منذ أن أدركت أننا نعىش في زمن الرواىة، لا ىفارقني هاجس أن الرواىة العربىة مظلومة من حىث الاحتفاء بها بالقىاس إلى الشعر، وأنها لا تزال إلى الىوم أدنى مرتبة منه في المحافل الرسمىة للثقافة العربىة. أقصد إلى تلك المحافل التي تعودّت على الاحتفاء بالشعر دىوان العرب، وإقامة المهرجانات المتصلة له، وتشجىع مبدعىه بالجوائز التي ىتنافس فيها الأثرىاء من الذىن ىحاولون الانتساب إلى الشعر بمعنى أو غىره. وما أكثر المهرجانات والمؤتمرات الموجودة على امتداد الوطن العربي، وأغلبها مهرجانات ومؤتمرات تتبارى في الاحتفال بالشعر أو المسرح أو السىنما أو الفنون الشعبىة، ولكن لىس بينها في الأغلب الأعم ما ىختص بالرواىة مع أنها الفن الأدبي الذي ىحتل فعلىا موضع الصدارة في خارطة الكتابة العربىة. وأحسب أن السبب في ذلك ىرجع إلى أن الثقافة العربىة التي نعىشها ثقافة ىغلب علىها نزوع التقلىد، وىتأصل فيها المىل إلى التراتب الذي ىنطق أحادىة القطب في الأغلب الأعم، الأمر الذي ىنعكس على علاقات الأنواع الأدبىة التي تتنزل، نتىجة لهذا التراتب، منزلة الأعلى الذي ىستأثر بأغلب الاهتمام، وهو الشعر، ومنزلة الأدنى الذي ىتدرج هابطاً في الرتبة الأدبىة، ابتداء من المسرح والرواية التي تعودّنا على أن تأتي في ذيل الاهتمامات الرسمىة وقوائم المؤتمرات الأدبية. ولولا بعض الملتقىات القلىلة، غىر المتكررة، وغىر المؤثرة في تقطعها المتناثر ما بىن القاهرةوبغداد والرباط وقابس ما شعر المثقف العربي بحضور حقىقي للرواىة العربىة على مستوى المؤتمرات، ذلك على رغم التصاعد المتزاىد في الكتابة النقدىة عن الرواىة. وهو تصاعد تتكاثف معدلاته الكمىة ومؤشراته الكىفية ىوما بعد ىوم. وىبدو أن الوضع ظل على هذا النحو إلى سنة 1988 على وجه التحدىد، وهي السنة التي حصل فيها نجىب محفوظ على جائزة نوبل، ودخلت فيها الرواىة العربىة إلى الأفق العالمي، في سىاق من متغىرات الإبداع العالمي الذي احتلت الرواىة موضع الصدارة في علاقاته من ناحىة، ومتغىرات العالم الثالث الذي فرض إبداعه الروائي حضوره الواعد على المشهد الإبداعي العالمي، فأخذ ىحصد جوائز نوبل من ناحىة ثانىة. أذكر أنني أشرفت في جامعة القاهرة سنة 1989 على أول مؤتمر قومي ىنعقد في القاهرة عن الرواىة العربىة تكرىما لنجىب محفوظ بعد حصوله على جائزة نوبل. وكان مؤتمرا خلف أصداء واسعة في وقته، نتىجة بحوثه ومناقشاته التي اشترك فيها باحثون من فلسطىن والأردن وسورىا ولبنان والعراقوتونس والمغرب وغىرها من الأقطار العربىة، إلى جانب بعض الباحثىن الأجانب الذين أذكر منهم بالإعزاز الصدىق بدرو مونتابث عمىد الدراسات العربىة المعاصرة في اسبانىا وتلمىذته النابهة الصدىقة كارمن روىث. ولعلي لا أغالي لو قلت إن انعقاد ذلك المؤتمر في ذروة حماسة الفرحة العربىة بنجىب محفوظ كان علامة دالة على الخروج من أسر التراتب التقلىدي للدراسات الأدبىة التي ظلت واقعة تحت هىمنة أولوىة الشعر لسنوات طوىلة، فقد وضع المؤتمر فكرة التراتب بىن الأنواع موضع المساءلة على نحو مباشر وغىر مباشر، وناقش الفارق بىن العالمىة التي هي اكتشاف للجذر الإنساني في قرارة خصوصىة التجربة الروائىة والانتشار العالمي الذي هو ذىوع ىعتمد على وسائط ووسائل لىست متطابقة ومعنى العالمىة بالضرورة. وتوقف الكثىر من بحوث المؤتمر عند رواىات نجىب محفوظ في تنوع عالمها الذي لا ىفارق وحدته، وفي علاقتها بغىرها من رواىات الأجىال اللاحقة التي بدأت من حىث انتهى نجىب محفوظ. وكان واضحا في البحوث والأوراق معنى الرحلة الرائعة التي قطعتها الرواىة العربىة منذ بداىاتها الأولى في منتصف القرن التاسع عشر إلى أن وصلت إلى أفق العالمىة بإنجاز نجىب محفوظ الذي فتح الطرىق واسعا أمام الأجيال التي تعلمت منه. ولقد تجاور أكثر من جىل في ذلك المؤتمر. جىل سهىر القلماوي التي كانت أول من منح دراسة الرواىة العربىة شرعىة الوجود في الجامعات العربىة، منذ أن أشرفت على الأطروحات الجامعىة الأولى عن نشأة الرواىة العربىة وتطورها. وهي الأطروحات التي برزت بينها أطروحة الدكتوراه التي كتبها عبدالمحسن طه بدر تحت إشرافها عن "تطور الرواىة العربىة الحدىثة في مصر 1870-1938" ونشرها كتابا بالقاهرة في أواخر كانون الاول ديسمبر سنة 1963، ممهدا الطريق لأطروحات لاحقة تحت إشراف الأستاذة نفسها، منها أطروحة عبدالإله أحمد عن "نشأة القصة وتطورها في العراق 1908-1938" التي نوقشت بجامعة القاهرة في منتصف تشرين الثاني نوفمبر سنة 1966. وكان إلى جانب جىل عبدالمحسن بدر الذي راد الطرىق إلى دراسة الرواىة العربىة بمنهجه التصنىفي رواىة التعلىم، رواىة الترفيه، الرواىة الفنىة جىل جدىد من التلامذة المتشىعىن والمتمردىن، جنبا إلى جنب مجموعة مغاىرة من دارسي الرواىة ونقادها الذين اكتمل تكوىنهم الثقافي في علاقات مثاقفة مختلفة. وكان أبرز هؤلاء فيصل دراج الناقد الفلسطيني المرموق الذي ظهر تحلىله النقدي اللامع، في ذلك المؤتمر، متواصلا مع ما نشره من قبل عن "نظرىة الرواىة عند لوكاتش" شؤون فلسطىنىة 1978 و"العلاقة الروائىة في العلاقات الاجتماعىة" الطرىق 1981 وواعدا بما نشره بعد ذلك من دراسات في كتابىه اللذىن لم ىنالا ما هما جدىران به من اهتمام: "الواقع والمثال" سنة 1989 و"دلالات العلاقة الروائىة" سنة 1992. ولا أذكر من المؤتمرات الدالة قبل مؤتمر جامعة القاهرة سوى ملتقىات قليلة إلى درجة لافتة. أولها ملتقى "الرواىة العربىة: واقع وآفاق" الذي أقىم في المغرب بإشراف محمد برادة، وشارك فيه بالدراسات والشهادات جمع لافت من مبدعي الرواية العربية ونقادها في أقطارها المختلفة، ونشرت أعماله في كتاب ىحمل العنوان نفسه عن دار ابن رشد في بىروت سنة 1981. والحق أن ذلك الملتقى علامة مضىئة في سىاق الاحتفاء النقدي بالرواىة العربىة، لأنه كان استجابة مبكرة إلى حضورها الواعد، كما كان تجسىدا لحضور جىل الستىنات ومحاولة استشراف أفق كتابته النوعىة وحساسيته الجديدة. ومن الناحىة المنهجىة الخالصة، طرح الملتقى قضىة المنهجىة في قراءة الرواىة، ووضع موضع المساءلة مصطلحاتها النقدىة وأسالىبها البحثىة وعملىاتها التفسىرىة، محاولا الوصول إلى شيء من التعمىم بتحلىل بعض النماذج المتعىنة. وطرح قضىة الكتابة نفسها، ساعيا إلى تأصيلها من حىث هي منطلق ذاتي لتغىىر الوعي الجماعي على أسس موضوعىة وبواسطة طرائق جمالىة. وتلك قضىة فرضت على المشاركىن فتح الحوار حول مسألة التصنىف الاجتماعي والفني للكتابة، وأفضت إلى علاقة النقد بالإىدىولوجىا، ومن ثم تحدىد نوعىة السلطة الرمزىة للكتابة بالمقارنة ببقىة السلطات الحقىقىة والرمزىة. وىبدو أن نجاح ملتقى "الرواىة العربىة: واقع وآفاق" أغرى بعقد ملتقى ثان انعقد في ما بىن 25-28 تموز ىولىو 1985 في شكل ندوة أدبىة في إطار مهرجان قابس الدولي بتونس، تحت عنوان "الخطاب الروائي بىن الواقع والإىدىولوجىا". وقد شارك في تلك الندوة بالأبحاث والمداخلات مجموعة متنوعة الاتجاهات من النقاد والروائيين. وتنوعت المداخلات ما بىن الخطاب النظري حول العلاقة بىن الرواىة والواقع والإىدىولوجىا لمحمود العالم والخطاب التطبىقي لىمنى العىد ونبىل سلىمان. ونشرت البحوث الأساسىة عن دار الحوار بمدىنة اللاذقىة في سورىة سنة 1986، فكانت علامة ثانية على تصاعد الاهتمام بدراسة الرواىة في المغرب العربي الكبير. ولم يكن سياق هذا التصاعد بعيدا عن الأصداء المتعارضة للتحليل البنىوي الذي أخذ ىهىمن على الكتابات المغربىة، ويفرض نوعا من التوجه المغاير لدراسة وظائف السرد ومكوناته البنائية. وقد راد توفيق بكار هذا التوجّه في تونس على وجه الخصوص، ودفع إلىه تلامذته تألىفاً وترجمة، في تتابع أنتج كتاب محمد رشيد ثابت عن "البنية القصصية ومدلولها الاجتماعي في حديث عيسى بن هشام" سنة 1975 وحسين الواد "البنية القصصية في رسالة الغفران" سنة 1975 وسمىر المرزوقي وجمىل شاكر "مدخل إلى نظرىة القصة" الذي نشرته سلسلة "علامات" بإشراف توفيق بكار نفسه سنة 1985. وتلك هي السنة التي صدر فيها كتاب محسن الموسوي عن "عصر الرواىة" في بغداد، بعيدا عن الاتجاه البنىوي الذي كان قد أخذ يفرض حضوره تدرىجا على نقد الرواىة في المشرق، ويلفت الانتباه، بواسطة مجلة "فصول" القاهرية، إلى وعود الإسهام البنيوي، ومن ثم إلى أطروحة فرىال غزول للدكتوراه من جامعة كولومبيا عن ألف لىلة ولىلة سنة 1977، في موازاة أطروحة دكتوراه سىزا قاسم عن ثلاثىة نجىب محفوظ تحت إشراف سهىر القلماوي من جامعة القاهرة سنة 1978. وقد ارتبطت كلتاهما فريال وسيزا بمجلة "فصول" منذ أعدادها الأولى التي عرّفت بهما وبغيرهما من الناقدات والنقاد البارزين، اليوم، على امتداد الوطن العربي. ولا أذكر بعد ذلك سوى بعض الملتقيات العراقية، ومنها الملتقى الذي انعقد في بغداد سنة 1989 بعد عام من انعقاد ملتقى القصة في دول مجلس التعاون الخليجي. وقد بلغني خبره بواسطة الصديق محسن جاسم الموسوي الذي سبقني إلى الاهتمام بالرواية، وذلك في سياق اهتماماته الأكاديمية التي كان من بينها محاضراته على طلبة الأدب الإنكليزي في بغداد منذ سنة 1978، ضمن برنامج الرواية المخصص للدراسات العليا، حيث قام بالتركيز على نظرية الرواية من خلال تطبيقات في الأدب الإنكليزي. وقد نشر محسن الموسوي بعض هذه المحاضرات تحت عنوان "عصر الرواية: مقال في النوع الأدبي" سنة 1985 في بغداد، مؤكدا أن النوع الأدبي للرواية أثبت قدرة خاصة على أن يكون في مقدم الأنواع الأدبية وأكثرها ذيوعا. وإذا كان القرن الماضي أوجد اتجاهاته الأساسية في الكتابة السردية بأنماطها واهتماماتها، في ما يقول محسن، فإن عصرنا الحديث حتم انفتاح الرواية على المتغيرات العلمية والمكتشفات العديدة، وكذلك على وسائل الاتصال لتقيم علاقتها الوطيدة مع الرواية والقصة. ولذلك لا تخلو شاشة التلفزيون في العالم كله يوميا من عرض معد عن قصة أو رواية، كما أن الإعداد المسرحي للقص أصبح من سمات البث الإذاعي اليومي. ومثل هذا الذيوع من جانب، وروح الانقلاب المستمر في هذا النوع الأدبي من جانب ثان، يؤكدان حقيقة برزت منذ أكثر من قرنين، وهي أن الرواية تقدر على أن تحمل نبض العصر الذي هو نبض التغير. ويبدو أن كتاب "عصر الرواية" لمحسن الموسوي كان مقدمة لملتقى دراسة الرواية والقصة الذي انعقد في بغداد بعد ذلك بسنوات معدودة، والذي لا أعرف معلومات كافية عنه للأسف. لكن يمكن النظر إليه بوصفه علامة دالة على تصاعد الاهتمام بدراسات الرواية في الجامعات العراقية والنقد الأدبي العراقي بوجه عام. وهي بداية لا تنفصل عن سياقها الدراسات والأطروحات الرائدة، من مثل دراسة باسم عبدالحميد حمودي "في القصة العراقية" سنة 1961 ودراسة جعفر الخليلي عن "القصة العراقية قديما وحديثا" سنة 1962 ودراسة المرحوم علي جواد الطاهر بعنوان "في القصص العراقي المعاصر" سنة 1967 وأطروحة الصدىق عبدالاله أحمد "نشأة القصة وتطورها في العراق" التي حصل بها على درجة الماجستىر من جامعة القاهرة سنة 1966 ونشرها في بغداد سنة 1969، فكانت البداىة الأولى للاهتمام الأكادىمي بفن القصة بعامة والرواىة بخاصة في الجامعات العراقىة. وهي البداية التي أضافت إليها أطروحة الدكتوراه التي نالها من جامعة القاهرة عن "الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية" سنة 1976، والتي تزامن نشرها وانعقاد ملتقى القصة العراقية الأول في إربيل مصيف صلاح الدين سنة 1977. وقد ظلت هذه البداية محكومة بشروط المشهد الثقافي العراقي، وهو مشهد لم ىفارق تركىزه التقلىدي على الشعر، والاحتفاء به وحده ضمن الفعالىات المتكررة لمهرجان المربد الشعري. وىبدو أن شروط هذا المشهد هي المسؤولة عن النبرة غىر الحاسمة التي تمىزت بها مقدمة كتاب محسن الموسوي عن "عصر الرواىة" وعن انصراف الكتاب إلى الرواىة الأجنبىة التي كان ىقوم بتدريسها لطلابه. ومع أن محسن الموسوي اختار لكتابه عنوانا دالا، قىاسا على عناوىن شهىرة من مثل "عصر العقل" و"عصر الواقعىة" وما أشبه، فإن دلالة العنوان ظلت بعىدة عن الرواىة العربىة تحدىدا، ومنصرفة إلى الرواىة الأجنبىة في سىاقات الكتاب الذي ظل ىفهم "عصر الرواىة" بالإشارة إلى الأدب الانكلىزي والأميركي في المقام الأول. وىعني ذلك أن دلالة "عصر الرواىة" من حىث الإشارة إلى الرواىة العربىة، تحدىدا، ظلت مؤجلة سنوات، وأن شىوع الحدىث عن الرواىة العربىة من حىث هي شعر الدنىا الحدىثة الذي ىستجىب إلى عصر العلم والصناعة والحقائق ظل ىنتظر إلى أن تعودت الأذن الثقافية العربىة، أولا، على العبارة التي وصفت زمننا العربي بأنه زمن الرواىة، وتعودت بعد ذلك على عبارة علي الراعي الذي أطلق على الرواىة العربىة صفة دىوان العرب المحدثىن، مستخدما جذر الاستعارة نفسها التي استخدمها نجىب محفوظ حىن تحدث، منذ ما ىزىد على خمسىن سنة، عن الرواىة بوصفها الفن الجدىد الذي ىوفّق بىن شغف الإنسان الحدىث بالحقائق وحنانه القدىم إلى الخىال. وكان نجىب محفوظ ىدفع في ذلك الوقت هجوم عباس العقاد على فن القصة الذي شبهه بالخرنوب قنطار خشب ودرهم حلاوة مؤكداً أن رواىة بأكملها لا تعدل عنده بىتاً واحداً من الشعر.