دائماً ما تفتح الحوارية الفكرية المتألقة بين جدليات المادية الغربية والايحاءات الروحية للشرق آفاقاً ممتدة خاض الكثيرون غمارها لكن قلة منهم استطاعت أن تبلور أبعادها في إطار علمي صارم، كان منهما الدكتور رشدي فكّار المعروف في ساحة الفكر العالمي بإسهاماته المتميزة التي وضعته في مصاف المتخصصين في أصول الحضارة العالمية المعاصرة، فهو بحق كما يذكر عنه دائماً ليس من حضارة الغرب بالفضولي ولا من حضارة الإسلام بالدخيل، نظراً لموضوعيته ونزاهة فكره، وعمقه، فما حُسب على أحد ولا انطوى تحت لواء المسببات المفتعلة. وكانت ساحة الفكر في حضارة الغرب قد اكتشفته حينما انتخب عضواً مشاركاً في أعرق الأكاديميات العلمية الفرنسية التي اختارته لدائرة ما وراء البحار بأكاديمية العلوم بفضل مؤلفاته عن الفكر الإنساني السانسيموني في الغرب، وفرنسا هي مهده، ومنها عمّ كل القارة الأوروبية، كما اختير عضواً في الأدلف الهيئة العالمية للكتاب بالفرنسية وكذلك اختارته السويد عضوا في جمعية حفظ تراث عميد مفكريها أوغست ستراند برغ رائد المسرح الباطني. واستمر عطاؤه متجدداً وموضع اعتزاز في الساحة العربية والعالمية باعتباره رافداً من روافد الفكر وقادته في القرن العشرين، وظل كذلك متعادلاً في تواضعه بقدر ما هو متعادل في عطائه الموسوعي المتميز في الحضارتين الإسلامية والغربية المعاصرة. وعلى ذلك فقد عرفته حضارة الغرب المعاصرة كأحد كبار المتخصصيين في أصولها باسهاماته في مناقشة وتحليل وتفنيد النظريات الوضعية التي ارتكز عليها الغرب في إقلاعه النهضوي المعاصر من السانسيمونية إلى الكونتية والماركسية والتطورية الطبيعية لداروين والتطورية الاجتماعية لسبنسر متخصصاً في علم الإنسان بمحاوره الثلاثة الأساسية: محور الأغوار شعورياً ولا شعورياً علم النفس ومحور الإنسان علائقيا في المجتمع كمؤثر ومتأثر علم الاجتماع ومحور الأنثربولوجيا الاجتماعية والثقافية. ثم تجلت الاجتهادات المهمة في تطور الفكر الاجتماعي والإنساني في وسط أوروبا واسكندينافيا وروسيا حتى الأرجنتين وارتداد الفكر التقدمي في الولاياتالمتحدة الأميركية بعد تجربة كابيه وغير ذلك من الإضافات العلمية الخلاّقة التي فرضته كمرجع أساسي في الحضارة الغربية المعاصرة والحضارة الإسلامية باعتباره ممثلاً لتيار الحوار العالمي والفكر الإنساني والتعارف والتآلف بين الشعوب. واتجهت رؤاه نحو حضارة القرن العشرين كحضارة كونية أو أخطر حضارة عرفها تاريخ الإنسان أو حضارة الإنسان في غيبة الإنسان من أجل مزيد من رفاهيته وإسعاده!! وأن هذه الحضارة لا ينبغي النظر إليها على أنها تمثل طفرة إعجازية أتت على غير مثال لأنها نتاج مسار طويل ورحلة مهيبة عبر التاريخ أسهمت فيها الحضارة الشرقية القديمة والحضارة الإغريقية اللاتينية ثم الحضارة العربية الإسلامية لكن ماذا أضافت هذه الحضارة الغربية تتويجاً لعطاء هذه الحضارات؟ وما فضيلتها التي حققت بها السيادة الكونية في هذا العصر؟ بعيداً من أي محاولة للغض منها أو التهوين من شأنها نقول إنها أنتجت روائع المنجزات التكنولوجية والمعلوماتية وأحدث أساليب وطرائق ومعالجات الواقع الحياتي، ولكنها أيضا أنتجت إنساناً متمرداً شقياً واعياً أنجز في مختلف الميادين وقنن نظريات وضعية واعتبرها بدائل للميتافيزيقا والأديان واستأنس الظواهر الطبيعية وحلّق في الفضاء وتنّزه على سطح القمر واختزل الأزمنة والأمكنة. إنه إنسان الكومبيوتر والذرة وهو أيضا إنسان الشذوذ والمعاناة النفسية والانتحار!! ولن يخرج كل ذلك عن كونه إطاراً خاصاً من وحي حضارة الأزمة أو أزمة الحضارة. لكن الحقيقة التي يجب الوقوف الطويل أمامها هي تلك الصيغة الحوارية العميقة التي أقامها فكّار بين الحضارة الغربية والفكر الإسلامي الذي تمثله الحضارة الإسلامية على أساس أنه لا يمكن عزل الإرهاصات الأولى لحضارة الغرب عن المنابع والمصادر الإسلامية وأن السيادة الحضارية للغرب الآن لا تعني بالضرورة السيادة على الماضي أو السيادة على المستقبل، وإذا كان الحوار كمبدأ هو المعيار الأساس الذي ارتكزت عليه مباد??ىء الإسلام فإن الحضارة الغربية تعيش عصراً يعترف بالحوار ويرى ضرورته، ذلك فضلاً عن أن الإسلام يعتبر من بين المرشحين للمرحلة المقبلة في إطار لحظات التأزم التي عايشتها الماركسية اللينينية إزاء التحولات الكبرى في العالم. ومن خلال النظرية الحوارية الإسلامية التي تواجه فيها فكّار مع نظريات وتيارات الغرب بأسرها، لم يلاحظ تفوق أي من هذه التيارات الفكرية للمواجهة الواضحة والصريحة أمام الإسلامية المستنيرة بأغوارها المختلفة ومن دون أن تسجل مجرد ملاحظات أو مآخذ يمكن أن تكون محل نظر والتفات، لأنها سقطت تباعاً وما زال الإسلام بقدراته ووحيه يتواجه بموضوعية مع الأطروحات التي تشغل ساحة المدارس المعاصرة تأكيداً على أن ليس للإسلام كمبادئ وقيم خالدة قضية تذكر في نهاية القرن العشرين وما تبعه. ويدخل ضمن المغالطات التي يكشفها فكّار بروعة وحذق نادرين في إطار نظريات الهيمنة والاحتواء لأمة الإسلام أن الغرب يسقط تخلف المسلم المعاصر على الإسلام فيجعله يتخلف ويضطر المسلم ذاته أن يبحث عن البديل في مذاهب أخرى يمليها عليه خصومه ثم يقولون له أين أنت بين الأمم؟ لا شيء إذن أنت الإسلام المتخلف!! بينما هم يعلمون حقاً وصدقاً ويقيناً أنه غير متخلف بذاته ولكنهم يحاولون أن يقنعوه بأن يعمم تخلفه على إسلامه حتى يضيعوا على الأجيال المقبلة فرصة الإنقاذ والإقلاع بينما سر تخلف المسلم أنه في قطيعة مع ذاته الإسلامية قبل قطيعته مع عصر الآخرين، غاب عنه النص والجوهر الروحي واحتفظ بالشعارات والشكليات وزعم أنه خير من يمثل الارتقاء على الإطلاق بذلك على رغم تناقض ممارساته الحياتية مع تعاليم الإسلام ومثله العليا. وما دامت هذه هي وضعية المسلم وحضوره المتضائل فإنهم يتساءلون بدهاء شديد: هل يمكن لعقل القرن العشرين أن يسلم بصلاحية الإسلام وكيف؟ وهم يطرحون ذلك من أجل تصعيد موجات الشقاق والخصومة بين المسلم وعقيدته ثم التشكيك في هويته وكينونته التاريخية وجعله كائناً مشوهاً يعيش وسط تطورات دولية وإقليمية واتحادات وتكتلات سياسية واقتصادية وصراعات تكنولوجية وتنظير علمي أيديولوجي لكن لا حول فيها ولا طول لأنه هامشي لا ثقل له. إنهم يقولون ذلك باسم الإيمان المطلق بالعلم ونظرياته ومناهجه وكفراً بالأساطير والميثولجيات، وكأنهم أرادوا أن يفتعلوا إسلاماً خاصاً. وضمن الرؤية المستنيرة الواعية للدكتور فكّار أنه إذا كانت الحضارة الغربية الآن لها خصائص تميزها تميزاً حاداً عن غيرها من الحضارات السابقة لكنها في حقيقة الأمر هي حضارة بلا هدف إذا قيست بهدف الحضارة الإسلامية نحو إنقاذ الإنسان من غروره وزهوه وسوء توظيفه لذاته وانقاذه من تسلط واستحواذ جانبه المادي على جانبه النفسي والروحي، حتى أنهم يعلنونها الآن صريحة واضحة أنهم متجهون إلى مآلية المأزق. * كاتب مصري. نشر في العدد: 16927 ت.م: 08-08-2009 ص: 22 ط: الرياض