ليس لعالمنا العربي الإسلامي من سبيل إلى الحضارة الا بارتياد آفاق معرفية جديدة، تؤسس للاقلاع والانطلاق، وتؤكد الذاتية المطموسة المهدرة في خضم المتغيرات اللحظية. آفاق تعمل على تحديث العقل الإسلامي مبددة لاشكالياته مطيحة بطبيعة العقل العتيق الذي حذف المفردات المعاصرة كافة وطرح القضايا على عكس مسارها متخذاً من نتائجها ثوابت منطقية لا تطاولها الشكوك أو تدنو منها الأباطيل، بل انها صارت ميكانيزمات تعامل واحتكاك واصطدام جعلت هذا العقل غريباً ملفوظاً في خضم تعددية الذهنيات المرعبة والمسيطرة كونياً. ولعل قضية المفاهيم والمصطلحات تعد ممثلة لمحور القضايا التي تستوجب المعالجة العاجلة إذ أنها متأصلة بالفعل في الكيان الإسلامي، من ثم فهي حائلة دون استلهام الكثير وأكثر من الكثير من تلك المعطيات الحضارية على صعيد العلوم والتقنيات والمعتقدات الفكرية والابداعات الخلاقة التي غيرت الطابع العام للحياة الانسانية. ولعل كتابات المفكر الاسلامي الشهير رشدي فكار على اختلافها وتنويعاتها قد قدمت في مجملها منظومة موضوعية من الاجابات الرصينة على تلك التساؤلات التاريخية المرتبطة بمنهجية الإسلام وتأزمات العالم الإسلامي ووضعية الإنسان المعاصر وشرطيات النهضة، بل قدمت نظرية حوارية إسلامية رفيعة تتسق وضرورات فك شِفرات القطيعة الثقافية والفكرية والعقائدية مع الغرب. وكان ضمن التجليات الرائدة ذلك المعجم الموسوعي العالمي لعلم الاجتماع وعلم النفس والانثروبولوجيا الإجتماعية الذي استهدف تكريس مبدأ عالمية الثقافة وعدم احتكارها وتقوقعها في حضارة معينة، حين أفرد لثقافة العالم العربي والإسلامي أو ما يسمى مجازاً العالم الثالث مساحات هائلة تستوعب رموز الفكر العربي والإسلامي وإعلامه في الحقل الاجتماعي تأكيداً واعلاء لمبدأ الحوار البناء مع الغرب، بل ومع كل الحضارات، ذلك اضافة إلى محاولة استقصاء مصطلحات تلك العلوم الحديثة في الثقافة العربية والإسلامية، بل وأصدائها في التراث العربي عموماً، ثم تقديم الشواهد والاستدلالات على المراحل التطورية لعمر هذه المصطلحات والمفاهيم وكيف يمكن لعالمنا الإسلامي معايشة المصطلحات المعاصرة وتوظيفها حتى لا تظل الذاكرة التاريخية ملتصقة بالمعنى والجوهر القديم. ولقد جاء وضع هذا المعجم الموسوعي على أساس لغات ثلاث تأسيساً على تلك الضرورة الفورية للجامعات والمراكز البحثية العربية والإسلامية وكذلك تماشياً واتساقاً مع حقيقة انتماء هذه العلوم، لأن اللغتين الفرنسية والانكليزية تجسدان الممرات الرئيسية للوصول الى المعرفة الحديثة في علم الاجتماع وعلم النفس والانثروبولوجيا الاجتماعية، إذ ظل الفرنسيون والأنغلو ساكسون منذ التأسيس الحديث لهذه العلوم في طليعة الأعلام المجتهدين والممثلين الفاعلين للاتجاهات الرئيسية، وقد خضعت كل الثقافات المعاصرة لتأثيرهما بطرق عدة، الا أن هذه الوضعية ينتظر لها أن تتغير بفضل الأهمية المتزايدة لهذه العلوم داخل عالمنا الإسلامي. كما ان هذا المعجم جاء معتمداً على خلفيات تراثية كبرى من المعاجم ودوائر المعارف والموسوعات على غرار: معجم «جاكيمان» و «سيلغمان» قبل منتصف القرن الماضي الى جانب معاجم وموسوعات كل من «بيرون»، «بودن»، «سيلس»، «وليمز» ، «ميكشيلي»، «كيفليه»، «لافون»، «جيكلان»، «بوفيه- أجام» وغيرهم كثر. أما تكنيك المعجم في تناول المصطلحات فقد اعتمد على أساس وضع المصطلح المقابل بالعربية للمصطلحات الفرنسية والانكليزية، بحسب ما هو متعارف عليه في مثل هذه المعاجم، فأولاً تم اعطاء الأولوية للمقابل المتفق عليه عربياً، وان كان هناك تعدد واضح في اختيار المقابل المعادل العربي. وفي حال عدم وجود ذلك المقابل كان اللجوء إلى الاشتقاق والنحت في إطار الإبداعية الخلاقة للغة العربية، وأخيراً كان اللجوء إلى تعريب المصطلح الأجنبي شرط صلاحيته للاستئناس نطقاً وسماعاً. وعلى ذلك، إذا كانت علوم الاجتماع والنفس والأنثروبولوجيا بتفريعاتها ومداخلها في محاولة دائمة للكشف عن الحقائق الانسانية في إطار ما تطرحه من ثوابت ومعايير ونظريات، فالى أي مدى كان إقبال العالم الاسلامي على الاستفادة من هذه العلوم في دعم العنصر البشري باعتباره يمثل مفردة التخلف الأكثر بروزاً من غيرها؟ وإلى أي مدى توصلت الدراسات في العالم الإسلامي الى المقارنة بين الحقائق المبثوثة في القرآن عن الانسان باعتبارها حقائق مطلقة، وبين تلك التي أكدتها هذه العلوم باعتبارها ركيزة العلوم الانسانية؟ وهل بلغت هذه العلوم مبلغ الكشف عن كنه النفس الانسانية؟ وهل تتخذ المسار القويم لتحقيق ذلك الكشف؟ وكيف، وبعد قرون طوال، فهذه العلوم في البحث والتحليل والتفسير، تبقى عاجزة عن ان تقدم بناء منطقياً حول ما يسمى بالمكاشفة من بُعد او التخاطر كتلك الحادثة المعروفة في صدر التاريخ الاسلامي بين عمر بن الخطاب وسارية؟ وما هي الحوائل دون استكشاف معاني البصيرة؟ وهل أصبحت الكوامن والأغوار الانسانية على درجة ما من الوضوح، ام أنها لا تزال تمثل طلاسم كبرى يحال فهم مراميها؟ وهل تظل المسيرة البحثية لهذه العلوم شاهداً أبدياً على عجز الانسان عن فهم ذاته مهما استحدث من طرائق وآليات؟ وهل تظل الظاهرة الانسانية هي التحدي الاعجازي الأبدي؟ ان العالم الإسلامي لا بد من ان يظل مشغولاً منهمكاً بتلك الظاهرة الانسانية التي عالج القرآن أعماقها ومدارجها وقدم توصيفات عدة لطبيعتها وتناقضاتها يمكن ان تمثل اضافات واسهامات عربية محضة لتلك العلوم، لا سيما اذا استيقظت الذات العربية ووعت مقولة الطبيب كيل مور: «لو قرأت القرآن قبل عشرين عاماً لحصلت على جائزة نوبل قبل عشرين عاماً». * كاتب مصري