية وحوارية بين الشعر والرواية تضاف إلى قائمة العلاقات بينهما، وتدفعهما باتجاه تعزيز طاقاتهما الجمالية، في مدى أكثر دلالة على التكامل.