أبحرت يميناً ويساراً، وسألت من غاص في أعماق التاريخ، ومن حلّق فوق غابات الحاضر وجباله وشواطئه، قريبها وبعيدها، بحثاً عن نموذج واحد فقط لديكتاتور مستبد، تحول تلقائياً أو استجابة لدعوات شعبه في شكل سلمي هادئ، ليصبح ديموقراطياً عادلاً، يحقق لشعبه العدل والحرية، وينهض بأمته من التخلف والفقر والجهل والضعف، إلى الازدهار والرخاء والعلم والقوة... فلم أجد. في الجهة المقابلة، دونما إبحار أو غوص أو سؤال، تجد أمامك عشرات الأمثلة إن لم يكن المئات، عن نموذج قدم نفسه منقذاً ومخلصاً للشعب من ديكتاتورية من سبقه، من طريق انقلاب عسكري، أو على ظهر دبابة أميركية، بعدما ولّى زمن الدبابة الروسية، أو ليصحح مسيرة رفاق الدرب الذين حادوا عن أهداف الثورة، يتغول شيئاً فشيئاً ليمسخ ديكتاتوراً كاملاً، ويقضي بقية حياته على تلكم الهيئة حتى الممات أو القتل. في الماضي البعيد كان الله يرسل الرسل والأنبياء إلى الطواغيت، ولم نعرف أن أحداً منهم تغير حاله، وانقلب إلى حاكم عادل، فقد أرسل ابراهيم عليه السلام إلى النمرود، وأرسل موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون، وأيدهما بتسع آيات معجزات، فلم يرتدع عن طغيانه وظلمه، وظل فرعون فرعوناً طاغية متكبراً متجبراً ظالماً، حتى أغرقه الله، وأنجاه ببدنه ليكون عبرة لمن بعده، حتى صار رمزاً لكل طاغية. المهيب الركن الجديد أطاح بالمهيب الركن السابق، ليخلعه بعد أحد عشر عاماً، نائبه المهيب الركن آخر نسخة، ويجلس بعده 24 عاماً على أنفاس الشعب، لتفعس تلك الهيبة وتمحى من على وجه الأرض، ومعها هيبة العرب إلى ما شاء الله، تحت جنازير الدبابات. والأمثلة أكثر من أن تحصى، وكلها لا يخرج عن القاعدة، فالديكتاتور يبقى ديكتاتوراً حتى نهاية العمر موتاً أو قتلاً. ولكننا لا نقرأ التاريخ، وإن قرأناه لا نستوعبه، وإن استوعبناه شدّنا سراب الأمل ثانية إلى القاع، لعل طغاتنا يختلفون عن غيرهم، فيتغيرون بالنصح واللين والمعارضة السلمية. والحقيقة أن في داخل كل منا ديكتاتوراً صغيراً، لا يلبث أن ينتفش ليصبح فرعوناً عتيداً، ما لم تمنعه القوانين والدساتير غير القابلة لإعادة التفصيل في خمس دقائق، والغريب في أمر دساتيرنا أنها تبقى عشرات السنين محفوظة من كل تعديل، إلا ما يتعلق بتفصيل القياس المناسب للوريث الجديد، أو تعديل عدد دورات الرئاسة من اثنتين إلى ما لا نهاية، أو صلاحيات الرئيس التي تختزل كل الدولة في شخص سيادته. تلك حقيقة مرة، ولكن الحقيقة الأكثر مرارة، هي أن التغيير الذي تأتي به ثورة حمراء أو دبابة صفراء أو انقلاب عسكري، لا يفعل أكثر من استبدال طاغية بطاغية جديد أكثر خبرة وأشد طغياناً، فهل من سبيل لتتفتق فيه عبقريات الناس في القرن الحادي والعشرين، عن طريقة جديدة لإصلاح الطغاة، أم ستبقى الوصفة الرومانية من روما أو رومانيا أفضل ما وصل إليه العلاج لهذا الداء؟ بلال داود - سورية - بريد إلكتروني