كتبت قبل أيام مقالا بنفس العنوان عن ادعاءات الألوهية عبر التاريخ.. أشرت إلى أن معظمها يأتي من رجال ولدوا كملوك أو ينتسبون لسلالات مؤلهة أصلا.. وبمجرد أن يصاب أحدهم بمرحلة متقدمة من جنون العظمة (كفرعون مصر، ونمرود العراق، وطاغية بيونج يانج) يتقدم خطوة أبعد ويدعي وصوله لمقام العبودية.. ويخطئ من يضن أن الظاهرة قديمة أو تاريخية فقط، كونها ظهرت بصور معاصرة ومحدثة هذه الأيام.. ظهرت من خلال حكام وطغاة آمنوا بتفردهم وامتلاكهم مواهب سامية تفوق قدرات البشر.. هوسهم بأنفسهم صنع آلاف الصور والتماثيل التي تتبخر فور ذهابهم.. نرجسية وجنون عظمة أصابا هتلر ونابليون ولينين وماوتسي تونغ ومعمر القذافي وتشاوتشيسكو (دكتاتور رومانيا).. .. وبطبيعة الحال كلما بقي الطاغية في مكانه زادت نرجسيته وقناعته بتفرد كيانه.. وتزداد الطينة بلة حين ينحدر من سلالة طويلة كانت تؤله نفسها في الماضي وينظر إليها الناس على هذا الأساس كأباطرة اليابان والحبشة.. خذ كمثال (هايلا سيلاسي) آخر إمبراطور حكم أثيوبيا ويأتي من سلالة تمتد (كما يدعي بعض المؤرخين) إلى النجاشي.. كان يُدعى خلال حياته رأستفاري التي تعني الرب أو والد المسيح باللغة الأثيوبية. وكان الدستور الأثيوبي يعتبره مقدسا ومعصوما ونهائي الكلمة.. وحين غزا الايطاليون أثيوبيا عام 1934 هرب خارج البلاد ورحبت به كإله مجتمعات مسيحية كثيرة في أفريقيا في حين عرضت عليه جامياكا في الكاريبي تنصيبه ملكا عليها.. .. واليوم تخلصت أثيوبيا من أباطرتها، ولكن معظم اليابانيين مازالوا يؤمنون بأن إمبراطورهم الحالي أكيهيتو من سلالة ربانية ظهرت قبل ألفي عام (كأطول سلاله حاكمة في التاريخ).. ورغم أن والده الإمبراطور هيروهيتو تخلى عن امتيازاته الألهية بعد الحرب العالمية الثانية لايزال اليابانيون يبدأون تأريخهم مع كل إمبراطور جديد يعتقدون أنه خلق من ضوء الشمس في حين أصبح الإنجليز يعتقدون أنهم من سلالة القردة.. .. وغير بعيد عن اليابان لا يمكننا تجاهل مايحدث في كوريا الشمالية هذه الأيام.. صحيح أن كوريا الشمالية لا تملك ديانة حقيقية وتعد من الدول الملحدة رسميا، إلا أنها تحولت إلى عبادة عائلة الزعيم سونج وتعظيمها بطريقة مخجلة.. فأساطير كثيرة نسجت وأصبحت تدرس في المدارس عن القدرات العظيمة لمؤسس النظام الحالي كيم سونج (مثل قدرته على التحكم بالطقس وتهدئة الزلازل والبراكين) في حين امتلك ابنه كيم جونج موهبة التواصل مع أرواح القادة العظماء مثل ماوتسي تونج والاسكندر المقدوني وجنكيز خان.. أما الزعيم الحالي كيم يو فبالإضافة لقدرته الفذة على رؤية المستقبل ورث كل المواهب السابقة من جده ووالده بل ولم يعد يذهب للحمام وأصبح بإمكانه تحويل مسار الصواريخ بمجرد التفكير فيها (وإن كنت أرى من وجهة نظر طبية أن هذا يدعى إمساك مصحوب بجنون عظمة).. أيها السادة؛ إن كانت الادعاءات الإلهية مرحلة متقدمة من جنون العظمة، فإن التصديق بها مرحلة متقدمة من العبودية والقناعات المتوارثة..