إن تاريخ حكم العسكر في البلاد العربية تاريخ أسود ليس له مثيل في العالم ، فهؤلاء لا يشبهون أحداً ، لا يشبهون سوى أنفسهم . وليس من إنجازات لهم سوى القمع والقتل والترهيب والتعذيب ! لقد أسست حقبة الحكم العسكري في البلاد العربية التي بدأت منذ أربعينيات القرن المنصرم ، حكما ديكتاتوريا دمويا ساديا ، شرّع لحملات التعذيب والتنكيل والاغتصاب في السجون، والتجسس على الشعب وعلى كل زائر لبلادهم ، حدث ذلك في مصر على يد رجال عبدالناصر العسكري الذي كان همه الأوحد توطيد حكمه وزعامته في المنطقة ، وكذا الشأن في سورية ؛ على يد حافظ الأسد الذي قام بأهم إنجازاته القمعية عندما سيطر على مقاليد البلاد والعباد منذ انقلابه ، فقتل في عدة أيام فقط أكثر من 40 ألف مواطن في حماة وقراها وضواحيها عام 1982 ، وفي عراق صدام الذي ارتكب في العراق ما شابت لهوله الرؤوس ، أما ليبيا فقد استولى عليها دكتاتور آخر، مجرد ملازم في الجيش الليبي أطاح بنظام الملك إدريس السنوسي في سبتمبر عام 1969 ، وحكم ليبيا بالحديد والنار ، ففي مجزرة سجن أبو سليم في يونيو 1996 قتل ذلك الطاغية ما لايقل عن 1200 سجين ليبي ، وكان القذافي يهدر مليارات الدولارات على مغامراته ومؤامراته وعبثه ، تشهد على ذلك جرائمه بحق الشعب الليبي والعديد من الشعوب العربية وشعوب العالم في مختلف القارات ، فقد فجّر طائرة بان أميركان فوق قرية لوكربي البريطانية نهاية عام 1988 ، فقتل 290 مواطناً من مختلف الجنسيات ، واعترف بذلك رسميا ودفع تعويضات لعائلات الضحايا تفوق ستة مليارات دولار من ثروة الشعب الليبي . لقد طُوي جزء كبير من صفحة هؤلاء الطغاة المستبدين بعد أن أسرفوا في سحق شعوبهم وقتلهم ، وكان الاحتقان غير الظاهر على السطح ، قد بلغ ذروته ، ووصل منتهاه ، ولم يبق إلاّ الفتيل الذي يشعل الثورة ضد الحكام الطغاة ، وقد حدث ذلك في عدد من الدول العربية ضد حكامها لقد جعل ليبيا التي حكمها أكثر من أربعة عقود تعيش حالة من التخلف على أكثر من صعيد ، إضافة إلى فقر مخجل في دولة غنية عدد سكانها قليل جدا ، بينما تمتع هو وعائلته بكل مظاهر الثراء ، فلم يجرؤ أحد على الاعتراض ، وإن اعترض فمصيره الإعدام. اغتصب زين العابدين الحكم ثم ما لبث أن اتخذ النموذج المفضّل لدى العسكر العرب في إدارة البلاد ، أي نموذج القبضة البوليسية التي تتغطَّى زورا برداء الإصلاح الزائف ، فادَّعى أنه بطل التنمية الاقتصادية ، واستأجر أبواق الكذب للدعاية الرخيصة لتصنع له صورة مغايرة تماما لحقيقة ما يجري خلف الكواليس من الفساد ، والنهب ، والعبث بمقدرات الشعب التونسي ، واستعباده ، ومصادرة حقوقه ، وحرياته . ويتربع طويلا على كرسي الرئاسة ، ويغير دستور البلاد حتى يطيل عهده ، ويرضى الناس بذلك طمعا في السلامة . وقد سلط هؤلاء العسكر على دولهم أبناءهم وأقاربهم فعاثوا فيها فسادا ونهبا . أما الجيوش فقد أعدوها لحمايتهم والدفاع عنهم وسحق معارضيهم ، وخوض مغامراتهم ، فعبدالناصر أرسل جيشه إلى اليمن فخسر ما لايعدّ من أموال ورجال ويعود جيشه خائبا منهكا ، وكان ذلك سببا مباشرا لهزيمة 67 ، ومع هذا هتفت له الجماهير التي صنعته منتشية بوهم النصر، وبالجيش نفسه أبيدت أعداد كبيرة من مواطني العراق في حلبجة وغيرها ، ومواطني سورية في حماة ، فتقف الأمة مصفقة ومهللة لانتصار القائد والزعيم الملهم ضد العملاء والمندسين من أبناء شعبه. لقد كانت مصائب الحكم العسكري كارثية إلى حد بعيد ؛ حيث ساد الانهيار على النواحي الاقتصادية والسياسية والثقافية والتربوية والتعليمية ، وما خفي من هؤلاء العسكر وطريقة إدارتهم للبلاد كان أعظم ، ليس أقله الانتخابات الصورية التي تعيد انتخاب الرئيس وبنسب عالية جدا عقودا متتالية ، تكون فيها السيطرة للحزب الحاكم ، وتدير المخابرات السريّة المرتبطة بالرئيس كلَّ شيء ، فتزيّف الوعي ، وتشتري الذمم ، وتنشر الخوف لدى أفراد الشعب ، وتعبّد الجميع للزعيم ، فتضع صنمه في كلِّ مكان ، وتسبِّح بحمده في كلِّ موضع ، لتحوله إلى إله معبود ، لاشريك له ، ولا يصلح أن يحكم (العبيد) إلاّ هو ، أو بعض ذريته . وتكشف الوقائع عن أن كلّ همّ الحكام العسكر كان السيطرة على البلاد ومقدراتها وثرواتها لكي ينعموا هم وأبناؤهم وأقاربهم بحياة كريمة ورفاهية، حياة بعيدة تماماً عن حياة الناس وهمومهم وأوجاعهم وتطلعاتهم ! لكن هؤلاء الناس هم الذين يصنعون طاغيتهم بجهلهم وعجزهم وهوانهم ؛ فيظلون له عاكفين ، هاتفين لذلهم وانكسارهم ، فيتمادى في طغيانه وجبروته ، فلا يعود يرى سوى نفسه ، ولا يسمع سوى صوته ، حتى يبلغ منزلة فرعون في التجبر والطغيان والتسلط !! لم يسعَ حكم العسكر أبداً لنهضة بلدانهم ورفعتها وتنميتها ، فلم تصبح هذه الدول حين حكموها دولا منتجة لا زراعيا ولا صناعيا ، على الرغم من ثرواتها ! من الأمور التي تحيّر العقول العربية والأجنبية، تمسُّك هؤلاء العسكر بالسلطة من المهد إلى اللحد، بينما منذ ما يزيد على مائتي عام تعلمت الشعوب الأوربية والأمريكية تداول السلطة بشكل سلمي ديمقراطي . ولم يعد يكفي هؤلاء العسكر الحكم مدى الحياة ، بل اخترعوا نظاما جديدا امتدادا لحكمهم ، لا مثيل له في العالم قاطبة ، وهو الحكم الجمهوري الملكي ، إذ يموت الرئيس فيغير الدستور ليتولى ابنه الحكم من بعده إلى ما شاء الله ! وفي خضم هالة التقديس هذه ، تتعاظم سلطة القائد وألقابه تتناسل ، حتى يخيل إليه أنه سيحكم إلى الأبد ، فيصر على مواجهة سنن الطبيعة ، رافضا الإقرار بحقيقة انتهاء دوره وأفول نجمه. لايستطيع عقل بشري أن يتصور هذا التشبث بالحكم والكرسي من الحكام الطغاة ، وقد عانت تلك الشعوب من الكذب عشرات السنين عن الإصلاحات ، ووعود التغيير ، بينما الزعيم وشركاؤه يتمتَّعون بحياة الرفاه الخيالية من أكل خيرات الأمّة . في هذا السياق سقط ثلاثة من الحكام العسكر في انهيار مدوٍ وصل صداه للعالم أجمع. فهل انتهت حقبة الطغاة ؟ أو أوشكت على الانتهاء ؟ إنه وبعد التغيير ال?بير الذي حدث في تونس بإسقاط النظام هنالك ، وبعد أن حوكم الرئيس حسني مبارك في مصر، وقتل معمر القذافي ، بات العالم ?له يعي بوضوح أن عصر الح?ام الطغاة قد انتهى ، وأن الدول العربية التي حكمها العسكر أكثر من ستين عاما ، تشهد مرحلة جديدة ، من رفض للحكم القامع لشعوبها ، والكابت لحرياتهم ، الحكم المتفرد بالسلطة والقاتل للحياة السياسية . لقد طُوي جزء كبير من صفحة هؤلاء الطغاة المستبدين بعد أن أسرفوا في سحق شعوبهم وقتلهم ، وكان الاحتقان غير الظاهر على السطح ، قد بلغ ذروته ، ووصل منتهاه ، ولم يبق إلاّ الفتيل الذي يشعل الثورة ضد الحكام الطغاة ، وقد حدث ذلك في عدد من الدول العربية ضد حكامها ، فبعضهم قد قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر! تتشابه قصص الطغاة في كل زمان ومكان منذ فرعون الذي طغا وتجبر وبث الرعب في نفوس الناس : ( قال سنقتّل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنّا فوقهم قاهرون ) ! وكما تتشابه نفوس ووسائل الظالمين في كلِّ عصر ، تتشابه العواقب ، دائمًا ما تكون نهاية الطغاة العرب واحدة، يمارسون السياسات والأفكار نفسها ، ويختبئون فى حفر تخرجهم الشعوب منها، ولا يتعلم أحدهم من الآخر، لكنه لابدّ من ملاحظة أنه كلما ازداد فتك الطاغية بشعبه ، كان وضعه أصعب ، ونهايته أسوأ ! لذا فإنه بعد الإعلان عن مقتل معمر القذافي، اتجهت الأنظار إلى سورية حيث يبدو الصراع بين المعارضة ونظام الرئيس بشار الأسد هو الأكثرتعقيدا ، فقد نزل المتظاهرون السوريون إلى الشوارع في عدة بلدات ومدن سورية، هاتفين لزوال القذافي ، وقال نشطاء إنهم يأملون في أن يؤدي مقتل القذافي إلى تنشيط حركة الاحتجاج التي أظهرت دلائل على الانحسار في الأسابيع الأخيرة، في ظل الإجراءات الصارمة التي اتخذتها حكومة الأسد..